والقدس أم

تصميم: والقدس أُم ... إلى مرابطات المسجد الأقصى
إلى مرابطات المسجد الأقصى..

ستنطفئ وسط عتمة الملاجئ نجمتكم، وسيُكبِّرُ في سماء الله نورُ الهلال، فلغير رب الكعبة أيها المصفّدون في غيّكم لن ينحني الرجال، وسيأتي النصر ضاحكا على جناح الصبر، مطرا تُزجيهِ بخيوط النورِ رياحُ الفجر، فاشدد يا ابن القهر للقدس الرّحال.

آن للأرض أنْ تنشقّ عن أشلاء شهدائها، وقد نبتَت ثورة الدماء في عتمة تُربها، واستوت بالصبر على سوقها، تبشّر الزرّاع بطهر الجذر ووفرة الغلال.

فانصر بقوّتك اللهم رجلاً تفجّرت عروقُ الأرض بغضب يمينه، وما ارتعشت بالخوف عروقه، فغدت زهرا على شرفات قلبه الدماء.

يا ربّ المستضعفين مَن غيرك لنا؟ مِن خلف قضبان حكّامنا عراة مِن الجرأة والسلاح، تتوزّع على جسدنا المحموم خرائط الجراح

وانصر اللهم بقوّتك امرأةً تودِّع العيال كل يوم، تُقبِّل الأكف الصغيرة والوسائد، تتلمّس جدران روحها وبيتها، وصوتٌ خفيّ مِن عمق روحها يخبرها، أنها قد لا تعود لخدّ طفلها، فتُسكتُ كلَّ الأصوات مِن حولها، وتَخرج للأقصى بقلبٍ يغادرُه الخوف، وعلى علوّ التكبير ترسم خطوها وهي لبيت الله تسير.. في عتمة المحتل والنور في صدرها.. تُصغي للكون، فتأتيها مع أنفاس الفجر صرخاتٌ تربكها، تأتيها من كل الخرائط وقد نزفت من حولها : "ما عدنا نقوى على تحسّس دمانا والأعين منا مفقوءة، ما عدنا نصف أنفسنا بالرجال، ونساؤنا سبايا الجوع والسلطان، يقاومن بحرقةِ الصراخ صمتنا. فيا ربّ المستضعفين مَن غيرك لنا؟ مِن خلف قضبان حكّامنا عراة مِن الجرأة والسلاح، تتوزّع على جسدنا المحموم خرائط الجراح".

تلتفت مرتعشة وقد سكنتها الدهشة، فتجتاحها من باحات مسجدها الأصوات، تُعيدها لتسبيح الحجارة، وتُعيد لروحها الشرارة: "أيها العابرون! لا ظلال لكم حين تمرّون، فشمسنا تُنكركم، ويلفظكم التراب، نارٌ توقدونها بأيديكم وستحصدكم، فالنار إنْ شبّت أكلت مشعلها ومغذّيها، وما درى راعي النار أن النار لا عهد لها، تأكل من شَرهٍ كفّ راعيها.. أيها العابرون! لا ذاكرة لكم، ولنا ذاكرة الأرض، لا صوت لكم في سمع الحياة ولا على صفحات تاريخنا، جذوركم الرخوة ستظل قريبة من السطح، لا عمق لها، ولا تراب يتشبّث بها، بكفّ الحق ستُخلع، ولن تجد مَن يبكيها".

تتلفّت مرابطة الأقصى حولها، لتشاهد الأرض تتحدّث بمنطق السماء. تلملم خيوط جرأتها، وتدخل من البوّابة الصبورة خاشعا قلبها، وفي فمها حرقة التكبير ووجع النداء. تستحضر ملامح البيوت التي تهدّمت، تسترجع ابتسامات الأسرى وهم يتنفّسون الصبر خلف القضبان، وترتعش من جديد، لهيبة الشهادة ومسك الشهيد. تعانق حلما بيومٍ عادي كالذي يحظى به كل الناس، يوم تتناول فيه القهوة على الشرفة، أو على عتبة الدار، وطفلها آمن يلهو في الشارع مع صبية الجيران. ترتعش للحلم الجميل، وتتذكّر أن الأحلام لا تتحقق من تلقاء نفسها، وأنّ الجدران تَحبس الناس لكنها لا تَحبس النهار، ويمكن هدمُها.

القدس أمّ.. يا صاحب الصوت! القدس أمّ تحترف الدعاء. القدس عينٌ على ضمائرنا، عين على صمتنا وثرثرتنا

تُسرع الخطى، فتلاقي المرابطات، تنضمّ خيطا لنسيجهن، فتستشعر قوّة في كفّيها، تسألهن إنْ كنّ يسمعن الأصوات التي تسمعُها، فيبتسمن وهنّ يشرن إلى السماء: "إليه يصعد الكلم، ويعرج الدعاء". يأتيها صوت غير بعيد، وكأنه شاعر يُلقي قصيدة: "أمهاتنا أغنيات مهدٍ في أعماقنا تتردد، على ارتعاش القوافي تهبنا ملامحنا، وتزرع فينا جرأة القصيدة.. أمهاتنا انتصار المحبة وهي تتجوَّل في مساحات القسوة دون اكتراث، تُدثّرنا بالصبر والدعاء، كي تظلَّ عروقنا وسط جليد الظلم دافئة.. أمهاتنا يزرعن المطر في أعيننا، فيتساقط ثمرا مثقلا بالرجاء".

تلاحق المرابطة الصوت وهي تتلفّت حولها بألم: "يا صاحب الصوت! في القدس أمهات يحملن الوجع أحلاما تستقر في قلبٍ مرهق، يسقين الفجر مِن مدامعهن، لينتفضَ بالنهار. في القدس أمهات يحترقن صبرا وانتظارا على بواباتٍ أُغلقت ظلما في وجه التكبير.

والقدس أمّ.. يا صاحب الصوت! القدس أمٌّ تحترف الدعاء. القدس عينٌ على ضمائرنا، عين على صمتنا وثرثرتنا، وعين على سواعدنا حين تشتعل الأرض، وحين تتفجر العروق بالدماء".

عَرَفت مرابطة الأقصى أنَّ القدس تجمع مِن سَمْع الكون كلَّ الأصوات.. فالقدس تعرف عدوَّها، تعرف اليد التي تربت على كتفها، وتلك التي تطعنها، تعرف مَن يخدعها، ومَن يعشقها.. فإن دُعيت للشهادة، ستُخرج كلَّ الأصوات مِن جعبتها، وستشهد على مَن حمل لها السكين، وعلى مَن أوصل اللصوص لمخدعها، وعلى مَن أغلق السمع عن صراخها ليُسكتها، وعلى مَن أحدث الضجيج ليختفي وسط فوضى الأصوات صوتها. وستشهد على امرأةٍ قبّلت حجارة المسجد الحزين، وعلى شفتيها قبلات طفلها.

ولنا في القدس لقاء.

المصدر : الجزيرة