الطنطاوي.. مصري في بلاط القياصرة

الشيخ محمد عياد الطنطاوي: تقرير الطيب زين مصري في بلاط القياصرة 1/12/2011

رسم للشيخ محمد عياد الطنطاوي (الجزيرة نت)
 
الطيب الزين-موسكو
 
يُعد الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي (1810-1861) أحد نماذج التفاعل الثقافي والحضاري بين روسيا والعالم العربي في القرن التاسع عشر، حيث أمضى عشرين عاماً في روسيا أسهم فيها بعلمه وبحوثه وحظي بالاحترام والتقدير في أوساط النبلاء والبلاط القيصري، وخلد اسمه في تاريخ الاستعراب الروسي.
 
أكمل دراسته بالأزهر، وكان عالما واسع الاطلاع، ضليعا في معرفة القرآن والفقه ومتبحرا في اللغة العربية عارفا بدقائق الأدب العربي قديمه وحديثه، كما أنه جامع للمخطوطات وشاعر، جمع بين صفات علمية وأدبية ودينية متنوعة ويتقن عدة لغات، الروسية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية.
 
معلم المستشرقين
بدأ الطنطاوي تدريس اللغة العربية وآدابها للأجانب، فعمل في المدرسة الإنجليزية في القاهرة، ونتيجة للحركة العلمية بمصر في عهد محمد علي باشا واتجاهه لجذب العقول الأوروبية للعمل بمختلف الوظائف بدأت تفد إلى مصر مجموعات من المستشرقين في مختلف المجالات.
 
ولحاجتهم لتعلم العربية، بدأت علاقة الشيخ الطنطاوي بمجموعه من المستشرقين أشهرهم الفرنسي فرنيل صاحب "الرسائل في تاريخ العرب قبل الإسلام" والفرنسي بيرون (طبيب بالقصر العيني) وله كتاب حول علم الخيل وأنسابها، والألماني فايل مؤرخ الخلافة ثم مدرس الآداب الشرقية في هايدلبرغ، وكذلك الإنجليزي إدوارد لين مترجم كتاب "ألف ليلة وليلة".
 
وكان من بين تلاميذه أيضا من المستشرقين الشباب روسيان، هما "موخين" و"فرين" اللذان أثرا في قرار الطنطاوي بالرحيل إلى روسيا،  كما يقول هو عن ذلك "إن طلبهما كان أول دافع لسفري إلى روسيا".
 
وكان معلم اللغة العربية بالقسم التعليمي التابع لوزارة الخارجية الروسية قد ترك عمله، فكلف وزير الخارجية الروسي قنصله العام في الإسكندرية بالبحث عن معلم مناسب من علماء العرب، فوقع اختيار القنصل علي الشيخ الطنطاوي الذي حثه محمد علي باشا والي مصرعلى تعلم اللغة الروسية وإتقانها.
 
بلاط القياصرة
وصل الطنطاوي إلى سانت بطرسبرغ في مايو/ أيار عام 1840 وبعد وصوله بشهر واحد إلى العاصمة الروسية في عهد القيصر نيكولاي الأول (1825-1855) عين أستاذاً للغة العربية في القسم التعليمي بالدائرة الآسيوية لوزارة الخارجية الروسية، واختير أيضاً برتبة مستشار دولة وبوظيفة مشرف على الاحتفالات الملكية، وأول عمل له كان إلقاء المحاضرات للمتدربين الذين سيلتحقون بالسلك الدبلوماسي ومجال الترجمة في بلدان المشرق.
 
وكان الطنطاوي يقوم بمراسلة القناصلة الروس في الخارج ويعد لهم اقتباسات من الأرشيف، ويترجم الرسائل والمذكرات والمراسلات والأوراق الرسمية الموجهة إلى ملوك المشرق والردود المرسلة إلى وزارة الخارجية الروسية.
 
وبجانب عمله في الوزارة عمل أستاذاً بكلية اللغات الشرقية بجامعة سانت بطرسبرغ، وظل يعمل في التدريس خمسة عشر عاما لم يغادر فيها روسيا منذ قدومه إليها إلا مرة واحدة عام 1844.
 
جمع الطنطاوي في تدريسه بين الطرق العملية والنظرية، وتخللت محاضراته في القواعد ترجمات لمقاطع من أهم المؤلفات التاريخية لابن خلدون ومقامات الحريري ومعلقات الشعر الجاهلي ومؤلفات الصوفيين وأشعار أبي العلاء المعري، إضافة إلى الخطوط الشرقية، وقراءة المخطوطات، والمحادثة باللغة العربية.
 

قبر الشيخ الطنطاوي في ضاحية بولكوفو بالقرب من سانت بطرسبرغ (الجزيرة نت)
قبر الشيخ الطنطاوي في ضاحية بولكوفو بالقرب من سانت بطرسبرغ (الجزيرة نت)

وبالرغم من كثرة الواجبات الدراسية وصعوبتها، تميز الشيخ الطنطاوي بأسلوبه الشيق والجذاب وخاصة عندما يتحدث باللهجة المصرية، وشكل ذلك قاعدة لتأسيس معرفة عميقة عن ثقافة العرب وتاريخهم ودينهم الإسلامي في وجدان الشعب الروسي.

 
وتقديراً لجهوده الكبيرة وإخلاصه في عمله وبناء على ترشيح وزارة الخارجية، صدر مرسوم إمبراطوري بمنح مستشار الدولة الشيخ الطنطاوي وسام القديسة آنا من الدرجة الثالثة مع السيوف والأقواس، وكلفت أكاديمية الفنون الجميلة بعمل لوحة فنية تجسد صورة الشيخ رسمها الفنان مارتينو.
 
كما نال عددًا من الألقاب والأوسمة منها المكرمة القيصرية عام 1850 لجهوده في التدريس بجامعة بطرسبرغ، وميدالية من ملك فرتمبرغ على قصيدة له باللغة العربية، وخاتم مرصّع بالجواهر من ولي العهد القيصري شكرًا على جهوده في تزيين الغرفة التركية في قصر تسارسكي سيلو.
 
تحفة الأذكياء
وللطنطاوي العديد من المؤلفات والكتب مثل "أحسن النخب في معرفة لسان العرب" كتبه بالفرنسية وأكسبه شهرة واسعة في أوروبا و"ترجمة تاريخ روسيا الصغير" لأوسترالوف وقاموس عربي فرنسي طبع بقازان إضافة إلى مجموعة الحكايات و ملاحظات من تاريخ الخلافة والشرق الإسلامي، وقواعد اللغة العربية (بالروسية) ومجموعة أمثال عربية مترجمة للروسية وغيرها.
 
وأهم مؤلفاته كتاب "تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا" الذي كتبه عام 1850، وسرد فيه رحلته إلى روسيا، وقد وجد في ديباجة مقدمة الرحلة ما يفيد أنها أُهديت للسلطان العثماني عبد المجيد، والمخطوط محفوظ في مكتبة جامعة إسطنبول، وقام المغفور له إن شاء الله الدكتور محمد عيسى صالحية بجامعة اليرموك الأردنية بإصداره والتقديم له.
 
قسم الشيخ عياد كتابه إلى ثلاثة فصول تناول في الفصل الأول رحلته من مصر إلى روسيا ومنشأ الروس، أما الفصل الثاني فتعلق بتاريخ بطرسبرغ الطبوغرافي والإثني، فكان دراسة تاريخية جغرافية جيولوجية، كما تحدث عن حياة بطرس الأكبر وإصلاحاته ودوره في نهضة روسيا وتقدمها في المجالات العسكرية والسياسية، وختم الكتاب بفصل أرخ فيه لعادات الروس وأخلاقهم وملابسهم ودينهم وعاداتهم الاجتماعية، وفي نهاية الفصل تناول اللغة الروسية وقواعدها وكيفية الترجمة منها وإليها.
 
قيمة علمية
ويرى باحثون أن أهمية ما خطه الطنطاوي في كتابه "تحفة الأذكياء" تأتي من كونها المادة العلمية الرئيسية الثانية في التراث العربي التي تناولت بلاد الروس وأرخت لحياتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية بعد رسالة ابن فضلان الشهيرة عام 921 م، باستثناء الإشارات التي وردت متفرقة عن حياة الروس في بعض كتب المؤرخين العرب.
 
وثمن الباحثون رحلة الطنطاوي إلى روسيا وعدوها شاهداُ على أثر الفكر العربي في التأثير على حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، إضافة إلى قيمتها الأدبية وتعرضها للعديد من القضايا اللغوية وتعريفها بحال اللغة العربية والمصطلحات التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
 
وفي سبتمبر/ أيلول 1855أ ُصيب الطنطاوي بشلل في أطرافه السفلي ولم يعد قادراُ على العمل في الدائرة الآسيوية واقتصر عمله على التدريس الجامعي، واعترافا منها بدوره الفاعل في الخدمة بالخارجية لم تستعجل الوزارة بالبحث عن بديل له كيلا يفقد امتيازات التقاعد التي يستحقها نتيجة خدمته نحو عشرين سنة في مؤسسات الدولة.
 
وفي عام 1860 وبعد تفاقم مرضه أعلنت الوزارة عن حاجتها لبديل عنه، وفي نفس العام شغل مكانه الأستاذ السوري سليم نوفل.
 
وفي 27 أكتوبر/ تشرين الأول 1861 وافته المنية ودفن بمقابر المسلمين في ضاحية بولكوفو بالقرب من سانت بطرسبرغ، ويدخل قبر الشيخ الطنطاوي في عداد الآثار التاريخية والثقافية في روسيا والتي تعتبر مصانة من قبل الدولة.
 
وكان العلامة أحمد تيمور باشا أول من تنبه إلى أهمية الطنطاوي في علم الاستشراق، ومن ثم كتب عنه شيخ المستشرقين الروس أغناطوس كراتشوفسكي كتاباُ عام 1930 ينبض بالمحبة والعاطفة المشوبة بالإعجاب والحزن مثل قوله "فيا لها من زهرة نادرة تلك الشخصية التي تلألأت في روسيا".
 
وتخليداُ لذكرى الطنطاوي، أقامت جامعة سانت بطرسبرغ العام الماضي منتدى علمياُ إحياء للذكري المئوية الثانية لمولده، تناول المؤتمرون فيه حياة الشيخ وأعماله وقضايا الاستعراب والعلاقات العلمية والثقافية بين روسيا والعالم العربي بمشاركة واسعة من جامعات أوروبية وعربية وتركية وآسيوية.
 
وقد ترك الطنطاوي أكثر من مائة وخمسين مخطوطة هدية للجامعة، وتبنت كلية اللغات الشرقية مشروعاُ لإصدارها إلكترونياً بعد تصنيفها وفهرستها لتكون متاحة للجميع على الشبكة العنكبوتية.

المصدر : الجزيرة