ما هي السينما؟

تصميم مقال لصفحة الثقافة للكاتب "أمير العمري"

 أمير العمري*

ما زال الكثيرون في عالمنا العربي لا يتفقون تماما على فهم ماهية السينما. وعلى الرغم من وجود الكثير من المعاهد الأكاديمية التي تقوم بتدريس السينما، سواء كمنهج دراسي أساسي أو فرعي، إلا أن فكرة معنى السينما ومغزاها والهدف منها ما زالت -على الصعيد العام في ثقافة المجتمع- أمرا غامضا وملتبسا.

ويعتقد كثير من المثقفين والمشتغلين بالفكر أن السينما فن أدنى من غيره من الفنون كالمسرح والفن التشكيلي مثلا، ولهم في هذا الاعتقاد شواهد منها أن الفيلم يعتمد أكثر على المشاعر المباشرة أي على توليد شحنة عاطفية من خلال الدراما المصورة التي يعرضها والتي تدفع المشاهدين للنظر من زاوية محددة، على العكس من المسرح الذي يرون أنه يتيح الفرصة للتأمل.

ويرى البعض أيضا أنه ليس من الممكن اعتبار السينما فنا قائما بذاته بحكم اعتمادها على غيرها من الفنون واقتباسها المستمر من المسرح أو الأدب، واعتمادها على الرسم والتصميم الفني والرقص والموسيقى والعمارة.

ومن الشواهد الداعمة لفكرة التعالي على السينما كفن أيضا، اعتماد الفيلم على "الترويج" أو الدعاية الصحفية والإعلامية عموما، وليس على النقد بمعناه العلمي الراسخ، فمعظم ما ينشر عن السينما والأفلام السينمائية في الصحافة العربية يكتبه صحفيون يسعون أساسا وراء الأخبار، وأخبار النجوم بوجه خاص، ويكتفون عادة بتلخيص القصة، ونشر بعض المعلومات "المثيرة" التي أحاطت بتصوير الفيلم.

وليس بالضرورة أن تكون حجج هؤلاء جميعها صحيحة تماما، بل ربما هي تتجاهل وجود نوع آخر من النقد المتعمق الرصين الذي يتعامل مع النص السينمائي كصور وعلاقات بصرية ودرامية، لكن مشكلته ضيق المساحات المخصصة له في الصحف التي تميل عادة إلى الابتعاد عن النقد لكي لا تخسر الإعلانات التي قد تأتيها من وراء الكتابة عن الأفلام التجارية السائدة، وأما الأفلام الفنية فتعتبرها نخبوية أي لا تأثير لها على الجمهور، أضف إلى ذلك تلك النظرة المتعالية على ثقافة الصورة التي لا تزال تصبغ رؤية العوام في المجتمعات العربية قياسيا إلى ثقافة الكلمة.

فن أم لا؟
هذه الغربة التي تواجهها السينما كان لها ما يماثلها في الغرب بما ينعكس على التنظير للسينما: هل هي فن أم ليست كذلك؟

وقد أثير الجدل منذ البدايات الأولى لرسوخ ظاهرة الفيلم الروائي الطويل تحديدا ومن مراحله الأولى، أي في عصر الفيلم الصامت.

آرنهايم كان يرى أن السينما فقدت الكثير من سحرها ورونقها بعد دخول الصوت إلى الفيلم حيث اختلط عنصران متنافران معا حسب رأيه، في حين أن بازان رأى أن السينما اكتسبت حياة جديدة بعد ظهور الواقعية الإيطالية

كان رودلف آرنهايم الألماني يدافع بقوة عن فكرة أن السينما فن يضارع غيره من الفنون. ولكنه كان يميل إلى نفي فكرة علاقته بالواقع، أي ضرورة أن يعكس صورة الواقع، بل هو يخلق واقعه الخاص.

وكان آرنهايم يعتقد أيضا أن الفيلم الصامت هو الفيلم الفني الذي يمكنه تصوير المجردات ويعتمد أساسا على تجسيد الحركة.. حركة الأشياء والأجسام داخل الصورة بل وحركة الكاميرا والحركة التي تنتج عن المونتاج.

ومفهوم آرنهايم بهذا يعد مفهوما "جماليا" خالصا. في حين أن أندريه بازان الذي كتب في الخمسينيات من القرن الماضي، كان يرى في طرحه المضاد أن أهمية الفيلم تكمن في كونه يستطيع تجسيد الواقع أو إعادة إنتاجه كما هو، ولذلك فقد أعلى بازان كثيرا من شأن مخرجي الواقعية الجديدة في إيطاليا مثل روسيلليني وفيتوريو دي سيكا.

هنا يبرز المفهوم الاجتماعي على المفهوم الجمالي، ويتم التعظيم من شأنه. كان آرنهايم يعلي من شأن المونتاج أما بازان فقد أعلى من شأن "الميزانسين" أي مكونات الصورة، وكل ما يظهر للمتفرج على الشاشة: التكوين والإضاءة وزاوية التصوير وحركة الممثلين داخل الكادر وغير ذلك.

آرنهايم كان يرى أن السينما فقدت الكثير من سحرها ورونقها بعد دخول الصوت إلى الفيلم حيث اختلط عنصران متنافران معا حسب رأيه، في حين أن بازان رأى أن السينما اكتسبت حياة جديدة بعد ظهور الواقعية الإيطالية التي أعادت خلق نبض الحياة على الشاشة. 

‪الناقد السينمائي روجر إيبرت يشاهد فيلما داخل صالة سينما‬ (أسوشيتد برس -أرشيف)
‪الناقد السينمائي روجر إيبرت يشاهد فيلما داخل صالة سينما‬ (أسوشيتد برس -أرشيف)

وسيط عاطفي
فوجئت شخصيا بأن ناقدا أميركيا كبيرا، ربما يكون الأكثر شهرة وتأثيرا في تاريخ السينما الأميركية هو روجر إيبرت -الذي توفي مؤخرا- كان يرى أن الفيلم ليس الوسيط المناسب الذي يمكن استخدامه في التعبير عن موقف عقلاني أو ثقافي بل كان يرى أن السينما "وسيط عاطفي" emotional medium.

يقول إيبرت "كنت دائما أرى أن الفيلم وسيط عاطفي وأن الأفلام لا تناسب التعبير الثقافي. إذا أردت التعبير عن موقف سياسي أو فلسفي فإن الوسيط المثالي موجود، ألا وهو الكلمة المطبوعة. فالفيلم ليس شكلا فنيا عقلانيا. عندما نشاهد فيلما فإن المخرج يقف وراء ظهورنا ويقول "انظروا هنا" و"انظروا هناك"، "اسمعوا هذا" و"اسمعوا ذاك" و"اشعروا بهذا" و"اشعروا بما أريدكم أن تشعروا به". وبالتالي فإننا نتخلى عن التحكم الواعي في ذكائنا. إننا نصبح متلصصين. ونصبح أناسا تستغرقنا القصة تماما، إذا كانت قصة مثيرة تشدنا. وهذه تجربة عاطفية تتعلق بالمشاعر".

ولعل مما يثير الدهشة في هذا الكلام الذي ورد في فيلم تسجيلي بعنوان "المدينة الداكنة" Dark City أن قائله ناقد قضى أكثر من خمسين عاما يشاهد كل أنواع الأفلام ويكتب ويتحدث عنها، بما في ذلك ما يعرف بالأفلام الفنية التي تصور رؤى مبدعيها ومنها ما يعتمد تماما على التأمل العقلاني والفلسفي مثل أي عمل فني رفيع في الفنون الأخرى.

مشكلة النقد السينمائي العربي الشائع حتى لدى من نطلق عليهم "أساتذة النقد"، أن معظمهم يعبر فقط عن انطباعاته الشخصية عما يشاهده من أفلام، ويميل هؤلاء عادة إلى المبالغة الشديدة في الحكم على الأفلام وعلى مخرجيها مع ميل واضح إلى استخدام عبارات إنشائية فخمة ولكن فارغة المعنى إذا ما وضعناها في ميزان النقد الحقيقي.

فما معنى أن يقول أحدهم عن فيلم ما، إن هذا "عمل كبير من أعمال السينما الخالصة" في حين أنه لا يحدد للقارئ ماذا يقصد بـ"السينما الخالصة"، وفي حين أنك لو نظرت إلى الفيلم جيدا لوجدته أقرب إلى ما يعرف بـ"المسرح المصور".

والمشكلة التي قد يستغرب لها القارئ هي أنه ليس من الممكن أن نتهم هذا النوع من النقاد بالمجاملة لأن الناقد كان يكتب عن فيلم لمخرج أجنبي لا يعرفه، والمخرج نفسه لا يكترث أصلا لما يكتب عنه في الصحافة العربية، وهي بالفعل إشكالية مركبة لأنه إذا كان الناقد يجامل أو ينافق فقد يكون هذا مفهوما (وليس مقبولا بالطبع) أما أن يكون ما يكتبه نابعا عن قناعة، فلا بد أن يكون هناك خطأ ما.. أليس كذلك؟
_______________

* كاتب وناقد سينمائي

المصدر : الجزيرة