إيمان خشّان.. فنانة تشكيلية حفّزتها قسوة العيش في المخيم على الإبداع

إيمان خشّان تطمح إلى تسويق منتجاتها بشكل أوسع وتسعى لنشر ثقافة اقتناء التحف المعاد تدويرها (الجزيرة)

في أزقة مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين بحثت الجزيرة نت عن منزل الفنانة التشكيلية إيمان خشّان، التي لمع نجمها في عالم إعادة التدوير، الذي احترفته منذ طفولتها.

لم تكن الطريق إلى المخيم مبهجة؛ فالجدار العازل أول ما يستقبل الضيف بلونه الرصاصي، الذي زاد من ضيق العيش في هذه البقعة التي حولت إيمان كل تفاصيلها القاتمة إلى بحر من الجمال بتحفها الفنية المتقنة.

مشيا على الأقدام سرنا باتجاه منزلها بين أزقة ضيقة تحدها من اليمين واليسار منازل ومدارس ومحلات وعيادات متراصة، والجميع يتعامل مع كل ما حوله كأمر واقع بات تغييره حلما بعيد المنال.

أمام منزلها وقفنا بانتظار إطلاع الجزيرة نت على مسيرة حافلة بالتجارب التي انطلقت من المخيم إلى جامعة النجاح الوطنية، ومن هناك إلى مدينة روما الإيطالية، قبل أن تعود وتحط رحالها في المخيم مجددا.

منزل الفنانة التشكيلية في مخيم شعفاط يعج بالتحف الفنية المصنوعة عبر إعادة التدوير (الجزيرة)

"أنا لاجئة من قرية بركوسيا قضاء الخليل، فتحت عيوني على هذه الدنيا وأنا في مخيم للاجئين، وما زلت أكمل مسيرتي به، ولا أعلم إن كانت ستنتهي به أيضا".

عن دخولها عالم الفن منذ طفولتها، قالت خشّان إن والديها لاحظا موهبتها مبكرا عندما كانت تخلد للنوم، منذ كان عمرها 3 أعوام، وتحرص على دسّ قلم الرصاص تحت وسادتها لترسم على الجدار الملاصق لفراشها كل ليلة قبل أن تغط في نومها العميق.

وعند التحاقها بمدرسة وكالة الغوث في المخيم اكتشفت إحدى معلماتها موهبتها في الفن، وكانت تلك المعلمة قدوتها الأولى في عالم إعادة التدوير.

دمى صنعتها إيمان من البلاستيك الذي يلقى في سلة المهملات (الجزيرة)

إبداع مبكر
"كانت المعلمة تصنع لنا الجوائز من أشغال يدوية تنفذها بنفسها لمن تفوز في مسابقة الفن، وكنتُ أنا من أحظى بها دائما، وهكذا بدأت تعطيني مواد بسيطة لأصنع منها مجسمات، وأعجبت بشدة بما كنت أصنعه من تحف فنية رغم صغر سني".

في الصف الثالث اشتركت إيمان في مسابقة رسم لوكالة الغوث على مستوى فلسطين، وحازت على المركز الثاني في المسابقة، ومنذ ذلك الحين باتت عنوانا في المدرسة للرسم على الجدران وإعداد مجلات الحائط في مدرستها.

وفي عمر 14 عاما رسمت جداريات على جدران مدرسة في قرية عناتا المجاورة، وملأت طابقين من المدرسة بريشتها ولمستها الإبداعية التي أبهرت من حولها.

تقول خشّان إن التلوث البصري في المخيم دفعها إلى إيجاد بقعة من الجمال حولها لتخفيف آثاره في نفسها.

وحول ذلك قالت "في صغري كنت ألعب بالتراب دائما، ثم بدأت ألاحظ أن البناء يزداد وتختفي في المقابل المناطق الخضراء والتراب الأحمر الذي لطخ راحتي لسنوات؛ حينها بدأت أستوعب أنني أعيش في مخيم، وفي المرحلة الإعدادية أيقنت أن مكوثي في هذا المكان سيطول، فكان لا بد من طرد عشوائية البناء واكتظاظه وكافة أشكال التلوث البصري عبر خلق فسحة من الجمال خاصة بي".

الفنانة التشكيلية خشّان ويظهر أمامها كرسي صنعته بشكل يدوي من الألف للياء (الجزيرة)


صقل الموهبة

لجأت إيمان لإعادة التدوير عبر نبش مخزن والدها الغني بالأدوات واختيار قطع يمكنها من خلالها صنع تحف فنية، وبدأت استخدام مواد أعقد في إعادة التدوير، كالخشب والحديد، بعدما كانت تعتمد على الكرتون والورق الخفيف في المرحلة المبكرة من طفولتها.

"انطلقت انطلاقة واسعة في عالم إعادة التدوير، ورفضت التركيز على دراستي في المدرسة فقط، واستطعت أن أوفق بينها وبين هوايتي المفضلتين: الرسم وإعادة التدوير".

بعد إنهاء المرحلة الثانوية كانت إيمان تعلم وجهتها جيدا، واختارت العيش في مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية) للالتحاق بجامعة النجاح الوطنية في كلية الفنون الجميلة في تخصص التصوير (الرسم الزيتي).

مقلاة قديمة مهترئة أعادت إيمان تزيينها (الجزيرة)

وبعد 4 أعوام من التطور في هذا المجال، تخرجت، وحلّقت إلى مدينة روما الإيطالية، وهناك مكثت 4 أعوام أخرى، وشاركت في 7 معارض للفن التشكيلي، أحدها معرض شخصي.

"أحد أهم المعارض بالنسبة لي حمل اسم "نساء ملونات"، إذ جمع منظموه من كل لون بشرة فنانة تشكيلية، وأقاموا لنا معرضا".

في إيطاليا توفر لها كفنانة كل ما تحتاجه وبسهولة، الأمر الذي تفتقده الآن في فلسطين، إذ تعتبر أن النقص الحاد في المواد الخام التي تحتاجها لإعادة التدوير واحد من أكثر التحديات التي تواجهها كفنانة.

"الأماكن التي تبيع المواد التي أحتاجها قليلة جدا، ولا يتوفر فيها كل ما أريده أيضا، عكس إيطاليا التي توفر للفنانين كل ما يحتاجونه وبمكان قريب من مناطق سكنهم".

ماكينة خياطة قديمة حولتها إيمان لطاولة مزيّنة بالأحجار وعليها أباريق قديمة زُينت بالتطريز الفلسطيني (الجزيرة)


الثقافة المجتمعية

يكمن التحدي الآخر الذي يواجه الفنانة اللاجئة في أن ثقافة اقتناء التحف المعاد تدويرها ضعيفة في المجتمع الفلسطيني، إذ "ينبهر الجميع بالقطع الفنية التي أنتجها، لكنهم لا يقتنونها لأن ثمنها باهظ بالنسبة لهم، الفرق بين هذه التحف والتحف الجاهزة أن تحفي فريدة من نوعها ونادرة، وأنا أضمن جودتها مدى الحياة، بعكس التحف الصينية المستوردة، التي يتهافت عليها الجميع لسعرها المتدني، ومن الممكن أن تتلف على الفور".

في غرفة خاصة بجوار منزلها تتكدس التحف الفنية المعاد تدويرها، وأخرى غيرها تنتظر بدء العمل بها.

الأحجار وصدف البحر والصوف والتطريز الفلسطيني والدهان والأقمشة بأنواعها والنحاسيات، كل هذا يدخل في تحفها الفنية الكثيرة.

هنا مدفأة قديمة حولتها لطاولة، وهناك مقلاة حولتها لمرآة بعد تزيينها بالصدف والأحجار، والأباريق القديمة ألبستها أثوابا من التطريز الفلسطيني، وتحولت لتحف فنية مبهجة.

بجوار الغرفة عالم آخر من الجمال في منزلها، الذي ينطق كل ما فيه بالإبداع؛ ففي كل زاوية وضعت لمستها في عالمي الرسم وإعادة التدوير.

مجموعة من المدافئ القديمة حولتها خشّان لطاولات بعد إعادة تدويرها (الجزيرة)

وفي كل لوحاتها حضرت المرأة، وعن سبب ذلك قالت "منذ انطلقت في مسيرتي الفنية لم أتخل عن المرأة في أي من لوحاتي لأنها رمز للوطن والاحتواء والدفء، وأنحاز لها بلوحاتي دائما".

وعن أمنيتها قالت إيمان إنها تطمح إلى تسويق منتجاتها بشكل أوسع، وتسعى لنشر ثقافة اقتناء التحف المعاد تدويرها لتتمكن من الاستمرار في هذا المجال، الذي لم تغادره ولا يغادرها منذ طفولتها.

بالخروج من منزلها يتنقل بصر الزائر بين أصص الورود المختلفة فتودعه بعبارة "أنا صديقة وفية للبيئة"، وبالابتعاد عن المنزل المليء بالبهجة والإبداع تقفز مشاهد المخيم القاتمة مجددا، لكن جمال منزل وتحف إيمان ينسي الزائر للحظات أنه في مخيم للاجئين، وسرعان ما يعود ليتذكر ذلك بمجرد رؤية علم وكالة الغوث يرفرف أعلى مدرسة هنا وعيادة هناك.

المصدر : الجزيرة