معرض دينا الغريب.. لوحات تعيد لك ذكريات الأماكن في القاهرة

معرض القاهرة للفنانة دينا الغريب
أعمال المعرض تنتمي إلى مفهوم التسطيح مع غياب شبه كامل للمنحنيات ومساحات من الألوان الصريحة غير المتداخلة (الجزيرة)

سارة عابدين-القاهرة

في معرضها القائم حاليا بغاليري مجدوب في العاصمة المصرية بعنوان "القاهرة"، تقدم الفنانة التشكيلية دينا الغريب مجموعة لوحات بتقنية الكولاج، باستخدام خامات مختلفة مثل قطع النسيج ذات الملامس المتباينة، والأوراق والكرتون، وقصاصات من الجرائد اليومية، والعلامات التجارية، وأغطية المشروبات الغازية، وتذاكر المواصلات، في تداخل مع الرسم والخطوط، بتكوينات تعيدنا إلى أجواء وسط القاهرة.

وفن الكولاج هو تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فني جديد، وقد بدأ في أوائل القرن العشرين باجتذاب العديد من الفنانين عبر مقاربات إبداعية متعددة. وعرفت جماليات تصميماته الحداثية منذ بدايات التغيرات الكبرى في الفن الحديث، خصوصا منذ عام 1910.

‪الربط بين عناصر متفرقة وترتيبها بشكل مبتكر جعل المشاهد يتعامل مع اللوحات بشكل أقرب لقطع الأحجية‬ (الجزيرة)
‪الربط بين عناصر متفرقة وترتيبها بشكل مبتكر جعل المشاهد يتعامل مع اللوحات بشكل أقرب لقطع الأحجية‬ (الجزيرة)

التجريب والاستكشاف 
حاولت الفنانة دينا الغريب معالجة السطح بشكل تجريدي تتداخل فيه فكرة التسطيح مع فكرة المكونات ثلاثية الأبعاد، بشكل يفاجئ المتفرج في كل لوحة، ويتحدى المفاهيم الكلاسيكية التي ما زالت تجتذب قطاعا كبيرا من جماهير الفن.

المشاهد للوحات الغريب ربما يتساءل عن طريقة عملها أو تفكيرها في اللوحات، ويبدو أنها دمجت أفكارها الواعية عن التكوين، مع بعض المصادفات التي تنتج عن اللعب أو التجريب بالخامات المختلفة على سطح اللوحة دون تخطيط مسبق، بعناصر لا يلتفت لها أحد عندما تكون عناصر وحيدة، لتربط بينها بروابط فنية وتكوينات جديدة ونتائج غير متوقعة وأهداف استكشافية، بعيدا عن الممارسات الفنية المحافظة.

ذلك الربط بين عناصر متفرقة وترتيبها بشكل مبتكر، جعل المشاهد يتعامل مع اللوحات بشكل أقرب لقطع الأحجية (puzzle) التي يمكن إعادة تركيبها مرات متعددة، بأشكال مختلفة تظهر الإمكانات المختلفة للفن في إعادة تشكيل العالم وإعادة تخيله ورفض وهْم الصورة المثالية الوحيدة.

يظهر بوضوح في لوحات دينا الغريب عناصر موجودة مسبقا، أي أنها لم تعد تشكيلها ولكن استخدمتها كما هي، وهو ما يطلق عليه "فن الأشياء الموجودة بالفعل" أو (FOUND OBJECT ART)، الذي ظهر مع بدايات الدادائية والسريالية وكان أول من فاجأ عالم الفن به هو الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب بعمله الفني النافورة، ولا تستخدم الفنانة تلك العناصر كعمل فني منفصل لكنها تمزجها بفن الكولاج، لتفكك الحدود التي تفصل بين الفنون الجميلة والحياة اليومية وتخبرنا أن الفن يمكن أن ينتج من أي شيء.

‪الفنانة‬ استخدمت (الجزيرة)
‪الفنانة‬ استخدمت (الجزيرة)

الفن كتوثيق للحياة اليومية
كان التوثيق دائما أحد وظائف الفن، قبل اختراع التصوير الفوتوغرافي، وما زالت تلك المهمة من مهمات الفن، لكن بشكل أكثر حرية وتجريبية، وتعتبر لوحات الغريب مثالا على ذلك التوثيق البصري للحياة اليومية البسيطة، وتلك الفكرة أحد أهم ثيمات المعرض، لأن المشاهد عندما يلتقي مع تلك القصاصات والخامات تذهب ذاكرته إلى الأماكن التي اعتاد رؤية تلك العناصر بها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للفنانة نفسها العودة إلى اللوحات وعناصرها لاستعادة ذكريات الأماكن والأزمنة التي اقتطعت فيها تلك العناصر من سياقها، لتنتقل إلى حياة جديدة على سطح اللوحة، وتوثق اللحظات العابرة، والذكريات البسيطة التي تتلاشى في غياهب الذاكرة دون أن يلتفت لها الشخص نفسه، في ظل صخب الحياة، والسرعة التي يحدث بها كل شيء.

‪اللوحات التي تقدم مفاهيم بصرية مطلقة تعتبر أكثر إدراكا لمفاهيم الفن الحديثة‬ (الجزيرة)
‪اللوحات التي تقدم مفاهيم بصرية مطلقة تعتبر أكثر إدراكا لمفاهيم الفن الحديثة‬ (الجزيرة)

التسطيح في لوحات دينا الغريب
تنتمي أعمال المعرض بشكل كبير إلى مفهوم التسطيح، مع غياب شبه كامل للمنحنيات ومساحات من الألوان الصريحة غير المتداخلة، ما يجعل اللوحات على صلة كبيرة بالحياة الحديثة، فالفنانة لم تنشغل بمفاهيم السرد والعمق ولكنها عملت على إعادة بناء السطح، بحيث لم تعد اللوحة نافذة وهمية ينظر الجمهور من خلالها، ولكنها بناء فردي يتجدد مع كل سطح جديد.

ولذلك نجد اللوحات التي تتضمن محتوى سرديا أو روائيا يمكن إعادة تقديم محتواها بطرق فنية أدبية، أما اللوحات التي تقدم مفاهيم بصرية مطلقة فتعتبر أكثر إدراكا لمفاهيم الفن الحديثة، وتتعامل أكثر مع الذاكرة البصرية لدى المتلقي، دون أي معايير أخرى.

جسدت الغريب ذلك المفهوم  في أعمالها، باختيار قصاصات وملصقات ترتبط بشكل كبير بمنطقة وسط القاهرة، لذلك ربما يجد أي شخص يشاهد المعرض متعة بصرية كبيرة، لكن الشخص الذي يعيش في القاهرة ويتفاعل يوميا مع تفاصيلها وشوارعها، ويقضي بعض وقته في مقاهيها سيجد في المعرض متعة بصرية بالإضافة إلى شعور بالحنين والاستمتاع باستعادة الذكريات، وإعادة صياغة الماضي ليس كقصة ثابتة ولكن كرؤية شخصية تحتمل تأويلات مختلفة.

المصدر : الجزيرة