أبو شايب: أفتش عن أب لأنام

غلاف ديوان "ظل الليل" للشاعر زهير أبو شايب

غلاف ديوان "ظل الليل" للشاعر زهير أبو شايب (الجزيرة نت)

محمود منير-عمّان

بعد غياب دام أربعة عشر عامًا، يصدر الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب ديوانه الرابع "ظل الليل"، عن دار الأهلية، منحازًا للتكثيف ومواصلاً اشتغاله على الإيقاع، إذ يُؤثث ليله بـ"التساؤلات والتأملات" في جوهر الأشياء، ويسكنه بالحلم الذي يشبه حد التماهي.

"بلغة جسدية تلذعها الغواية وطفولة البدايات، ويؤججها توّحش الجسد أو براءته، تُقبل علينا قصيدة أبو شايب يانعة ملتاعة تخلط الحجر بالحنين، والصمت بلذة الهذيان"، يكتب الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق على الغلاف الخلفي للديوان.

ويضيف العلاّق "قصيدة أبو شايب تقف نقيضًا لكل شعر صاخب استطرادي مهذار، فهي إصغاء لأكثر الخلجات خفاء، لهشاشة الكائن، لتفتح الرغبات، للغروب الوشيك، لحماقة الطين أو تفاقم الذكرى، وهي احتفاء حميم بالأنثى حين تقود الكون إلى صباه والجسد إلى عذابه الرشيق كالأمل".

الشاعر زهير أبو شايب (الجزيرة نت- أرشيف)
الشاعر زهير أبو شايب (الجزيرة نت- أرشيف)

تفسير الظلام
أبو شايب، المولود في قرية دير الغصون بالضفة الغربية عام 1958، يقّلب الليل في ديوانه الجديد ليكتبه طبقات فوق طبقات، بوصفه جغرافيا شاسعة لـ"للبحث والتأمل"، مقاربا إياه بالمعرفة التي كلما تزوّد بها المرء اتسعت حيرته وغربته!

بعد دواوينه الثلاثة: جغرافيا الريح والأسئلة، دفتر الأحوال والمقامات، وسيرة العشب، ومسرحية "بياض أعمى"، إضافة لكتاب نقدي بعنوان "ثمرة الجوز القاسية"، يعود أبو شايب بالشعر لمواجهة نفسه والكون، في ليل يُقيم فيه ظلاّ وذاتا:

من أنا؟؟

كل هذا الليل لي وحدي

ووحدي،

في مكان ما من الماضي

أفتش عن أب

لأنام.

يتسع ليل أبو شايب لانتظار طويل من أجل بلاد ضائعة، أو حقيقة تائهة، أو "ليموت مثل النوم"، ولأن انتظاره بلا حدود، فإنه يستحضر مفرداته بصبر وأناة، من أجل مزيدٍ من التنقيب في "العتمة"، وفق إيقاع يهوي به وراء الليل عميقًا لـ"يُعيد تفسير الظلام".

زهير أبو شايب أحد القلة من الشعراء المعاصرين الذين يملكون تلك الموهبة النادرة في التكثيف وحذف النافل وتجنب الحشو، بالإضافة إلى تمكنّه الأنيق من تطويع الإيقاع ليتقمص الإحساس والفكرة والدلالة

طاهر رياض

"

تطويع الإيقاع
يقول الشاعر طاهر رياض، أحد أصدقائه المقربين، للجزيرة نت "في هذه المجموعة يكرس زهير أبو شايب تجربته الشعرية التي أسس لها في مجموعاته السابقة معمقًا تميزها وفرادتها لغةً وإيقاعاتٍ وصورًا شعرية تشبهه وحده".

ويؤكد رياض أن "زهير أحد القلة من الشعراء المعاصرين الذين يملكون تلك الموهبة النادرة في التكثيف وحذف النافل وتجنب الحشو، بالإضافة إلى تمكنّه الأنيق من تطويع الإيقاع ليتقمص الإحساس والفكرة والدلالة، الأمر الذي منح قصيدته تلك النكهة العذبة الخاصة، ووضعه في مصاف الشعراء ذوي البصمات المؤثرة في حركة الشعر العربي المعاصر".

من جانبه يتحدث أبو شايب، الذي يحمل بكالوريوس في اللغة العربية، عن تجربته الشعرية الجديدة بالقول "هي قصائد مشغولة بالليل كثيمة مركزية بوصف الليل زمنًا للوجدان العربي الراهن. تأخر صدورها على الأقل خمس سنوات ربما بسبب الإحباط والشعور بلا جدوى النشر في هذا العالم المشغول بعبادة الطاغوت".

أبو شايب الذي يرفض "عالم الطواغيت"، يمضي بالليل واضحًا وجليًّا نحو معرفة "أصفى" لذاته ودواخله ورغباته التي تظهر عاريةً كالظُّلمة، حتى يغدو كلّه ليلاً:

فجأة

وأنا أرفع الليل من جسدي

لأفسر ظلي

أوقفني في الفراغ

وقال لي:

ابق هنا

قرب نفسك

كلّك ليل

وعند هذه اللحظة، يبدو الشاعر قد وصل إلى فكرة أساسية حول الليل، الذي اختاره مناخًا وسببًا لكتابته، فتتكشف العتمة عن رغبة وعالم من الأساطير التي تحاك عن امرأة تعرف الشاعر أكثر مما يعرف نفسه.

تأخر زهير أبو شايب سنين في البحث عن عنوان مناسب لديوانه الجديد، وهو يعلل ذلك بقوله "ربما بسبب شخصيتي الوسواسية، وحرصي على أن أكون مختلفًا وجديدًا فيما أكتب

عنوان تأخر
تأخر زهير أبو شايب سنين في البحث عن عنوان مناسب لديوانه الجديد، وهو يعلل ذلك بقوله "ربما بسبب شخصيتي الوسواسية، وحرصي على أن أكون مختلفًا وجديدًا فيما أكتب، إذ ليس سرًّا أنني هدرت أكثر من خمس سنين على الأقل في البحث عن عنوان ملائم لهذا الديوان".

وقد سمّاه في البداية "سبب الليل"، لكن الشاعر السوري نوري الجراح نبهّه إلى أن ثمة ديوانًا لشاعر آخر يحمل هذا العنوان، فغيّر العنوان.

ويروي أبو شايب، في تصريح للجزيرة نت، أن محمود درويش كلما التقاه كان يسأله: "ماذا فعلت بديوانك؟"، وكان يجيبه "إنني ما زلت أبحث عن عنوان له"، وتكرر الأمر ذاته حتى ليلة سفر درويش الأخيرة إلى الولايات المتحدة، لذلك يثير حزنه الشديد أن الديوان صدر في غياب محمود درويش الذي أهداه إياه.

بحثاً عن ليل يكفي لأحلام الشاعر، فإن الحلم اتخذ أشكالاً عدة متقصدة، فهو تعبير عن رغبات مكبوتة نحو امرأة غائبة، وبلاد لا تُطال، والحلم وسيلة لتحمل طول الليل وثقله، وهو الدليل على الوجود، وهو يشير كذلك إلى التخييل وفعل الكتابة في ليل طويل ودائم وباقٍ.

وفي الليل، يستفيق الشاعر على يتمه، وهو يعتقد أن أمه تركت له ضوءًا ليبحث عن نفسه وعنها في الظلمة، وهو في مرات أخرى يتذكر والده، وهو بذلك يجاور حنينه وفقده لوالديه بتلك الرغبة الشديدة في الكشف عن المعنى كاملاً:

ليأت الليل من كل الجهات إذن

ليأت بكامل المعنى إليّ

وكامل الإرباك.

الليل الذي يُكمل المعنى والإرباك في آن، هو خيار الشاعر غير متخلٍ عن لغة تُجّمل الليل وتنسج منه حكايات لا تنتهي، وتُحيل أسئلة الوجود في ثناياه وطبقاته، التي هي أساسًا دواخل الشاعر وحالاته يسقطها على عالم الليل ويُلبسها عتمة وجمالاً.

تعدد حالاته وكشفه عن جوهرها دفعا الشاعر أن يتقمص ظل الليل، ليعرف نفسه أكثر، ويشف عن قلق لا ينتهي لكنه يفضي نحو دلالات متعددة ورؤيا واسعة وعبارة مكثفة ونص متوهج يختمه المقطع الآتي:

ثمة ليل آخر لن أتذكر شيئًا عنه

ولن يتذكرني

اقتلوني

لكي تحزنوا مرة -أو أقل- عليّ

اقتلوني

اقتلوني

لكي لا تكونوا بلا شهداء.

المصدر : الجزيرة