ابن رشد آخر المشائين بالعدوة الشمالية.. حاضر بيننا

ابن رشد
 
ثمانية قرون مرت على رحيل الظاهرة المتكلم الفقيه والشاعر الطبيب والرياضي الفلكي الموسوعي أبي الوليد محمد بن رشد، الذي قدم للمكتبة العربية والعالمية خلاصة آرائه ومقولاته، التي مازالت تدرس حتى الآن في كبرى الجامعات العالمية وتثير من وقت لآخر شرر النقد والدراسة.
 
لقد كان ابن رشد (1126- 1198م) قمة من قمم العلم في العدوة الشمالية وآخر فيلسوف مشائي عرفته الأندلس في زمن ازدهار قرطبة يتجلى ذلك في ما تركه من نتاج للحضارة والفكر وفي شروحه على مؤلفات أرسطو التي نال بها الحظوة العلمية والمكانة المعرفية واستحق بها لقب الشارح الأكبر بين جميع علماء المشرق والمغرب, مبينا نظرياته ومفصلا منطقه وموضحا مكامن القوة والضعف.
 
لكن كيف أثر مذهبه دون غيره في المغرب رغم قوة حضور التيار الفقهي البيروقراطي؟.
 
لعل ممارسة الفلسفة –فيما كان يسمى آنذاك-  بالمغرب الأقصى بدأت امتدادا لازدهار الفكر المعرفي عند المشارقة في عهد العباسيين, ورغم اختلاف المنطقتين وتباعدهما حدثت تحولات اجتماعية وسياسية أدت إلى تراجع الفكر الفلسفي في المشرق حيث ظل أغلب المشارقة -وحتى بعض من علماء الأندلس- يوصد باب الاجتهاد خاصة في التفكير والجدل مؤمنين بالإختلاف بين العقل والنقل مبتعدين عن أي رأي مبتكر ربما يزيح حدود التعارض بين الشريعة والحكمة.
 
من هنا بدأت بواكير المشاريع الفكرية الرشدية تتحرك لإزاحة الحجب بين الشريعة والحكمة ليؤلف أهم كتبه وهو "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" و"تهافت التهافت " و"الكشف عن مناهج الأدلة".
 
يقول ابن رشد عن هذا التوجه المنهجي الفكري الذي تبناه "يقوم دين الفيلسوف الخاص على دراسة ما هو كائن لأن أرفع عبادة يمكن أن يعبد الله بها تقوم على معرفة ما صنع, لما يؤدي إليه هذا من معرفتنا إياه على حقيقتها كلها, وهذا هو أصلح الأعمال عند الله, وذلك مع كون أخس الأعمال هو أن ينسب إلى الضلال والزهو والباطل من يرد إلى هذه العبادة التي هي أكرم العبادات ومن يعبده بهذا الدين الذي هو خير الأديان".
 
وقد توصل ابن رشد بعد مناقشة طويلة لهذه الإشكالية الفكرية في كتبه إلى نقاط نجملها في الآتي:
 
أولا: أن الفرق الإسلامية المتنوعة لم تحز الحقيقة المطلقة, إذن لا يمكن إلزام الفيلسوف باتباع أي من هذه الفرق.
 
ثانيا: أن الله يأمر بالبحث عن الحقيقة بالعلم والفيلسوف وحده يفهم الدين بالحقيقة.
 
ثالثا: أن الفلسفة هي أعلى غايات طبيعة الإنسان وهي درجة قل من يستطيع بلوغها من الناس.
 
وتكاد هذه النقاط الثلاث تكون أهم مرتكزات الرشدية التي كثر خصومها وأنصارها لما خلفته من وعي فكري, كما لايجب أن ننسى أن  كل قارئ لمؤلفات ابن رشد يلمس بأنه رجل دين، فقد كتب في أحد مؤلفاته أن "أي شخص يدرس علم التشريح سوف يزداد ولاؤه وإيمانه بقدرة الله ووحـدانيته" كما ظهرت اللمسة الدينية وولعه بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة في أعماله الفلسفية إذ كان يستشهد بها في دعم وجهات نظره في قضايا متعددة.
 
مؤلفاته:
لقد ألف صاحبنا في شتى العلوم، ففي الطب ألف "كتاب الكليات في الطب" الذي كتبه قبل العام 1162م، وترجمه إلى اللاتينية شارحا فيه الجوانب المتنوعة للطب، في التشخيص والمعالجة ومنع انتشار الأوبئة. كما ألف في الفلك بحثا عن حركة الفضاء وقد نسب هنري درابر "عالم فلك أميركي" وصف الشمس إلى ابن رشد، وقام بتلخيص المجسطي (وهو كتاب شهير في الفلك لبطليموس).
 
وتمثل الشروحات الثلاثة لكتب أرسطو التي لم تعرف إلا بعد ترجمتها إلى العربية وهي (الجامع الأصغر) و(التلخيص) و(التفسير) أهم إنتاجه الفلسفي بالإضافة إلى شرح "مدينة أفلاطون الفاضلة" و"رسالة حول أنواع الحمى" و"علم المنطق" للفارابي.
 
غير أنه لم يبق من كتب هذا العالم التي قررت على الطلاب في جامعة باريس وجامعات غربية أخرى، ودرست في جامعة مكسيكو حتى العام 1831م بعد ظهور العلوم التجريبية الحديثة لم يبق منها سوى 78 كتابا بينما فقد كثير من العناوين.
 
وربما يكون انهيار التفكير الفلسفي النقدي في العالم العربي منذ القرن الثالث عشر انتصارا للغزالي صاحب "تهافت الفلاسفة" على ابن رشد صاحب "تهافت التهافت" كما يقول المفكر ستيفان فلد.
 
غير أنه مهما يكن الأمر فلو أن ابن رشد سئل آنذاك – يضيف فلد- عما إذا كان سيفقد هويته من خلال اطلاعه على كتابات أرسطو الوثني والأفكار الوافدة فمن المؤكد أنه ما كان ليفهم هذا السؤال كما نفهمه الآن ويطلق عليه بعضنا خطورة الفكر الوافد. لقد كان ابن رشد صاحب مناعة منهجية ومنطقية لا يعرف الخوف ولا الوجل من سموم الأفكار مهما كانت متخمة برؤية الآخر.
______________
المصدر : الجزيرة