تصميمات المعماري المصري حسن فتحي.. عمارة الفقراء في مواجهة الحداثة

ظهرت تصميمات حسن فتحي لتكون توجها مضادا للحداثة، ولكن بعد مرور مدة زمنية تحولت هذه العمارة إلى طراز.

نموذج من تصميمات حسن فتحي المعمارية التقطته كاميرا الفنانة هانا كولينز (الجزيرة)

"حسن فتحي.. ضد التيار"، عنوان المعرض المقام حاليا في "البيت العربي" بالعاصمة الإسبانية مدريد، والذي يستعيد تجربة أحد أهم المعماريين الذي أثروا في العمارة العربية منذ الأربعينيات وحتى نهاية القرن العشرين، وظل مشروعه -من حيث الفكرة والتطبيق- مثيرا للأسئلة والجدل إلى اليوم.

يضمّ المعرض المقام حتى 16 مايو/أيار المقبل، صورا فوتوغرافية وتخطيطات ومخططات معمارية وكتبا ألفها المعماري نفسه، وأخرى كتبت عنه، ولوحات للفنان الأرمني المصري شانت أفديسيان (1951-2018) الذي توجّه إلى الفن الإسلامي وزخرفاته في أعماله بتأثير من فتحي بعد أن التقاه عام 1980.

كذلك يعرض "البيت العربي" عمل "فيديو آرت" للفنانة البريطانية هانا كولينز، التي سافرت لزيارة "القرنة الجديدة" عام 2018، القرية التي انتهى فتحي من بنائها عام 1949 غرب مدينة الأقصر في مصر، بغية استيعاب المهجّرين من المقابر الفرعونية بالبر الغربي، وضمّت 70 منزلا إلى جانب المدرسة والمسجد والمسرح.

وقد وظّف فتحي في بناء القرية تقاليد معمارية عرفها ساكنو المناطق الصحراوية، وأخرى من التراث المعماري النوبي، لجأ فيها إلى الطوب والطين والرمال المختلطة بالقش وقش الأرز والقمح، لتكون مواد بناء رخيصة توفر عزلا حراريا كبيرا.

المهندس المعماري المصري حسن فتحي (مواقع التواصل)

في "القرنة الجديدة" التقطت كولينز صورا بكاميرا رقمية، وقامت بتسجيل أصوات حية من المكان، كانت هي أساس عمل الفيديو الذي يستغرق 20 دقيقة. تقول الفنانة في مقابلة مع الجزيرة نت "أنا مهتمة بشكل خاص بالعمارة والحلول البيئية، وقد فكرت كثيرا في حسن فتحي وأنا أبني بيتا في الصحراء جنوب إسبانيا، وأوظف بعض أفكاره. وحين كنت في القرنة أدركت أن بإمكاني زيارة قرية باريس الجديدة التي بناها فتحي، وتمكن فيها من خفض الحرارة داخل البيوت إلى 20 درجة. أردت أن أرى بنفسي نماذج مشاريعه على أرض الواقع وأن أسجل حياتها اليوم، وإلى ماذا تستجيب هذه الأماكن اليوم، وما هو النظام المحيط بها كلها".

وجدت الفنانة هذه الأماكن بعيدة عن الخدمات مقفرة ومخذولة، فصوّرت الزوايا والجدران والأرضيات وحالة المكان والضوء في النهار والفجر والبيوت في منتصف الليل والمسجد والمسرح، الأماكن التي تصفها بأنها مدن مصغرة مرمية في الصحراء، لم يجر استغلالها أو الاستفادة منها بأي شكل.

تصميمات معمارية للمهندس حسن فتحي (مواقع التواصل)

بحسب كولينز فإن المعرفة بمشروع فتحي على نطاق واسع عالميا متواضعة، معلقة "أظن أن غياب المعرفة بهذه الأفكار يحدّ من أن يكون لها تأثير"، فهي ترى مثلا أن هذه العمارة يمكن أن تكون حلا اليوم للمهاجرين الذين يقطعون المنطقة التي تعيش فيها جنوب إسبانيا، وتوضح "يأتي الكثير من المهاجرين إلى إسبانيا ويقطعون الصحراء، ومن يصل منهم يعيش في ظروف سيئة جدا، إنهم يعيشون تقريبا على لا شيء. قمت بعمل هذا الفيديو لعله يلفت النظر إلى أن مشروع فتحي الممكن لإيواء هؤلاء المهاجرين في أماكن مناسبة".

عُرض فيديو كولينز الذي عنونته "سأصنع أغنية وأغنيها على المسرح"، من قبل في سان فرانسيسكو وبرشلونة ومدريد وغيرها من المدن الأوروبية، ولم يسبق أن قُدّم في أي مدينة عربية، وهو ما تتطلع إليه الفنانة قائلة "يمكن تخيل تاريخ مختلف للشرق الأوسط لو كانت فكرة فتحي قد لقيت من يتجاوب معها. حين زرت القرنة الجديدة استغربت لماذا لم تكن اليوتوبيا التي فكر بها مؤثرة، هل كان حظه سيئا؟".

ولكن ما الذي حدث فعلا لأفكار المعماري حسن فتحي؟ وما التحولات التي تعرضت لها؟ نسأل المعماري والمخطط الحضري الأردني رائد أرناؤوط، وهو مؤلف كتاب "الاستشراق في العمارة العربية"، والذي يقول في مقابلة مع الجزيرة نت "كان لحسن فتحي السبق في التعامل مع العمارة التراثية قبل أن تبدأ حركة العمارة الإسلامية في العالم العربي التي انتشرت في السبعينيات ووصلت أوجها في التسعينيات. أهمية أعماله أنها بدأت تتعامل مع التراث من منطلق بيئي ومعماري، إلى جانب تأثيرات من العمارة التقليدية في مصر ومن التراث الإسلامي فيها، خاصة العمارة المملوكية".

كان لفتحي -بحسب أرناؤوط- "دور كبير في التعامل مع العمارة الخاصة بالفقراء، منطلقا من أن البيئات الفقيرة في مصر تحتاج إلى عمارة تتعامل مع المناخ والمواد الطبيعية، لإيجاد عمارة يشارك فيها المجتمع المحلي في البناء وتكون منسجمة مع محيطها".

ويتابع "في كتابات فتحي، نجده يركز على البيئة والمجتمع المحلي والتراث، وأعماله التي شهدت زخما كبيرا في الأربعينيات كان لها تأثير كبير على الإنتاج المعماري في العالم العربي لاحقا"، لافتا إلى أن "فتحي لم يلق الدعم الحقيقي إلّا حين التفتت الجمعيات والهيئات الدولية الغربية إلى عمله، فالتقدير الأول الحقيقي له كان من الغرب".

البيئات الفقيرة في مصر تحتاج إلى عمارة تتعامل مع المناخ والمواد الطبيعية في المجتمع المحلي (الجزيرة)

ويتوقف أرناؤوط عند تقييم تجربة فتحي بصورتها المتكاملة، فيوضح أن عمل المعماري "ظهر كأنه توجه مضاد للحداثة، ولكن في الوقت نفسه بعد مرور فترة زمنية تحولت هذه العمارة إلى طراز، وبسبب غرابتها وبسبب توجهات المدن العربية إلى إيجاد هوية عمرانية وعمارة مختلفة، بدأ التوجه إلى ما يسمى بالعمارة الإسلامية. ولم يعد عنوان العمارة البيئية أو عمارة الفقراء -وهي العنوان الأهم- الدافع الحقيقي وراء ما تم إنتاجه لاحقا".

يذكر أرناؤوط عملين، مثالا على التحول عند فتحي: الأول "بيت ناصيف" في جدة الذي صممه فتحي عام 1973، ويقول "هو سكن للأثرياء، فبالتالي لم تعد مسألة عمارة فقراء أو عمارة البيئة المحلية، بل إنها عمارة تمثل طرازا مملوكيا يعاد إنتاجه برغبة صاحب العمل". أما "قرية دار السلام" في نيومكسيكو التي صممها فتحي عام 1980، فيعتبرها أرناؤوط مثالا آخر فقدت فيه العمارة التي فكر فيها صاحبها توجهها الأصلي، ويقول "تحول الفكر المعماري لفتحي من عمارة البيئة والفقراء المرتبطة بالتراث إلى عمارة مرتبطة بالأغنياء والهيئات على يد فتحي نفسه، ثم تحولت إلى ستايل (طراز) على يد معماريين آخرين، منهم من حافظ على أصالتها ومنهم من حولها إلى مشاريع سياحية، فهذا هو الطراز المرغوب فيه عند السياح".

أما انعكاسات تجربة فتحي كما يراها أرناؤوط على العمارة العربية، فتظهر في "التغير الذي حدث للتوجه العمراني وتأثر به بعض المعماريين، منهم عبد الواحد الوكيل، وبعض أعمال راسم بدران في فترة التسعينيات وآخرين، ولم يكن هذا تقليدا لفتحي ولكن توجها إلى التراث".

قراءة عمل فتحي -بحسب المعماري الأردني- "لا بد أن تكون ضمن هذه الرؤية، هناك مرحلة الفكر المرتبط بالبيئة والتراث والفقراء، ثم حولها بنفسه إلى أسلوب خاص وعمارة أغنياء لا علاقة لها بعمارة البيئة المرتبطة بالمكان، ومن ثم تحولت إلى طراز معماري".

ويختم أرناؤوط بقوله "لا أعتقد أن هذه المدرسة أخذت حقها واستمرت بنفس النضج الفكري الذي بدأت به، لأنها تحولت إلى أشكال واستهلاك سياحي ونظرة رومانسية للبحث عن الهوية التي فقدها العالم العربي بعد نهاية الاستعمار وبحث عنها في أشكال مختلفة منها العودة إلى العمارة الإسلامية، ولكنه كان توجها شكليا في معظم حالاته ولم يتحول إلى فكر ومعرفة ضمن المجتمع لإنتاج عمارة يبنيها المجتمع نفسه كما كان يتصور فتحي".

المصدر : الجزيرة