العقل الفلسطيني.. من التحرر إلى التكفير

فيصل دراج - عنوان المقال: الثقافة الفلسطينية من التحرير إلى التكفير


د. فيصل دراج

ما معنى أن يُقْدم إنسان فلسطيني في قطاع غزة، على إعدام إنسان غريب، إيطاليًّا كان أو ينتمي إلى جنسية أخرى؟ وما معنى أن يقوم فلسطيني بإعدام إنسان أجنبي ينصر القضية الفلسطينية؟

تستدعي الإجابة عن السؤال الأول صفة: الجريمة، وصفة أخرى عنوانها: كره الغرباء. تستحق الصفتان الشجب والتنديد، ذلك أن إعدام إنسان بريء مخالفة للقوانين والأعراف الإنسانية، مثلما أن في إعدام الغريب سخرية فادحة، لأن الفلسطينيين ذاقوا معنى الغربة في أشكالها المختلفة، وعرفوا بسببها مجازر كثيرة، أشهرها: مجزرة صبرا وشاتيلا. تختبر هذه الجريمة الذاكرة الفلسطينية وتلعنها، لأنها بدّدت دروسًا عمرها أكثر من ستين عاما.

أما الإجابة عن السؤال الثاني فتدور حول نفسها طويلاً، قبل أن تعطف الفضيحة على الجريمة، لأن المضطهدين، والفلسطينيون شعب مضطهد، يحتاجون إلى المناصرة ويبحثون عنها، كي يحموا أنفسهم قليلاً، وكي يواجهوا عدوًّا شرسًَا يحرقهم بنيران متعددة الأدوات. إنها الفضيحة التي تطلق النار على معنى العدالة، فالإيطالي المدافع عن القضية الفلسطينية عادل ونزيه ويحتفي بالقيم الإنسانية، وتطلق النار على "العقل الفلسطيني" الذي تساقط في سراديب الهزيمة، وفي طريق الانتقال من المعقول إلى اللامعقول.

ومهما تكن حدود العقل الإجرامي، الذي أعدم الناشط الإيطالي "أريغوني"، فردًا كان أم جماعة، فإن في الجريمة-الفضيحة ما يأمر بتأمل مسار القضية الفلسطينية التي بدت، ذات يوم، منفتحة على العالم كله، قبل أن تحاصر ذاتها في "إمارة" و"إدارة". فلم يهبط قاتلو "الناشط الإيطالي" من القمر، ولم يتم تصديرهم بالقوة إلى أرض القطاع. فلولا اللامعقول الفلسطيني، الدائر منذ سنين، لما ظهرت هذه الجريمة، اللامعقولة، ولولا تساقط "العقل السياسي الفلسطيني"، لما أقدم فلسطينيون على إعدام إنسان جاء لينصر حقوقهم.

انتسب الفلسطينيون، ذات مرة إلى العروبة، معتبرين الإسلام إرثا حضاريا يلازمها، لكنهم انتسبوا، أولاً، إلى التحرر، الذي يفضي إلى عروبة جديدة، وإلى إسلام يحض على وحدة المضطهدين في هذا العالم. انتموا إلى حلم الثورة، الذي يبدأ بالإنسان الثائر على الظلم والاحتلال والتبعية. كانوا بعيدين آنذاك، عن زمن مهزوم، يلقي بالإنسان العاقل جانبا

طليعة الكفاح
في بداية سبعينيات القرن الماضي، بل بعد ظهور منظمة التحرير عام 1965، أعطى المشروع الوطني الفلسطيني ذاته صفة متفائلة: طليعة الكفاح العربي، موحدا بغبطة كبرى بين ثلاث كلمات: التحرر، الطليعة، العروبة. انتسب الفلسطينيون، آنذاك، أو نسبوا إلى ذاتهم: الإنسان العربي الجديد، الذي عليه أن يسلّم قيادته إلى "الفدائي" الذي جاء ليمسح هزيمة 1967، أو إلى الإنسان الفلسطيني الجديد، بلغة القائد الراحل "أبو إياد"، حيث "الجديد" هو ما استولدته الإرادة، وما يقطع مع تقاليد بالية منعت ظهور الإنسان المتحرّر الذي يحمل معه مجيء الشمس.

انتسب الفلسطينيون ذات مرة إلى العروبة، معتبرين الإسلام إرثا حضاريا يلازمها، لكنهم انتسبوا أولاً إلى التحرر، الذي يفضي إلى عروبة جديدة، وإلى إسلام يحض على وحدة المضطهدين في هذا العالم. انتموا في الحالين إلى الثورة، التي تعيد تأويل العروبة والإسلام بمنظور جديد، بل انتموا إلى حلم الثورة، الذي يبدأ بالإنسان الثائر على الظلم والاحتلال والتبعية. كانوا بعيدين آنذاك عن زمن مهزوم، يلقي بالإنسان العاقل جانبا، ويعطي مكانه لشكل من "الدَرْوَشة"، يفصل بين الفلسطينيين والمؤمنين، كما لو كان اللاجئون الفلسطينيون يدافعون عن "الخلافة"، لا عن حقهم البسيط في إقامة إنسانية على الأرض.

ومثلما رغب الفلسطينيون في أن يكونوا "طليعة عربية" أرادوا أن يكونوا، في زمن حرب فيتنام وكفاح شعوب الهند الصينية، في أوائل السبعينيات الماضية ومنتصفها، أن يكونوا جزءًا من حركة التحرّر العالمية، قبل أن ينغلق "بعضهم" في سراديب تكفيرية، ويقتل ناشطًا إيطاليًّا عرف بدعمه لـ"فلسطين"، كما صرّحت به أمه، حزينة، آسفة، مذهولة. ولعل ذلك الزمن الذي نادى بدولة واحدة للفلسطينيين واليهود، هو الذي أطلق أصواتًا يهودية (غير تكفيرية) تدعم الحق الفلسطيني، مثل المحامية اليهودية فليسيا لانجر، التي وضعت كتاب "بأم عيني"، وغادرت إسرائيل إلى ألمانيا. وإسحاق شاحاك العالم اليهودي المعادي للعنصرية والصهيونية.

حاصر العقل العقلاني الفلسطيني الصاعد العنصرية الصهيونية، وتعاطف مع المضطهدين الذين تعاطفوا معه، قبل أن يصل اللاعقل الفلسطيني إلى "الذبح على الهوية"، تاركًا أنصاره يقولون: "من ليس من ديننا لا نريده"، و"من ليس من ديننا يحطّ عليه القصاص العادل"، معتبرين أن فلسطين شأن خاص من شؤون "الأيدي المتوضئة". والسؤال هنا: ماذا يفعل أنصار "القصاص العادل"، الذي لا يقبل الإسلام العادل المتسامح به، بجيش واسع من أنصار القضية يدافع عن الحق ولا يحتكم إلى الأديان؟ هل وصول عالم اللغة الأميركي الشهير ناحوم تشومسكي، المعادي للصهيونية، إلى غزة يدفع إلى إعدامه لأنه يهودي؟ وهل كان بإمكان المسيحي الفلسطيني إدوارد سعيد أن يدخل غزة ويخرج منها سالمًا؟ وماذا يفعل هؤلاء وغيرهم بالفيلسوف الماركسي الشهير سلوفوي جيجك النصير الحاسم لكل قضايا "المهزومين" في العالم، بما في ذلك قضية الشعب الفلسطيني؟

أين ذهب العقل الفلسطيني الذي جعل من إعدام الإيطالي العادل أمرًا متاحًا؟ ذهب حيث أراد له الفلسطينيون، الذين يمارسون التنافس الفقير لا السياسة، أن يذهب. فهناك طرف يتخندق وراء شروط تعجيزية، مرتاحًا إلى الشعارات والاتهام والحسابات الصغيرة، وهناك طرف عاجز فقد تأثيره على الفلسطينيين لأنه فقد مصداقيته

التخندق والهزيمة
إنه التخندق وراء جدران الهزيمة، الذي نقل القضية الفلسطينية من فضاء التحرّر الواسع إلى سراديب التكفير. وفي الأمر أكثر من هزيمة ومأساة، ذلك أن كفاح الفلسطينيين من جهة، والجرائم الصهيونية المتوالدة من جهة أخرى، حوّلت القضية الفلسطينية إلى: قضية كونية، كما قال الفيلسوف الفرنسي الشهير إيتيان باليبار الذي يمثل موقف مجموعة كبيرة من فلاسفة اليسار الفرنسيين، مثل الراحل جيل ديلوز، وآلان بادو وجاك رنسيير، وهم الأكثر شهرة في المشهد الفلسفي الأوروبي اليوم. كيف يمكن التعامل، من وجهة نظر تكفيرية، مع هؤلاء؟ وهل من الواجب أن يعتنقوا الإسلام كي يرضى الفلسطينيون عنهم، ويقبلوا بكلامهم المندد بالصهيونية في الجامعات والصحف والكتب؟ إنه تداعي المعنى والإساءة المطلقة إلى كفاح الفلسطينيين، تلك الإساءة الواسعة، المروّعة، التي لا تستطيع أن تحققها أجهزة الإعلام الصهيونية، إلا بمشقة وكثير من المشقة، دون أن تدرك هدفها تمامًا.

وإذا كانت الوجوه التدميرية الصادرة عن الجريمة-الفضيحة واضحة وجلية الوضوح فما هي أسبابها؟ ذلك أن الإسهاب في الحديث عن الخطأ والخطيئة، لا معنى له إن لم يفتش عن أسبابهما. لا يمكن هذه المرة اتهام "النفوذ الإعلامي الصهيوني"، فقد أعدم الإيطالي المناضل في غزة فلسطينيون، ولا يمكن تفسير ما حدث بـ"المؤامرة الخارجية". والواضح أن للأسلوب التكفيري أدواته وأسلوبه، اللذين مرا بالعراق قبل الوصول إلى غزة الفلسطينية، مع فرق جوهري منطقي، ذلك أن الفلسطينيين يسعون إلى تحرير أرضهم قبل أي شيء آخر. ربما يحق لهم أن يختاروا شكل الحكم الرشيد الذي يريدون، ولكن بعد تحرير الأرض والإنسان، لا في زمن يبدو فيه الطرفان الفلسطينيان الحاكمان مرتهنين لصدف وعوامل كثيرة.

سأل الإيطالي ميكيافيلي في كتابه الشهير "الأمير": هل يستطيع الأمير أن يحكم إمارة غائبة؟ كان يتحدّث عن إيطاليا مجزأة، لكنها هناك، وكان يتحدّث عن أرض غير محتلة تحتاج إلى توحيد. أما المنطق الذي يعرف المعادلات المريضة ويترك الفكر السياسي للعقلاء، فيقلب المعادلة مرتين: مرة أولى وهو يؤسس "الإمارة" فوق أرض فلسطينية غير محرّرة، تقصفها الطائرات الإسرائيلية حين تشاء، ومرة ثانية حين يطبق "الشرع الوهمي" على مناضلين من أجل الحرية يطالبون بتحرر الفلسطينيين وبالظفر بحقوقهم العادلة.

يتكشّف غياب السياسة، فلسطينيًّا، في غياب الاعتراف المتبادل، حيث "الأيدي المتوضئة" ترفض مصافحة الأيدي الكافرة، الأمر الذي يعني أن هناك سياسة مؤمنة وأخرى نقيض لها، وأنّ على "الحق الفلسطيني" أن ينتظر لحظة سعيدة تتراجع فيها "الحرب الأيديولوجية"

العقل الفلسطيني
أين ذهب العقل الفلسطيني الذي جعل من إعدام الإيطالي العادل أمرًا متاحًا؟ ذهب حيث أراد له الفلسطينيون، الذين يمارسون التنافس الفقير لا السياسة، أن يذهب. فهناك طرف يتخندق وراء شروط تعجيزية، مرتاحًا إلى الشعارات والاتهام والحسابات الصغيرة، وهناك طرف عاجز فقد تأثيره على الفلسطينيين لأنه فقد مصداقيته. ومن بين المزايدة اللامسؤولة والعجز المبين جاء "هؤلاء" الفلسطينيون العجيبون الذين يعدمون "غريبًا" ينصر القضية الفلسطينية. والأمر كله، في مأساويته العالية، قائم في ثلاثة أبعاد: تبدّد السياسة على المستوى الرسمي، ما هو هذا "الرسمي"؟ والاستخفاف بالمصلحة الوطنية، والتراجع المهين لمفهوم التحرّر الوطني.

يتكشّف غياب السياسة، فلسطينيًّا في غياب الاعتراف المتبادل، حيث "الأيدي المتوضئة" ترفض مصافحة الأيدي الكافرة، الأمر الذي يعني أن هناك سياسة مؤمنة وأخرى نقيض لها، وأنّ على "الحق الفلسطيني" أن ينتظر لحظة سعيدة تتراجع فيها "الحرب الأيديولوجية". ولكن لماذا يتفق الإسرائيليون على أهدافهم بمعزل عن قضايا الكفر والإيمان؟ أما الحديث عن المصلحة الوطنية فيحيل على "فتنة السلطة"، التي تضع الفئوي فوق الجماعي، والتنظيمي، إن كان هناك تنظيم، فوق أرض فلسطين التاريخية، التي انقرضت أطرافها بما فيه الكفاية. والأخير هو التحرر، الذي كان يبدأ في زمن مضى من الإنسان الفلسطيني، من حيث هو، قبل أن يلتف بعباءة تحاكم الصدور ولا تعترف بالعقول.

ما هو المتبقي؟ والجواب لا صعوبة فيه، يأتي عن الوضع الفلسطيني العاري قبل الكتب والنظريات، قائلاً بأمرين: تجزئة المجزوء، فبعد كل تنظيم يأتي غيره، وبعد كل "مكتب سياسي" فرح بتصريحاته، يجيء "مكتب سياسي" آخر، يكرّر ما قاله سابقًا ويدع التفرقة الفلسطينية في مكانها. بعد غياب السياسة تأتي "الشريعة"، حيث وعي الدين من مستوى العقل الذي يتعامل معه. كان جمال الدين الأفغاني يقول: إن صورة الإسلام من صورة المسلمين. والمسلمون الفلسطينيون الذين تريدهم "المكاتب السياسية" يواجهون الفرد، وهو شرط العمل السياسي، بالجماعة التي تمتثل إلى مسؤولها الأكبر، ويجابهون التنوير بمقتضيات "الخلافة"، ملقين على العقل الحداثي نارًا حارقة، ومطلقين النار على الموقف الأممي، المتعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يبدو لهم، جيشًا من الكفّار لا يحق له أن يطأ أرضًا مقدسة، فإن تجرّأ وجاء إليها، حاصره "المؤمنون" وأنزلوا به العقاب.

والمتبقي أكثر هي: المأساة. ما هي صورة قضية عادلة تنزل قصاصًا غير عادل بمناصريها؟ وهل يحتاج الفلسطينيون إلى من يدعم قضيتهم الوطنية، أم أنهم بحاجة إلى من يعلّمهم "مبادئ الشريعة الكاذبة"؟ يقول الإيطالي غرامشي: على الطرف المقاتل الضعيف أن يرمّم ضعفه بالمعرفة والقيم والمثل العالية، في مواجهة آخر يفوقه قوة وإمكانيات. يبدو أن الوضع الفلسطيني، الذي انتقل من فضاء التحرّر الإنساني الواسع إلى سراديب التكفير، يقول بغير ذلك. فهو لا يحتاج إلى الثقافة والسياسة والحداثة، بل يكتفي بقيم ظلامية تحكم على الإيطالي العادل بالموت.

المصدر : الجزيرة