حين زرتُ جرحى غزة..

مدونات - قطر وغزة فلسطين
لم يكن لقاء عاديا! لم تتحرك مفردات المجاملات بين الأفواه المتكاسلة أو المتكلفة البهجة كما يحدث في لقاءات لا يرتعش لها قلبك، ولا تحفل بها جوارحك..

لم يكن لقاء على الأرض كما يحدث دائما، حين تتصافح الأيدي وتتناثر بلا حساب في الهواء القبلات.. كان توقفا مبهرا.. بين أرض وسماء!

حين زرتُ عددا من جرحى غزة في عمّان، وكانوا بانتظار فوج آخر من الجرحى، خفق قلبي بقوة! واجتاحتني أصوات معركة يستطيع المرء فيها أن يتحسس سخاء الرصاص وهو يهب مع النزف احتمالات البتر والموت! وبتّ أقاوم في داخلي قنابل الغاز وقد تسلل دخانها من مخيلتي إلى عروقي.. شاهدتني أدفع بالإطارات المشتعلة صوب الأسلاك الشائكة وقد تلطخت بالدماء، سمعتني أصرخ بها في أعماقي "الله أكبر!" وأنا أركض كموجة عنيدة تلاحق موجا يتسارع بالشوق صوب الوطن.. أي شيء يمكنه أن يعدل إحساسي بخطوتي الأولى داخل بلادي المحرمة عليّ بأمر من عدو أشاهده على بعد أمتار مني، وعدو حمل وجه أخي ويده في ظهري تسدد لي الطعنات!

حين زرتُ جرحى غزة عرفت أننا يمكننا أن نعانق الوطن وإن لم نبرح أماكننا، يمكننا التجول في الشوارع العتيقة فهي لا تزال تتذكرنا

لا يخيفهم الموت
بقيت أردد في أعماقي "الله أكبر!" ودمع يغمر روحي بخشوع الدعاء، بينما توقظني ابتسامة جريح بددت ببهجتها الصور على حدقات قلبي ومخيلتي، تذكرني بأنني محاطة بأعواد خضر لا تنكسر! وفي مواجهة شبان لا يخيفهم الموت، كما لم تخفهم من قبل الحياة!

حين زرتُ جرحى غزة عرفت أننا يمكننا أن نعانق الوطن وإن لم نبرح أماكننا، يمكننا التجول في الشوارع العتيقة فهي لا تزال تتذكرنا، وأبواب بيوتنا المهدمة هناك تستطيع أن تلملم نفسها في كف الزمن من جديد، ففي أيدينا مفاتيحها، وخرائط عودتنا محفورة في جدران قلوبنا، فلن نخطئ الطريق.. كل ما يلزمنا خطوة واحدة! خطوة ثابتة! تجعل موكب عودتنا بملايين المفاتيح يسير!

تلفتُّ حولي.. سبعة جرحى يعانون من إصابات في الرجل اليسرى، تسبب بها رصاص محرم دوليا، ينغرس في الجسد ويتفجر، ليدمر كل شيء! تتهتك الأنسجة وتتقطع العروق والأعصاب، لتختفي وسط الدماء احتمالات الشفاء، وفي ظل العوز الطبي في غزة يطل خيار البتر كسيد لكل الاحتمالات.

أخبرني أحد الجرحى بأن قناصة العدو يتعمدون تصيدهم، وإطلاق الرصاص على أرجلهم ليركعوا ويتوقفوا عن السير صوب بلادهم

الحبل والشيك
أخبرني أحد الجرحى أن قناصة العدو يتعمدون تصيدهم وإطلاق الرصاص على أرجلهم ليركعوا ويتوقفوا عن السير صوب بلادهم، ويقهروا إرادة التقدم فيهم، لكنهم رغم جراحهم زحفا يتقدمون، فأرواحهم هي التي تحلق صوب بلادهم، وتلك لا يقهرها حصار ولا يوقفها فتات جسد!

أحدهم تحدث عن خطواته في المسيرة وكأنه طائر يرفرف بجناحيه وقد ثقلت قدماه! دمعة بحرارة النار التي تتأجج في أفئدة الثوار تبخرت على حدود ابتسامة، لتقول الكثير وهو يصف لحظة إصابته: إن كانت أرضنا على مرمى حجر، فلأكن أنا هذا الحجر! قمت بلف الحبل حول جسدي، وتركته يمتد طويلا صوب رفاقي، بينما ينتهي الحبل الملتف على خصري (بشنكل) وسرت صوب الأسلاك الشائكة التي تمنعني من رسم خطواتي على ترابي إلا بدمي.. أطلقَ جنود الاحتلال قنابل الغاز بلا حساب، وانتشر دخانه في حواسنا.. بدأت أشعر بالاختناق وتشنج عنيف في جسدي، فسحبني الرفاق لمساعدتي وإسعافي، وما إن شعرت بأنفاسي تعيدني للحياة من جديد، تدفقت في جسدي الدماء، ودفعت بي صوب السلك الشائك من جديد، فهناك يمكنني أن أصرخ في وجه عدوي: "القدس لي.. ولها سأعود! بوعد من الله سأبقى، وأنت بوعود الكاذبين سترحل!"..

شددتُ الحبل حولي كالحزام، وطلبت من رفاقي أن يتأهبوا للخطوة القادمة، وتقدمت.. كانت القدس هناك! تلوح بيديها وتنادينا، كأجمل عروس مخضبة اليدين تنتظر، ومن طراوة شفتيها يتدفق الدعاء.. كنت أركض صوبها.. لا يمنعني منها سوى الأسلاك الشائكة والرصاص.. وضعت الشنكل على (الشيك) ثبتُّه بسرعة، وشددت الحبل، فسحب الرفاق الحبلَ بكل قوتهم، ووقع (الشيك)! سقطت الأسلاك الشائكة التي تمنعني من احتضان بلادي، وبقي الرصاص! ليستقر في ساقي ويتفجر.. شعرت بنيران تجتاحني وتحرق فيّ كل شيء، كهرباء تتدفق في عروقي لتحيلني إلى قطعة من فحم! أحسست بروحي تتحرك صوب السماء، ليرتج جسدي دفعة واحدة، وأنا أصرخ من جنون الألم مشيرا إلى ساقي: "اقطعوها! اقطعوها!"، ثم اختفت الوجوه وتلاشى الدخان، وتراجعت الأصوات فما عدت أحس بها، ظننت أن الجميع رحلوا.. وكنت أنا الذي رحلت وغبت عن الوعي للحظات.

سقطت الأسلاك الشائكة التي تمنعني من احتضان بلادي، وبقي الرصاص! ليستقر في ساقي ويتفجر.. شعرت بنيران تجتاحني وتحرق فيّ كل شيء

أكبر نعمة
استرجع الجريح ابتسامته من جديد: هل تعرفين أكبر نعمة أنعم الله بها على غزة؟ إنها النسيان! يتحرك الموت فينا، يخطف مَن نحب! يقطع العدو أجسادنا ويجعلنا أشلاء.. يهدم بيوتنا، يحاصرنا ويجوعنا.. يزرع العتمة في منازلنا وشوارعنا، ويذبحنا بأيدي إخوتنا.. نتألم! نتحرك في مساحات الوجع وكأننا ندور في حلقات، لكن تلك الحلقات تدور بسرعة تغيّبنا عن أنفسنا.. تطردنا، وتخطف منا ذاكرة الألم! لا شيء يلمع في ذاكرتنا غير هذا التراب الذي ينادينا وتلك العصية على القهر.. بلادنا! عدونا يريدنا أن ننسى، ونحن ننسى بالفعل، ولكننا ننسى ما يريده أن يستقر في ذاكرتنا! ونحتفظ رغما عنه بخرائط عودتنا!

هم يحاولون في غزة أن ينسوا آلامهم ويتقدموا صوب حلمهم بالعودة، فلا تنسوهم! هم أسوار منيعة في وجه المغتصب تذود عنكم، فلا تنسوهم! هم يحترقون ليضيئوا الطريق لكم، ويغسلوا ثوب أُمتكم وقد تدنس بعار الصمت والتخلي عن قدسكم، فلا تنسوهم! ابرَؤوا إلى الله من تخاذل حكام عروبتكم على امتداد خرائطكم، فثوار غزة بعض من تراب الوطن وقد صار بالعز يتنفس! ارووه بصدق إرادتكم وستنشق عن بذور العز أرواحكم! وسيكون لكم عبير زهره الطهور، فجرحى غزة بمسك الدم يتعطر رجالها! وبإرادة الصمود تتزين أرواحهم..

عودوا مَن شدّ بيديه المحترقتين على جذوة الأمل وسار، ليكسر بثبات خطواته إرادة الغزاة! زوروهم أينما كانوا، لتصدقوا بأننا سنعود! وبأن الزمن توقف خلسة دون أن نشعر، ليبدأ العد التنازلي لرحيل العابرين، ولن تصدقوا! كم نحن قريبون من نقطة الصفر!

غزة الجائعة وسط المتخمين من الغافلين والسماسرة! غزة المريضة قهرا من قلة الدواء لا سرير تأوي إليه وقد اشتدت عليها الحمى

تسقط كل الحلول
غزة الجائعة وسط المتخمين من الغافلين والسماسرة! غزة المريضة قهرا من قلة الدواء لا سرير تأوي إليه وقد اشتدت عليها الحمى وارتعشت لها أنات الجسد! أحد الجرحى أخبرني وهو يشير إلى ساقه: نحن محظوظون لأننا هنا.. في غزة أطباء كبار! ولكن ماذا يمكنهم أن يفعلوا ولا يوجد بين أيديهم حتى الضماد ليضمدوا به جراحنا.. في منزل واحد أُصيب أربعة أشقاء، وكلهم تلقوا الرصاص في أرجلهم، ولا علاج لهم في ظل الحصار! وأمهم العجوز تمرضهم معا وتخدمهم، وأحدهم تحترق روحه بمشاهدة الدود يخرج من ساقه المصابة لعدم توفر المضاد الحيوي، وعدم الحصول على الرعاية الطبية المناسبة.. في غزة تسقط كل الحلول في ظل الحصار، ولا يبقى سوى البتر! وشانئُ غزة بإذن الله هو الأبتر.

غزة بلا ظهير! بلا خِلّ رغم ودها، بلا نصير غير الله بلا أحد! غزة أسقَطت بمدد من ربها النخاسين والسماسرة! عرّتهم بكف صمودها، وكشفت الحجب عن أصحاب القلوب الغادرة! غزة مزقت الأقنعة الملونة عن المرجفين وذوي الوجوه الكالحة.. غزة اعتادت أن تعُد كل ليلة جرحاها، لتعرف كم نجمة ستضيء عتمة ليلها المحروم من الكهرباء! وكم طائر سينضم إلى معركتها القادمة! فشهداء غزة لا يموتون، بل تجمعهم لمعركة الفصل كتائب السماء! ذاك عهدها، فالزموا وفاءه، واكسروا بإرادة أكفكم الحصار! فالقدس موعدكم وموعدها.. والقدس موعد الأحرار!

ولنا في القدس لقاء

المصدر : الجزيرة