اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (3–4)

اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (1-4)
لقد استند اللاهوتيون (التيار التوراتي التقليدي في علم الآثار) منذ مطالع القرن الماضي إلى نصوص متفرقة من التوراة، وليس لأي نتائج أركيولوجية حصيفة، لرسم حدود ما يزعم أنها أرض كنعان. في الواقع، لم يكن لديهم أي دلائل أركيولوجية تؤيد هذه الحدود الخيالية، كما أن نتائج البحث الأثري لم تقدّم أي سند مهما كان بسيطا، يمكن استخدامه لدعم المزاعم عن شعب قديم يدعى شعب كنعان.

لم تكن في حوزة اللاهوتيين في واقع الأمر سوى نصوص متفرقة من التوراة ورد فيها تعبير (أرض كنعان، شعب- لسان كنعان إلخ). وفي سائر هذه النصوص، لا وجود لأسماء البلدان التي أصبحت تشكل مساحة هذه الأرض الخيالية، فلا وجود لاسم سوريا أو لبنان أو الأردن أو فلسطين.

كما أن النقوش البابلية الآشورية ومنذ 950 ق.م لا تسجل قط اسم كنعان، وهي تجهله تماماً. كان (اختراع) شعب كنعان حاجة ملحّة أشد تعقيدا مما يمكن تخيّله لصناعة هوّيات تاريخية جديدة لسكان الشرق الأوسط. ولكن الأمر الشيق بالنسبة لللاهوتيين أنهم كانوا أثناء عملهم المضني لتصنيع هوّيات بديلة يخترعون من مواد توراتية مادة جذابة وجديدة يمكن نسبتها لعلم الآثار، وبحيث يصبح الحديث عن (شعب كنعان) لا مجرد توصيف توراتي لجماعة قبلية قديمة، بل حقيقة أركيولوجية. 

وعي اللاهوتيين لوظائف علم الآثار في هذا النطاق كان شديد التباين مع وعي علماء الآثار من المتخصصّين والمحترفين، ومع ذلك مضى هؤلاء قدما في التلفيق

تبيان الوعي
ومن الجليّ أن وعي اللاهوتيين لوظائف علم الآثار في هذا النطاق كان شديد التباين مع وعي علماء الآثار من المتخصصّين والمحترفين، ومع ذلك مضى هؤلاء قدماً في التلفيق
.

سأقوم -هنا- بتفكيك الصور التوراتية التي استند إليها هؤلاء. لكن قبل ذلك، دعونا ندقق في أصل الاسم (كنعان)؟ من أين جاء الاسم؟ نقرأ في سفر التكوين أن كنعان الطفل كان مع والده حام في سفينة نوح، وأنه نجا من الطوفان (وهو شقيق كوش، ومصريم، وفوط، ثم صار له ابنان هما صيدون وحث (10: 6/ 10: 15):

وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ. וּבְנֵי, חָם–כּוּשׁ וּמִצְרַיִם, וּפוּט וּכְנָעַן. وَكَنْعَانُ وَلَدَ: صِيْدُونَ بِكْرَهُ، وَحِثًّا וּכְנַעַן, יָלַד אֶת-צִידֹן בְּכֹרוֹ–וְאֶת-חֵת.

نفهم من هذه النصوص أن اسم كنعان ينصرف إلى جماعة مثيولوجية (أسطورية) خرجت من الطوفان في عصر نوح، وأنه ابن حام بن نوح، وأنه شقيق (مصريم) و(كوش) و(فوط). وهذا تصوّر مدهش لولادة جماعات قديمة من رحم الطوفان (الاضطراب الكوني)، أي أنها جماعة ولدت من الفوضى.

يؤكد هذا النسب الأسطوري (المثيولوجي) لشعب كنعان، أنه بن حام بن نوح، وقد خرج من السفينة إلى اليابسة، ثم أصبح قبيلة (قبائل وبطونا مؤلفة من أبناء وأحفاد) تسميهم التوراة هكذا: الأروادي (من أرود) والصماري (من صمارة) والحماتي (من الحمت- الحمة). وهكذا تفرّق أبناء كنعان قبائل في الأرض. وبكل يقين، فهذه أنساب أسطورية هي خلاصة تصورات الكهنة المتأخرين عن (شعب قديم) ورد اسمه في التوراة. وكما هو واضح من تسلسل الأنساب، فإنه لا صلة لكنعان بالفلسطينيين، أو بما سوف يعرف بشعب (فلشتيم، فلستيين) الذين سوف يظهرون في نصوص التوراة كأعداء لكنعان.

لا يوجد قط في النصوص التوراتية أي صلة بين اسم (فلشتيم/ فلستيم)، أي ما يزعم أنهم (الفلسطينيون)، باسم كنعان، وهي خالية تماما من وصف أي صلة مهما كانت واهية بما يزعم أنهم الفلسطينيون

صلة معدومة
لا يوجد قط في النصوص التوراتية أي صلة بين اسم (فلشتيم/ فلستيم)، أي ما يزعم أنهم (الفلسطينيون) باسم كنعان، وهي خالية تماما من وصف أي صلة مهما كانت واهية بما يزعم أنهم الفلسطينيون. ولو أننا أعدنا قراءة هذه النصوص بدقة أكثر، فسوف يتأكد لنا أن لا صلة نسب أو علاقة أسرية بينهم وبين الفلستيين. فلماذا يزعم علماء الآثار من التيار التوراتي أن الفلستيين هم الفلستينيون وهم (كنعانيون)؟ إن نصوص التوراة لا تقول ذلك، بل تؤكد أنه شقيق (مصريم) و(كوش) و(فوط) وقد تفرقوا قبائل وبطونا.

إذا ما وضعنا هذا التصوّر التوراتي ضمن التاريخ السبأي/الحميري، فسوف نلاحظ ما يلي: إن هذا الوصف الجغرافي هو تصوّر أسطوري لعلاقة قبائل كبرى في ثلاث مناطق باليمن، هي: قبائل مصريم (مصرن الجوف)، وقبائل كوش وفوط. تقيم قبائل مصرن/مصريم في مناطق الجوف اليمني، وإلى جوارهم عاشت قبائل كوش وفوط. وهذه القبائل تعيش حتى اليوم في هذا الفضاء الجغرافي وبالأسماء نفسها: محافظة صعدة، مديرية غمر، عزلة ذوي محمد، قرية تربة، محلة شعب كوش، ومحافظة إب، مديرية حزم العدين، عزلة الشعاور، قرية بني محمد، محلة الفوط. ولنلاحظ أن كوش وفوط يعيشان في عزلتين بمكانين مختلفين، لكنهما تحملان الاسم نفسه (ذوي/ بني محمد). وهذه القبائل كانت ترتبط بقرابة دم مع قبائل مصرن/مصريم.

بهذا المعنى فقط، تكون نصوص التوراة قد وصفت العلاقات القرابية بين قبائل يمنية عاشت إلى جوار بعضها في الجوف وصعدة وإب. لكن ما هي حدود (أرض كنعان  Kənáʻan؟ كان شعب كنعان بلغة المثيولوجيا كما وردت في التوراة (سفر التكوين) هو الشقيق الأصغر لشعوب مصريم وكوش وفوط، لكنه بلغة الجغرافية اليمنية، شعب مجاور وشريك ساهم سوية وبالتعاون مع أشقائه في عمران وذمار وإب والجوف، في تشكيل ما سوف يعرف ب(اليمن). وهذا هو المغزى الحقيقي من الجغرافية المثيولوجية ذات الطابع الرمزي. فأين أقام شعب كنعان (أولاده وأحفاده بالمعنى الرمزي، أي بطونه وقبائله)؟

هاكم توصيف التوراة لحدود أرض كنعان، وهي المصدر الوحيد الذي بنى اللاهوتيون على أساسه تصورّهم لوجود شعب وحضارة باسم كنعان

حدود أرض كنعان
استناداً إلى قصص التوراة، فقد أقام كنعان في أرض تمتد من صيدون حتى جرار ثم من غزة حتى سدوم وعمورة وأدمه وصبوييم وصولاً إلى لسع. هاكم توصيف التوراة لحدود أرض كنعان، وهي المصدر الوحيد الذي بنى اللاّهوتيون على أساسه تصورّهم لوجود شعب وحضارة باسم كنعان
.

يقول سفر التكوين: 10: 19 ما يلي: وَكَانَتْ تُخُومُ الْكَنْعَانِيِّ مِنْ صَيْدُونَ، حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ جَرَارَ إِلَى غَزَّةَ، وَحِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَأَدْمَةَ وَصَبُويِيمَ إِلَى لشَعَ. וַיְהִי גְּבוּל הַכְּנַעֲנִי, מִצִּידֹן–בֹּאֲכָה גְרָרָה, עַד-עַזָּה:  בֹּאֲכָה סְדֹמָה וַעֲמֹרָה, וְאַדְמָה וּצְבֹיִם–עַד-לָשַׁע.

هذه هي حدود كنعان حسب التوراة. إنها تمتدّ من جرار حتى عزة/غزة، وسدوم وعمورة وأدمة وصبونييم حتى لسع. إذا كانت هذه هي أرض كنعان، فما علاقة فلسطين؟ وهل كانت حدود القطاع الجنوبي من الشام، أي ما سوف يعرف باسم فلسطين، تمتد من صيدا- صيدون (جنوب لبنان) حتى غزة على الحدود مع مصر؟ هذه حدود إمبراطورية لا أرض حدود شعب صغير؟ وإذا ما صدقنا خرافة شعب كنعان هذه، فأين تقع جرار التي تبدأ منها حدوده؟ وأين نجد صبوييم؟ وأين نجد لسع- لشع؟ وإذا ما تقبلنا -مرة أخرى- هذه الخريطة المثيولوجية كحقيقة جغرافية، فسوف تكون فلسطين القديمة قطاعاً جغرافيا عجائبياً، فهو يمتد من مصر حتى جنوب لبنان، ليبلغ حدود سدوم وعمورة (وهما قريتان ترتبطان بأسطورة فناء مرّوع) ثم صبويم צְבֹיִם- التي لا نعرف أين تقع، وصولاً إلى لسع- لشع  לָשַׁע.؟ وأين نجد جرار إذا ما كانت أرض كنعان تشمل فلسطين والأردن وسوريا؟

هذه هي حدود أرض كنعان كما وصفتها التوراة. فمن أين جاء اللاهوتيون الذين هيمنوا على علم الآثار طوال مئتي عام من الآن، بالخرافة القائلة إن حدود كنعان كانت مع مصر ولبنان والأردن وسوريا؟ إن هذه الفكرة المثيولوجية شديدة المركزية، فهي تتصل بشكل وثيق بوجود ثلاث (ممالك) يمنية في هذا العصر، هي: مملكة مصرن (مصريم) في الجوف، ومملكة جنوبية (كوش) وهي الاسم الديني لمملكة حضرموت التي هيمنت على أجزاء واسعة من الجنوب اليمني، ومملكة (قتبان) التي توسعت حتى محافظة إب. في هذا العصر ازدهرت عبادة الثالوث الكوكبي في اليمن القديم. وهذا ما يفسرّ لنا بشكل صحيح الآيات القرآنية التي تحدثت عن تحطيم إبراهيم لأصنام ورفضه عبادة الكواكب. لقد ظهرت هذه العبادة في حضرموت والجوف وامتدت حتى مأرب.

من أين جاء اللاهوتيون الذين هيمنوا على علم الآثار طوال مئتي عام من الآن، بالخرافة القائلة إن حدود كنعان كانت مع مصر ولبنان والأردن وسوريا؟

بعد جغرافي
ولنلاحظ أن التوراة تميّز بشكل دقيق بين أرض كنعان وأرض مصريم. إنهما كيانان مستقلان، فمصريم (معين مصرن) ظهرت في منطقة الجوف، وأقامت صلات (إدارية) مع جماعات أخرى في الشمال، وكانت تعيش بشكل مستقل عنها، بينما كانت حضرموت تعيش تنافسا محموماً مع قبائل الجنوب الحميري اليهودي حول خطوط تجارة البخور والدين. وحين نمعن النظر في النصوص التالية التي ترسم جغرافية أرض كنعان في عصر إبراهيم: سفر التكوين :11: 31/ كذلك 12: 5، فسوف تتضح لنا صورة هذه الأرض
:

وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطًا بْنَ هارَانَ، ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ كسديم لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ
.

וַיִּקַּח תֶּרַח אֶת-אַבְרָם בְּנוֹ, וְאֶת-לוֹט בֶּן-הָרָן בֶּן-בְּנוֹ, וְאֵת שָׂרַי כַּלָּתוֹ, אֵשֶׁת אַבְרָם בְּנוֹ; וַיֵּצְאוּ אִתָּם מֵאוּר כַּשְׂדִּים, לָלֶכֶת אַרְצָה כְּנַעַן, וַיָּבֹאוּ עַד-חָרָן, וַיֵּשְׁבוּ שָׁם.

فأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ، وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.

יִּקַּח אַבְרָם אֶת-שָׂרַי אִשְׁתּוֹ וְאֶת-לוֹט בֶּן-אָחִיו, וְאֶת-כָּל-רְכוּשָׁם אֲשֶׁר רָכָשׁוּ, וְאֶת-הַנֶּפֶשׁ, אֲשֶׁר-עָשׂוּ בְחָרָן; וַיֵּצְאוּ, לָלֶכֶת אַרְצָה כְּנַעַן, וַיָּבֹאוּ, אַרְצָה כְּנָעַן

نفهم من هذين النصّين ما يلي:

خرج إبراهيم النبيّ من مكان يدعى حران واتجه صوب أرض كنعان. ولمّا كان اللاّهوتيون في علم الآثار افترضوا أن حاران هذه هي حاران ديار بكر ضمن الأراضي التركية اليوم، فسوف يكون من غير المنطقي جغرافيا الافتراض أن إبراهيم خرج من أور (الكلدانيين في العراق) ليدخل في الأراضي التركية شمال سوريا، من أجل أن يصل إلى أرض كنعان على حدود مصر؟ هذه جغرافية خيالية.

إذا كان إبراهيم خرج من (أور الكلدانيين- أي العراق القديم حسب الترجمة المضللّة) فمن غير المنطقي أن يدخل أرض كنعان على حدود مصر من مكان لا وجود له

تلاعب
وكنت في حلقة سابقة (الجزيرة) شرحت بإسهاب مسألة أور الكسديم (وهي جبل الكُساد في لحج). ومع كل ذلك، يمكن (عقلنة) هذه الجغرافية التوراتية الجامحة فقط من خلال نزع براثن ومخالب اللّاهوتيين منها، فحاران هنا ليست حاران ديار بكر، بل هي حاران- حران محافظة الضالع غير بعيد عن جبل كسديم (ما يزعم أنها أور الكلدانيين) في لحج، ومن لحج يمكنه أن يدخل بسهولة إلى جرار، ومنها إلى أرض كنعان في مديرية الشمايتين حيث تقع لسع. وطبقاً لهذا التصوّر سوف تمتدّ حدود أرض كنعان حتى تعز وتخوم لحج في مديرية القبيطة. وبالطبع يستحيل تخيّل أن مصر البلد العربي كانت على تخوم حاران في ديار بكر التركية شمال سوريا. ما يؤكد ذلك المقطعان التاليان (تكوين: 12: 6/ 13: 7)
:

وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. וַיַּעֲבֹר אַבְרָם, בָּאָרֶץ, עַד מְקוֹם שְׁכֶם, עַד אֵלוֹן מוֹרֶה; וְהַכְּנַעֲנִי, אָז בָּאָרֶץ. فَحَدَثَتْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي أَبْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفَرِزِّيُّونَ حِينَئِذٍ سَاكِنِينَ فِي الأَرْضِ. וַיְהִי-רִיב, בֵּין רֹעֵי מִקְנֵה-אַבְרָם, וּבֵין, רֹעֵי מִקְנֵה-לוֹט; וְהַכְּנַעֲנִי, וְהַפְּרִזִּי, אָז, יֹשֵׁב בָּאָרֶץ.

إذا كان إبراهيم خرج من (أور الكلدانيين- أي العراق القديم حسب الترجمة المضللّة)، فمن غير المنطقي أن يدخل أرض كنعان على حدود مصر من مكان لا وجود له، يدعى (شكيم שְׁכֶם) التي وجود لها على حدود تجمع سوريا أو تركيا أو العراق، أو مصر؟ فكيف يدخل إبراهيم النبيّ أرض كنعان، إذا ما كانت على حدود مصر، وهو في مكان يدعى شكيم التي يقال لنا إنها نابلس؟ هذه جغرافية خيالية، لأن نابلس حسب التوراتيين هي السامرة، فهل دخل إبراهيم مصر من السامرة؟ هذا يعني أن هناك جغرافية أخرى جرى التلاعب بها.

المصدر : الجزيرة