"علبة الأسماء".. رواية تجسد متاهة الإنسان المغربي

غلاف رواية علبة الأسماء
الرواية تختزل مرحلة تاريخية حافلة وسمت المغرب الحديث، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار والبحث عن هوية ذاتية خاصة (الجزيرة)

إبراهيم الحجري-الدار البيضاء

يعود الشاعر محمد الأشعري لمعانقة قرائه من جديد روائيا، بعد تجربتيه الناجحتين "جنوب الروح" (1996م)، و"القوس والفراشة" (2010م) التي فازت بجائزة البوكر (2011م)، من خلال روايته "علبة الأسماء" الصادرة مؤخرا عن المركز الثقافي العربي، والتي تشكل امتدادا للرؤية في الروايتين السابقتين، سواء من حيث المناخ السردي الحافل الذي تعج به، أو من خلال ما تضطلع به من تمثيلات الإنسان المغربي في مسيرة مجازفاته "السيزيفية" عبر التاريخ، من أجل الصمود في وجه الأعاصير التي تعصف به في الزمان والمكان.

وقد استفاد الروائي في بناء عوالم هذه الرواية الضخمة (488 صفحة) من تجربته الحياتية الخصبة، وذكائه في اقتناص الأفكار وإعادة صياغة هواجس الإنسان، وتدرجه السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي اليساري من مناضل طلابي، فمسؤول نقابي، فممثل للأمة، وصولا إلى منصب وزير الثقافة، فضلا عن تراكماته في الكتابة الشعرية، حيث عاصر الأشعري سنوات الرصاص وزمن الانقلابات والتحولات السياسية، وما صاحب ذلك من حصار وتعذيب وتضييق ونفي واعتقالات وإعدام سري واختطافات، ليستيقظ الإنسان المغربي بعد كل هذه التضحيات على سيناريوهات كابوسية.

لقد كان الأشعري شاهدا على العصر، ومسهما في حركة التغيير، مما هيأ له اختزال سيرة جيل بكامله، ومعه الطموحات والأحلام والأوهام والإخفاقات والمسارات في عالم روائي شديد التقاطع والتداخل.. عالم بشري بتفاعلاته وطبقاته وسلالاته المتعاقبة، وجذوره العميقة.

مرثية فجائعية
تجسد الرواية تجربة الإنسان المغربي خلال مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وما عرفته من إجهاز على القيم الإنسانية في صراع غير متكافئ بين السلطة وشعب يريد التحرر والانطلاق. إذ يتتبع الروائي مسار هذا الإنسان المكافح، عبر أجيال وسلالات، وهو يحارب من أجل نيل حريته، والحفاظ على كيانه السياسي الموحد، مرورا بمحطة المحاولات الفاشلة لولوج بوابة الحداثة، وانتهاء بمرحلة الوعي الشقي بالخسارة وتبخر الأحلام الكبرى وضياع التضحيات الجسيمة.

كان الأشعري شاهدا على العصر، ومسهما في حركة التغيير، مما هيأ له اختزال سيرة جيل بكامله، ومعه الطموحات والأحلام والأوهام والإخفاقات

وقد كانت أهم محطة للحكي الشفيف والقاسي على الذات هي مرحلة السجن والتعذيب التي طالت -في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي لمحت إليه الرواية بـ"الرجل المهم"- المناضلين السياسيين والنقابيين، وبحكم أن الأشعري كان واحدا من هؤلاء وعايش عن قرب هذه التجربة، فقد كانت شهادته صادقة ومؤلمة. ولعل هذه الاشتباكات بين الإنسان والمكان وتقلبات الزمن السياسي هي ما جعلت الروائي يبتكر تصميما فنيا مخاتلا يشبه المتاهة، وهي لعبة "العُلب" المتداخلة، بحيث يشكل كل مكان أو شخصية علبة من العلب، وكل علبة تفضي إلى علبة في زمن شبه دائري، ومسار سردي متاهي، إذ تُقحم الفواعل في جوف المتاهة دون أن تعرف منفذا للإفلات. 

تختزل الرواية مرحلة تاريخية حافلة وسمت المغرب الحديث، وشكلت ملمحه الجديد، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار والبحث عن هوية ذاتية خاصة، وقد عرفت هذه المرحلة اشتعالا حارقا بين النخب والسلطة في عملية شد وجذب كان الإنسان المغربي ضحيتها، بالنظر إلى الفارق بين حجم الخسارات ونتائج التصالح السياسي.

ونجح الأشعري في تقديم هذا المسار الحارق في قالب سردي ساخر وملتهب ووصلة درامية فجائعية تستثمر أحاسيس الخيبة ومشاعر الألم المضاعف لإنسان قدّم كل شيء ليستيقظ في النهاية على الكوابيس الجحيمية، حيث تبكي الرواية إنسانا جُبل على المكابدة والعناء، وجيلا تبخرت مطامحه، وتندب أزمنة متقاطعة ومنفلتة، تعود قرونا إلى الوراء لتتذكر الفجائع المنحوتة في التاريخ، وتطارد -بنفس بارودي- محنة السكان الأصليين والطارئين وتحولات الزمن والمكان، من خلال التوقف عند المطامح والسير والمسارات والأفراح والأحزان، ولتحشر الكل في عُلب وعوالم متداخلة يبتغيها الروائي دراما بشرية فجائعية تستبطن السيكولوجي والسوسيولوجي، وتمزج التاريخ بالفانتازيا، والإخفاقات الفردية والجماعية في خميرة مأساة سردية تبعث على الجنون.    

‪أمينة الصيباري: الرواية تواكب قدر بلد طافح بالتحولات السياسية والتاريخية‬ (الجزيرة)
‪أمينة الصيباري: الرواية تواكب قدر بلد طافح بالتحولات السياسية والتاريخية‬ (الجزيرة)

مسارات ملعونة
تمارس الرواية حفريات في الذاكرة المعمارية لمدينة الرباط، مصورة بذلك، تحولها التراجيدي، وما يصاحب ذلك من متغيرات، وما ينجم عنه من تبدلات اجتماعية واقتصادية.

وتتوقف المعطيات الإثنوجرافية حول المكان الإطار (الرباط)، المدينة التي تمارس وظيفتها في الحكي كفاعل رئيسي من خلال التأثيرات والتأثرات المتبادلة بينها وبين الشخصيات عند المدينة القديمة ببعدها الأثري ومعمارها ذي البصمة الأندلسية العريقة، ومحفزاتها "النوستالجية" المُحيلة على زمن منفلت يحضُر في الرواية بوصفه ملاذا مُمجدا (القرن 17) تهرب إليه ذاكرة الرواية جُفولا من حاضر ناكص.

يستعيد الراوي هذا الزمن الأندلسي من خلال شخصيتي "شيمرات" العجوز حارسة المدينة القديمة والكنز المفقود "آخر اسم ثوراتي حملته مسلمة في مدينة الموريسكيينو الأورناشيروس"، وعشيقها "بيدرو" الموريسكي الأخير سيد الطرب الغرناطي، وهما الرمزان الأخيران لـ"مسلمي الرباط" وضياع الهوية الأندلسية.

ويظل هذان العجوزان مرتبطين بالماضي الأندلسي، يعيشان ذاك الزمن بكل تفاصيله غير مكترثين بما يجري حولهما من متغيرات وأحداث.

وتقول الكاتبة أمينة الصيباري في هذا الصدد "تعرف هندسة الجمال والخراب مظاهر أخرى في "لعبة الأسماء"، حين تواكب قدر بلد طافح بالتحولات السياسية والتاريخية، بلد يشهد أفول حضارة الأندلس المتربعة على العدوتين الأثيرتين لأبي رقراق لتشير إلى أندلس أخرى على المقاس تأتي للوجود بقرار سيادي، يتحكم في هندستها أجانب كما هو الحال في جل المعالم المهمة في البلد".

وتدور أغلب أحداث الرواية في فضاء مغلق (منزل شيمرات، والمدينة القديمة، وشقة ثريا، والسجن)، وكل من تطلع إلى الأفق المفتوح يكون مصيره الموت دلالة على زمن الحصارات، فلم يبق منفذ إلى المطلق سوى تلك اللحظات الاستيهامية التي تخلقها السينما.

وينعكس هذا الانغلاق المكاني على الوعاء الزمني للسرد الذي يظل دائريا يقبض على الأنفاس التي لا تنعتق إلا بالقفز عبر الذاكرة إلى الماضي، ليكون مرتعا خصبا لتصالح متوهم مع الذات والهوية.

كما ينخرط الزمن في دورة مفرغة عبر الأسماء والعلب والأمكنة، صانعا تراجيديا الإنسان والفضاء، حيث تحشر المصائر في العُلب محكمة الإغلاق، وتظل معلقة هناك إلى الأبد.

المصدر : الجزيرة