لماذا تحقق الدراما السياسية تفاعلا كبيرا في الشارع العراقي؟

بعض الفنانين والمنتجين أصبحوا يستخدمون رسائل غير مباشرة للإشارة للوضع الحالي؛ يمكن فهمها من دون الخوض في تفاصيلها، لأن مفهوم الحرية ما يزال مقيدا وغير واضح المعالم.

شكلت السياسة حضورا واضحا في الدراما العراقية خلال السنوات الأخيرة
السياسة شكلت حضورا واضحا في الدراما العراقية خلال السنوات الأخيرة (الجزيرة)

بغداد- تعثرت مسيرة الدراما العراقية كثيرا بعد عام 2003، لكنها شهدت انتعاشا نسبيا في السنوات الأخيرة، حيث تولى القطاع الخاص من قنوات وشركات فنية إنتاج مسلسلات لقيت كثيرا من الإقبال والتجاوب داخل العراق.

إلا أن كثيرا من هذه الأعمال طغى عليها الجانب السياسي، وباتت قصص الصراع على السلطة والفساد المالي والإداري الذي يتحكم بمفاصل الدولة مادة خصبة لإنتاج أعمال تحاكي هذا الواقع أو تنتقده بشدة.

وقد عرضت القنوات العراقية في رمضان المنصرم عددا من المسلسلات ذات الطابع السياسي؛ تناول بعضها أحداث احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 المناهضة للفساد، فيما سلط البعض الآخر منها الضوء على المال السياسي وتحكمه في القرار الحكومي، وتنازع الأحزاب والقوى المتنفذة للسيطرة على مراكز القوة والسلطة في البلاد.

لم تغب الدراما الاجتماعية عن الشاشة العراقية بعد "ملل" البعض من السياسة
الدراما الاجتماعية لم تغب عن الشاشة العراقية بعد "ملل" البعض من السياسة (الجزيرة)

ومن أبرز الأعمال التي كانت السياسة محورا أساسيا فيها مسلسل "وطن"، والذي تناول قصة أحد المحتجين وتعرضه لملاحقة من بعض الجهات المناهضة لهذا الحراك، ومسلسل "الدولة العميقة" الذي يحكي عن قصص الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وعلاقته برجال الأحزاب، وتغلغل المال السياسي في مفاصل الحكم داخل العراق، فيما رصد مسلسل "ما مات وطن"، حالات تحكي عن العلاقة بين المواطن والسياسيين ووعود السلطة خلال الحملات الانتخابية.

رولا عادل: السياسة تشغل جانبا كبيرا من تفكير العراقيين وهو ما جعل المسلسلات السياسية تحقق تفاعلا في الشارع
رولا عادل: السياسة تشغل جانبا كبيرا من تفكير العراقيين وحواراتهم اليومية (الجزيرة)

تفاعل جماهيري

وتقول الفنانة رولا عادل التي لعبت أحد أدوار البطولة في مسلسل "وطن" إن هذا الدور قرّبها كثيرا للمجتمع العراقي، عندما مثلت دور زوجة بطل المسلسل المحتج ضد الأوضاع العامة في البلاد، بكل ما حمله الدور من غضب وحزن وفرح ودلال؛ من خلال علاقة البطل مع زوجته، والتي عكست جانبا إنسانيا مليئا بالحب والحنان؛ خلافا لدوره مع من يراه خصوما للوطن؛ على حد قولها.

وتضيف رولا للجزيرة نت أن السياسة تشغل جانبا كبيرا من تفكير العراقيين وحواراتهم اليومية، التي تتناول الفساد وتأثيره على الحياة العامة، وهو ما جعل المسلسل يحقق تفاعلا كبيرا في الشارع العراقي، خاصة مع التقنيات الحديثة في تصويره وإخراجه، و"ما ضمه من مشاهد أكشن ورومانسية وخيال، مما جعل المشاهد يتفاعل معه بشكل كبير وينتظر عرضه يوميا".

وتلفت إلى أن المنافسة بين الأعمال العراقية المختلفة هذا الموسم ستدفع باتجاه إنتاج أغزر وأكثر قوة ورصانة، من ناحية النصوص والسيناريو والإنتاج والإخراج، بالإضافة إلى ظهور وجوه جديدة ستكون أكثر قبولا وتأثيرا؛ داخل العراق وخارجه في السنوات القادمة.

حيدر النعيمي: معظم المسلسلات السياسية تقف خلفها أجندات معينة ويراد منها "الابتزاز السياسي"
النعيمي: معظم المسلسلات السياسية تقف خلفها أجندات معينة ويراد منها "الابتزاز" (الجزيرة)

سقف الحرية و"الأجندات"

لكن ما يقال عن ارتفاع سقف الحرية في تناول السياسة والشأن العام في العراق ليس أمرا متفقا عليه، فقد شهدت السنوات الأخيرة حالات اعتداء ودعاوى قضائية ووقفات احتجاج ضد فنانين أو مسلسلات، اتهمت بالإساءة لجهات معينة أو "تشويه صورة" بعض الشخصيات، مما جعل الكتاب والمنتجين والمؤسسات التي تنتج أعمالا درامية "تسير فوق حقل من الألغام"، وفق تعبير الناقد الفني حيدر النعيمي.

ويرى النعيمي أن الواقع العراقي مليء بالأحداث السياسية والأمنية التي تجعله مادة دسمة لبناء قصص تعالج دراميا، لكن معظم هذه المسلسلات "تقف خلفها أجندات معينة من صاحب القناة أو مالك المؤسسة، ويراد منها الابتزاز السياسي؛ بتسليط الضوء على بعض خصوم هذه المؤسسة، حتى يذعن صاحب الحزب أو المال لشروط المؤسسة ويتعامل معها ماديا، كي يكفوا عن تناوله أو استهدافه في الأخبار والدراما".

ويشير النعيمي إلى أن العراقيين شاهدوا أعمالا درامية محلية قبل 2003 تناولت هشاشة المؤسسة الأمنية وتمكن المجرمين من الانتصار عليها، وخاصة في مسلسل "ذئاب الليل"، وظهرت أعمال تحدثت عن تجنيد العراقيين كجواسيس، فضلا عن موضوع الفقر الشديد الذي آذى العراقيين خلال فترة الحصار، وهذه خطوط حمراء تم تناولها.

أما بعد 2003 فقد توهم الكثيرون أن سقف الحرية ارتفع؛ إلا أن الأعمال الجديدة باتت تتحفظ كثيرا حول انتقاد رجال الدين، ووصل الأمر إلى التخوف من استخدام الأزياء ذات البعد المذهبي كالأسود والأبيض.

كما أن تسليط الضوء على شخصية أي شيخ عشيرة أو ضابط أو عنصر أمني يظهر في الدراما؛ يمكن أن يثير كثيرا من القلاقل وردود الفعل العنيفة؛ باعتبارها "إهانة لهذه الشخصيات"، فأصبحت الخطوط الحمراء كثيرة، وهذا أفرغ هذه الحرية من محتواها، على حد قول النعيمي.

حكمت البيضاني: العديد من المؤلفين والمنتجين باتوا يفضلون عدم الخوض في تفاصيل السياسة خوفا من تهديدات محتملة
البيضاني: العديد من المؤلفين والمنتجين يفضلون عدم الخوض في تفاصيل السياسة خوفا من التهديدات (الجزيرة)

محاكم وتهديدات

وفي السنوات الأربع الماضية ازدادت المخاطر التي يتعرض لها الممثلون والعاملون في الحقل الفني ردا على بعض الأعمال ذات الطابع السياسي، وكثرت حالات اللجوء إلى المحاكم أو التهديدات التي تصل للفنانين وأصحاب القنوات وشركات الإنتاج الفني.

ويسلط الأكاديمي والمخرج حكمت البيضاني الضوء على مشكلة يعانيها العديد من الفنانين في العراق اليوم، حيث إنهم يضطرون أحيانا لمواجهة مخاطر كثيرة؛ بمعزل عن القناة أو الجهة المنتجة.

ويضيف البيضاني للجزيرة نت أن العديد من المؤلفين والمنتجين باتوا يفضلون عدم الخوض في تفاصيل الأعمال السياسية التي يقدمونها خوفا من تهديدات محتملة مبنية على اتهام البعض للجهات المنتجة باستهداف الساسة والقوى الحزبية، وهو ما دفع بالكثير من القنوات للتوجه نحو الأعمال ذات الطابع الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى أن الشارع بات أكثر تقبلا وتفاعلا معها، بعد حالة ملل عامة من السياسة انتابت الكثيرين.

ولفت البيضاني إلى أن الفنانين والمنتجين أصبحوا يستخدمون أحيانا رسائل غير مباشرة للإشارة للوضع الحالي؛ يمكن فهمها من دون الخوض في تفاصيلها، لأن مفهوم الحرية ما يزال مقيدا وغير واضح المعالم، وفق تعبيره.

المصدر : الجزيرة