المسعفة المقدسية إيمان أبو سبيتان.. ذاكرة مزدحمة بالمآسي الفلسطينية

إيمان أبو سبيتان داخل سيارة الإسعاف الخاصة بها
إيمان أبو سبيتان داخل سيارة الإسعاف الخاصة بها (الجزيرة)

 

أسيل جندي–القدس المحتلة

 

للعام السابع على التوالي تجلس الشابة المقدسية إيمان أبو سبيتان خلف مقود سيارة الإسعاف، محققة حلمها في ممارسة مهنة متجددة بعيدة عن الروتين اليومي الممل.

أتاحت لها هذه المهنة خوض مغامرات جديدة كل يوم، وأعطتها فرصة لسبر أغوار عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني من شمال البلاد إلى جنوبها، ورغم معوقات المجتمع الشرقي فإنها نجحت في كسب رضى العائلة والمحيط، بعدما كان والدها العقبة الأولى في مسيرة حياتها المهنية.

ولدت إيمان أبو سبيتان في شهر يناير/كانون الثاني عام 1991 وترعرعت في بلدة الطور بالقدس، وبعد إنهاء دراستها الثانوية التحقت بالجامعة لدراسة المحاسبة وعملت في هذا المجال لمدة عامين، لكنها شعرت أنها لن تتمكن من تحقيق ذاتها وهي تجلس خلف مكتب تمارس المهام ذاتها يوميا.

تلقت بعد إنهاء الثانوية العامة أيضا دورة في الإسعاف الأولي لمدة ستة أشهر وانتظرت حتى بلغت من العمر 21 عاما، لتتمكن من الحصول على رخصة قيادة لسيارة إسعاف، ويجبرها القانون على الحصول على رخصة قيادة مركبة شحن ثقيل قبلها، ومن هنا بدأ التحدي والإصرار.

إيمان أبو سبيتان على مطلة جبل الزيتون (الجزيرة)
إيمان أبو سبيتان على مطلة جبل الزيتون (الجزيرة)

تجارب شيقة
لم يكن خوض تجربة الحصول على رخصة قيادة الشحن الثقيل أمرا سهلا، وخلال تدربها تعرضت لكثير من المواقف التي يستهجنها المجتمع المقدسي، وزاد ذهول من حولها عندما حازت على رخصة قيادة سيارة الإسعاف، لتكون ثالث مقدسية تحصل عليها لكنها العربية الوحيدة التي تعمل سائقة إسعاف في المدينة.

في مكتبها الصغير ببلدة الطور استقبلت الجزيرة نت بلباس عملها الرسمي، وخلا وجهها من أي مستحضرات تجميلية ولم تزين أظافرها بطلاء الأظافر، وشعرها منسق ومرفوع للأعلى بربطة شعر بسيطة، وينسجم مظهرها الخارجي مع طبيعة حياتها المهنية اليومية.

تحدثت عن مسيرتها الحافلة بالمعوقات التي سعت لتبديدها بالمثابرة والإصرار ولاحقا بالنجاح في وضع بصمتها الخاصة في المجال الطبي.

تقول إيمان "شعرتُ عام 2012 بمدى حاجة كثير من شباب القدس لدورة إسعاف أولي باللغة العربية لا العبرية، فأنشأت جمعية الإيمان للخدمات الطبية وباشرت بالتطوع في إعطاء هذه الدورات مجانا في البداية، وأذكر أن أولها كانت لشابات مقدسيات تطوعن في المسجد الأقصى مسعفات خلال شهر رمضان المبارك".

إيمان تتفقد محتويات سيارة الإسعاف الخاصة بها (الجزيرة)
إيمان تتفقد محتويات سيارة الإسعاف الخاصة بها (الجزيرة)

وبعد ازدياد الإقبال على هذه الدورات، اضطرت إيمان لتخصيص وقت لإعطائها حتى وصل عدد المسعفين وضباط سيارات الإسعاف الذين تتلمذوا على يديها إلى خمسمئة شاب وشابة مقدسية.

منذ تحقيق حلمها في الحصول على رخصة قيادة سيارة الإسعاف، بدأت مسيرتها الكفاحية لإثبات ذاتها في الميدان من جهة، ولتبديد مخاوف والدها عليها من خطر الطرقات ومن نظرة المجتمع نحوها من جهة أخرى.

وتستذكر إيمان تلك المرحلة بقولها "في البداية كنت أضطر لاصطحاب أحد أشقائي أو ابن عمي معي عندما تردني اتصالات لنقل حالات بالإسعاف بعد منتصف الليل لخوف والدي عليّ، لكنني الآن أخرج وحدي دون اعتراض أحد من العائلة، لأن الكثيرين من أهالي البلدة كلما صادفوني برفقة والدي يرددون عبارات الثناء على شخصيتي ومهنتي الإنسانية، ويقولون له: إيمان بنت وأخت رجال، حتى زال قلق والدي تدريجيا".

تملك جمعية إيمان الخاصة سيارتي إسعاف تعمل هي على إحداهما، بينما يعمل شاب مقدسي على الأخرى، وخلال استقبالها لنا تحدثت بصوت واضح وواثق عن تجاربها الميدانية، ولم يخفت صوتها سوى عندما تطرقت لعمق ألمها عندما تنقل أطفالا وشبابا وافتهم المنية بسبب حوادث السير أو المرض، مما دفعها لكتابة قصص بعضهم في دفتر (كراسة) خاص بها.

مجموعة من المسعفين الذين تدربوا على أيدي إيمان أبو سبيتان في المسجد الأقصى قبل أيام يتطوعون خلال المواجهات في صلاة الفجر (الجزيرة)
مجموعة من المسعفين الذين تدربوا على أيدي إيمان أبو سبيتان في المسجد الأقصى قبل أيام يتطوعون خلال المواجهات في صلاة الفجر (الجزيرة)

قصص ألم وأمل
وفي ثنايا القصص اليومية، تحدثت إيمان عن تأثرها بحالة طفلة غزية نقلتها من حاجز إيريز العسكري إلى مستشفى المقاصد بالقدس، ثم إلى مستشفى تل هشومير في تل أبيب، وقالت إنها توفيت بعد أسبوع من نقلها وهي إحدى ضحايا التشخيص الطبي الخاطئ في غزة.

وتواصل حديثها "وصلت للعلاج بعد تشخيصها بمرض الروماتيزم، لكن بعد وصولها للمستشفى الإسرائيلي قيل للعائلة إنها تعاني من نوع نادر من مرض السرطان، وبعد أسبوع اتصلت والدتها لتخبرني بوفاتها.. ما زلت أتذكر وجهها ومعاناتها".

حالة أخرى نقلتها إيمان من غزة لقابلة قانونية كان يفترض أن تلد توأما من الذكور في مستشفى المقاصد بالقدس، ويرافقها في رحلتها زوجها الطبيب النسائي، لكن من سوء الحظ أن آلام المخاض باغتت السيدة خلال نقلها للمستشفى، واضطرب زوجها ولم يتمكن من المساعدة، وانتهت الرحلة العلاجية بوفاة المولودين ودفنهما بالقدس قبل عودة الأم والأب المكلومين إلى قطاع غزة.

قصص يومية أخرى تتطلب رباطة جأش كبيرة مثل نقل المصابين في حوادث السير، وتذكر إيمان منها إصابة شاب من مدينة بيت لحم في الضفة الغربية بحادث سير كانت نتيجته انفصال جزء من رجله، فسارعت إيمان لوضع الطرف المفصول في كيس ملأته بالثلج ونقلت الشاب إلى مستشفى هداسا عين كارم غربي القدس، وهناك دخلت تركض لتسليم الأطباء الطرف المبتور وذهلوا حينها بشجاعتها ونعتها أحدهم "بالمجنونة".

المسعفة وسائقة الإسعاف المقدسية إيمان أبو سبيتان في مكتبها (الجزيرة)
المسعفة وسائقة الإسعاف المقدسية إيمان أبو سبيتان في مكتبها (الجزيرة)

نقل الوفيات من كبار السن خاصة من أسهل الحالات التي تنقلها إيمان حسب رأيها، وتعرضت في سبيل ذلك لمواقف طريفة أيضا، أحدها إغلاق أحد المسعفين بالخطأ باب ثلاجة الموتى عليها، وهو منشغل في مكالمة هاتفية، وبقيت بداخل الثلاجة حتى أنهى مكالمته وتذكر أنها عالقة بداخلها.

سرعة البديهة والتركيز العالي هما أبرز السمات التي يجب أن يتحلى بهما سائق سيارة الإسعاف، لأنه حسب إيمان توكل إليه مهمة الانتباه للطريق والتواصل مع المسعفين في الخلف لمتابعة الفحوص الأولية للمصاب أو المريض، واتخاذ قرار نقله إلى المستشفى المعنيّ بالحالة، بالإضافة لمهمتها الإنسانية في التخفيف عن مرافق المصاب خاصة في حوادث السير.

من مستشفى برزيلاي في عسقلان جنوبا إلى مستشفى رمبام في مدينة حيفا شمالا، نقلت إيمان إلى جميع مستشفيات البلاد مرضى ومصابين، بالإضافة إلى جرحى حروب قطاع غزة في سيارة الإسعاف التي ترافقها في رحلات الألم والأمل اليومية.

وقبل وداعها، اصطحبت إيمان الجزيرة نت في جولة قصيرة بسيارة الإسعاف، لمنعها من اصطحابنا قانونيا خلال نقل المرضى، وخلال الجولة ألقى كثيرون عليها التحية، بعدما ألفوا وجهها خلف مقود هذه السيارة الشاهدة على مآسي الفلسطينيين اليومية.

المصدر : الجزيرة