28 عاما على المجزرة والأقصى لا يزال ينزف

صورة تجمع عددا من شهداء مجزرة الأقصى من بينهم عز الدين الياسيني
صورة تجمع عددا من شهداء مجزرة الأقصى من بينهم عز الدين الياسيني (الجزيرة)

أسيل جندي–القدس

بجسده النحيل وتجاعيد وجهه الدالة على هموم راكمتها السنين، استقبلنا المسن الفلسطيني جهاد حميدة الياسيني في منزله ببلدة العيساوية شرقي القدس المحتلة.

خلال لقاء استمر لساعات عاد بنا الياسيني إلى أحداث مجزرة المسجد الأقصى التي وقعت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 1990 واستشهد فيها نجله عز الدين، أصغر من ارتقى من الشهداء يومها.

ففي صباح ذلك اليوم قمع الاحتلال آلاف المصلين الذين اعتكفوا في المسجد الأقصى بهدف التصدي لاعتداء المستوطنين بعد دعوة ما تسمى جماعة أمناء الهيكل وقبيل عيد العُرش اليهودي إلى تنظيم مسيرة إلى المسجد الأقصى بنيّة وضع حجر الأساس "للهيكل الثالث" المزعوم.

أدى قمع الاحتلال للمصلين آنذاك لارتقاء 21 شهيدا وإصابة المئات بجروح متفاوتة جراء استخدام قنابل الغاز السام والأسلحة الأوتوماتيكية والطائرات العسكرية، كما شارك المستوطنون في إطلاق الرصاص الحي تجاه المصلين.

غير بعيد عن منزل العائلة آنذاك في طريق الواد بالبلدة القديمة، توجّه والد الشهيد عز الدين إلى مكان عمله في نادي أبناء القدس، فكلّف نجله البكر عز الدين ببعض المهام والعودة بسرعة إلى المنزل.

سمع الوالد أصوات إطلاق نار كثيف قادم من ساحات الأقصى، تخللته مناشدات انطلقت عبر المآذن لحث المواطنين على التوجه للمسجد لحمايته، فشعر بضرورة عودته للمنزل، وفور وصوله سأل زوجته عن أطفاله عز الدين وهاشم ومحمد، وأجابته بأنهم في الغرفة المجاورة.

جهاد حميدة الياسيني والد الشهيد عز الدين (الجزيرة)
جهاد حميدة الياسيني والد الشهيد عز الدين (الجزيرة)

خيال.. فحقيقة
"بحثتُ في كل أرجاء المنزل ولم أجدهم.. خرجت مسرعا وتسمّرتُ للحظات في الزقاق المقابل، ومرّ بمخيلتي مشهد لعز الدين وقد استشهد وخلفه الكثير من المصلين في الأقصى، التفتُ نحو الجيران وقلت لهم: ابني عز الدين استشهد"، يقول جهاد حميدة.

مرت الساعات ولم يتمكن الوالد الملهوف على مصير ابنه من الدخول للمسجد، وما زاد من قلقه شريط مر بمخيلته ثلاث مرات لعز الدين وهو مضرج بدمائه في ساحات الأقصى، ومع غروب الشمس تمكن وشقيقه من الدخول، وسألوا في طريقهم عشرات المقدسيين التائهين عن مصير عز الدين، لكن لم يشف أحد غليلهما.

توجه الشقيقان إلى مستشفى المقاصد في جبل الزيتون بعد فقدان الأمل، وعند مدخل ثلاجة الموتى وجدوا مئات المقدسيين يتجمعون هناك، دخل شقيقه قبله وخرج مغشيا عليه "لم ألتفت لشقيقي.. دخلتُ فورا فوجدت حذاء عز الدين وجواربه وسرواله، ثم وجدته جثة هامدة وقت له: يا عز أنا أبحث عنك منذ الصباح وأنت ترقد هنا! الله يرضى عنك يا ابني.. وهبتك لوجه الله، ثم خرجتُ وأعلنت نبأ استشهاده للمقدسيين".

أكد الوالد المسن أنه عاش حالة من الصدمة لم يخرج منها إلا بعد مرور أسبوعين على استشهاد نجله، "هرّبنا جثمان ابني بسيارة إسعاف وخلال الطريق إلى المقبرة تفقدتُ جسده الذي اخترقته 16 رصاصة، ودفناه في قبر واحد بجوار الشهيد موسى السويطي الذي ارتقى معه".

مجزرة الأقصى عام 1990 تبعتها انتفاضة الأقصى عام 2000 نصرة للمقدسات (الجزيرة)
مجزرة الأقصى عام 1990 تبعتها انتفاضة الأقصى عام 2000 نصرة للمقدسات (الجزيرة)

ألم غائر
لم نتمكن من لقاء والدته التي ترفض فكرة استشهاد نجلها رغم مرور 28 عاما على رحيل جسده النحيل إذ كان يبلغ من العمر حينها 15 عاما، ورغم فقدانها البصر قبل سنوات فإنها ترفض إزالة صور عز الدين عن جدران المنزل، وتُلحّ على زوجها بضرورة إصلاح إطارين لصور عز الدين بعدما كُسرا مؤخرا، فهي تدرك أنها تبصر الصور المعلقة على الجدران بقلبها لا بعينيها.

لعل أكثر الصورة الملفتة للانتباه في المنزل تلك التي كُتب أسفلها بخط اليد "بسم الله الرحمن الرحيم.. الشهيد عز الدين جهاد حميدة الياسيني"، وهي قصاصة ورق كتبها الشهيد ووضعها في جيبه عثر عليها المقدسيون في المستشفى وسلموها لاحقا لوالده الذي وضعها في إطار مع إحدى صوره.

وعن هذه الكلمات قال الوالد "أقسم عز الدين أن يأخذ بثأر ابن عمه الشهيد أكرم الياسيني الذي ارتقى قبله بأشهر، فواظب على المشاركة في المواجهات مع الاحتلال واضعا هذه القصاصة في جيبه إلى أن تحقق ما كتبه ولحق بأكرم".

لم يلتئم جرح هذه العائلة، كما لا تلتئم جروح الفلسطينيين على ما يحدث من اعتداءات مستمرة في المسجد الأقصى، فبعد هذه المجزرة استمرت الانتهاكات لعل أبرزها انطلاق شرارة انتفاضة الأقصى بعد اقتحام أرييل شارون باحاته عام 2000، وإغلاقه بشكل كامل أمام المسلمين في صيف 2017 بعد استشهاد ثلاثة شبان داخله والشروع في تركيب بوابات إلكترونية على مداخله.

المصدر : الجزيرة