فاطمة صندوقة.. مقدسية وهبت حياتها للأسرى

فاطمة صندوقة - خاص الجزيرة.jpg 2
نفوذ مخيمر تحمل صورة أمها الراحلة فاطمة صندوقة (الجزيرة)

 سارة دجاني-القدس

بعد عامين من هزيمة يونيو/حزيران 1967 وحتى وفاتها قبل 13 عاما، ظلت السيدة المقدسية فاطمة صندوقة سندا للأسرى طوال أربعة عقود متواصلة، لا تدخر وسعا في حمل قضيتهم ومساعدتهم  والكفاح من أجل حقوقهم، حتى عُرفت وسط محيطها  بـ"أم الأسرى".

في أبريل/نيسان 1968، اعتقلت سلطات الاحتلال ابنها أحمد محمد مخيمر ضمن مجموعة من الشبان، واتهمتهم بتفجير عدة قنابل في تل أبيب قتل على إثرها عشرات الجنود والمستوطنين.

حكمت سلطات الاحتلال على الشاب أحمد مخيمر بالسجن المؤبد، فكان رد فعل الأم ساعة النطق بالحكم -بحسب ما تقول ابنتها نفوذ مخيمر- إطلاق زغرودة والهتاف باسم فلسطين والفخر بابنها ورفاقه، قائلة "الحمد عندنا رجال تدافع عن وطنها وشرفها".

هذا الهتاف العفوي لم يتحمله قضاء الاحتلال الإسرائيلي، حيث استشاط القاضي حينها غضبا فأمر بطردها من قاعة المحكمة، ومن هنا بدأ اهتمامها بقضية  الأسرى الذين اعتبرتهم جميعا أبناءها.

ولدت فاطمة صندوقة في أحد أزقة البلدة القديمة عام 1928، وعرفت منذ صغرها بقوة شخصيتها وجرأتها التي مكنتها من مساعدة عشرات الأسرى، والمكافحة من أجل توفير بعض الحقوق لهم داخل سجون الاحتلال.

يقول الأسير السابق محمود جدة للجزيرة نت "بذلت صندوقة منذ ذلك اليوم حياتها لخدمة الأسرى ومحاولة تحسين ظروفهم داخل السجن، إذ لم يكن الاحتلال يسمح لهم بطهي الطعام ولا القراءة والكتابة ولا زيارة الطبيب".

ويضيف جدة الذي كان رفيقا للأسير أحمد مخيمر في السجن، "كان الاحتلال يبتز الأسرى بالعمل لصالحهم مقابل الحصول على أي خدمة طبية، وهو ما كنا نرفضه ليصل بعضنا حد الموت دون اللجوء إلى الموافقة على شروط الاحتلال".

وفي أواخر عام 1969، وسعيا لوضع حد لمعاناة الأهالي في زيارة ذويهم الأسرى بالسجون الإسرائيلية، توجهت فاطمة صندوقة إلى مقر الصليب الأحمر في القدس وتقدمت بطلب ليتكفلوا بمهمة تنسيق ونقل الأهالي لزيارة أبنائهم في المعتقلات.

وافق الصليب الأحمر بشرط الحصول على موافقة خطية من كل رؤساء بلديات المدن الفلسطينية، لتتوجه مع صديقاتها وتحصل على كل تلك التواقيع وتساهم في توفير أول حق من حقوقهم، ألا وهو التكفل بنقل أهاليهم لزيارتهم في السجون.

 

‪فاطمة صندوقة (يسار) مع رسمية عودة‬ (الجزيرة)
‪فاطمة صندوقة (يسار) مع رسمية عودة‬ (الجزيرة)

حقوق
في منتصف سبعينيات القرن الماضي، تمكنت فاطمة صندوقة انتزاع حقوق أخرى من الاحتلال للأسرى، كان أبرزها توفير مقصف لهم داخل السجن لشراء الشاي والقهوة بعدما حرموا منها سنوات، والسماح بدخول الطبيب لعلاج الأسرى.

وعن دخول أول طبيب إلى السجن، تروي لنا ابنتها نفوذ أن والدتها علمت من ابنها أحمد خلال الزيارة عن أسير جديد قدم إلى السجن برجل مقطوعة، لتذهب وتجد طبيبا وتستصدر تنسيقا من الصليب الأحمر وتعود بعدها إلى إدارة السجون وتطلب تصريحا بدخول الطبيب، وعندما سألها السجانون عن علاقتها بهذا الأسير المصاب قالت "ابن شقيقتي".

أما  الأسرى الذين انقطعوا عن عائلاتهم، فكانت فاطمة تزورهم حاملة الطعام لهم، وتدفع لمن احتاج منهم نقودا للشراء من المقصف، حتى صاروا ينادونها بــ"يما" (يا أمي) كما تروي عنها ابنتها.

وتضيف نفوذ "كانت تطلب في كل زيارة أسماء خمسة أو ستة أسرى لزيارتهم، وتبرر للسجانين بأنهم أولاد إخوتها، حتى قال لها أحد السجانين يوما بعدما سجنوا مواطنا يابانيا: إياك أن تقولي إنه ابن شقيقتك فهذا لا يتكلم العربية حتى". 

وتتابع "باتت أمي مرجعا للأسرى وذويهم، وكلما اعتقل الاحتلال شابا جاءت أمه لتخبر فاطمة"، وتضيف "كل شاب يخرج من السجن كان يأتي لزيارة أمي، كانوا يحبونها ويعتبرونها أمهم".

أفرج الاحتلال لاحقا عن ابنها أحمد في عملية تبادل للأسرى عرفت باسم "عملية النورس"، أفرج فيها عن 76 أسيرا فلسطينيا مقابل جندي إسرائيلي كانت الجبهة الشعبية قد أسرته، وحتى بعد الإفراج عن ابنها وإبعاده إلى الأردن، لم تتوقف عن دعم الأسرى ومساعدتهم.

الاعتصامات
عرف عن فاطمة قدرتها على قيادة وتنظيم الاعتصامات، فكانت تزور أمهات الأسرى وتحضرهم للاعتصام في مقر الصليب الأحمر، وتحرص على زيارة كل الصحف والإذاعات المحلية لتغطية اعتصاماتهم، كما كانوا يشاركون الأسرى في الإضراب حسبما تروي لنا ابنتها نفوذ التي كانت تشاركها الاعتصام.

وكعادة الاحتلال في التضييق على الأسرى وذويهم، كان لفاطمة صندوقة وعائلتها نصيب من هذا، فكانت مخابرات الاحتلال تستدعيها للتحقيق بين كل فترة وأخرى لإرهابها ومحاولة إيقافها عن دعم الأسرى.

وكان التضييق الأعظم حين أمر الاحتلال بهدم منزلهم في البلدة القديمة محاولا معاقبتهم عام 1969، ولم يستطع تنفيذ الحكم نظرا لوجود عدد من الجيران، فأمر بإغلاقه بالشمع الأحمر. تقول نفوذ "كان من أصعب المواقف التي مرت على والدتي، حين اضطرت لترك المنزل الذي ولدت فيه وعاشت فيه ذكرياتها وأنجبت فيه أولادها".

استمر الاحتلال في زيارة المنزل كل يوم عدة مرات للتأكد من إغلاقه وبقائه على حاله، حتى مرت السنوات وبدأت محاولات المستوطنين الاستيلاء عليه بكل الطرق، فتقدمت بطلب لمحكمة الاحتلال لفتحه، وانتزعت قرارا بفتح المنزل عام 1993، وعادت إليه.

ورغم المرض الذي ألمّ بها عام 1997 وأقعدها عن الحركة ومنعها من الكلام، استمرت فاطمة صندوقة في حمل همّ الأسرى، وكانت تشارك بكرسيها المتحرك في اعتصامات الأسرى إلى أن توفيت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2006.

المصدر : الجزيرة