سوق العطّارين.. حكاية صمود بفصولها الأخيرة


أسيل جندي-القدس

عاد المقدسي مجدي البكري من الإمارات بعد حرب الخليج، ليجلس في مقهى والده بسوق العطّارين في البلدة القديمة من القدس، يعد المشروبات الساخنة لتجار السوق وعابري السبيل. لكن بعد مرور 26 عاما على عودته لمسقط رأسه القدس، وجد أن "الغربة في الوطن أقسى بكثير من الغربة خارجه".

وفي حديثه للجزيرة نت، قال البكري إن السوق بدأ ينهار تدريجيا مع إقامة الجدار العازل عام 2002، ولم يقتصر الانهيار على الوضع الاقتصادي بل تعداه للخطر الذي يُحدق بالتجار أثناء توجههم لحوانيتهم الواقعة في البلدة القديمة بالقدس، إثر الأوضاع المتدهورة بالمدينة عاما بعد عام.

وأضاف "اضطررت للصمود في القهوة الصغيرة حتى يكمل أبنائي دراستهم الجامعية، لكنني أشك في إمكانية استمرارنا جميعا في البلدة القديمة بعد عام من الآن لأن الأوضاع الاقتصادية والأمنية تتدهور بشكل كارثي بالقدس".

هنا ولدنا
أما تاجر الأقمشة وحيد الإمام فيستذكر أيام انتعاش السوق قائلا "كنتُ أتوجه بشكل يومي للحانوت بعد انتهاء الدوام المدرسي لأساعد جدي في العمل، ولدنا في هذا السوق وكبرنا به وكُتب لنا أن نشهد حاليا على مرحلة الاحتضار التي يمر بها بسبب انعدام الحركة الشرائية التي بدأت تضعف منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000″.

‪البكري عاد من الإمارات بعد حرب الخليج ليجلس في مقهى والده بسوق العطّارين‬  (الجزيرة نت)
‪البكري عاد من الإمارات بعد حرب الخليج ليجلس في مقهى والده بسوق العطّارين‬  (الجزيرة نت)

ولا يرى الإمام بصيص أمل في مستقبل أكثر انتعاشا لسوق العطّارين، مؤكدا أن جميع التجار يتوجهون لعملهم لقضاء أوقات فراغهم وتبادل أطراف الحديث مع بعضهم البعض حتى لا يبقون حبيسي المنازل.

وتشدّ الزائر لسوق العطارين رائحة البهارات والتوابل العربية المنبعثة من أول حانوت في السوق، ثم يقع النظر على البضائع المعروضة في الحوانيت المجاورة ذات الألوان المتعددة والتي تضفي على هذا السوق لمسة شرقية تجعل من المرور فيه متعة فريدة من نوعها.

وتعود بدايات سوق العطارين للفترة الصليبية، إذ عثر علماء الآثار على قواعد صليبية في المكان، لكن البناء الحالي للسوق مملوكيّ ورُمم جزء منه في الفترة العثمانية.

وأُطلق على سوق العطارين وسوقْي اللحامين والخواجات اسم السوق الثلاثي لأنّ الأسواق الثلاثة متلاصقة، يتوسطها سوق العطارين ويقع سوق اللحامين غربه والخواجات شرقه.

وسميت معظم الأسواق في مدينة القدس قديما نسبة للمهنة التي امتهنها الحرفيون في الفترة المملوكية على وجه التحديد فكان لكل سوق تخصصه، وسوق العطارين نُسب لمهنة العطارة التي انتشرت فيه، وكانت تستورد التوابل على اختلاف أنواعها في ذلك الحين من الهند.

تبلغ مساحة السوق نحو ثمانية دونمات (ثمانية آلاف متر مربع) ويحتوي على 56 حانوتا متلاصقة، ويلتقي من الجهة الجنوبية مع سوق البازار، ومن الشمال يتقاطع مع الطريق المؤدي لكنيسة القيامة ومدخل يوصل إلى سوق خان الزيت.

جمعيات استيطانية تسيطر على مبان تقع أعلى سوق العطارين (الجزيرة نت)
جمعيات استيطانية تسيطر على مبان تقع أعلى سوق العطارين (الجزيرة نت)

وتدخل أشعة الشمس للسوق عبر فتحات (فضّايات) في السقف المكون من أقواس عالية فيها متعة بصرية لناظريها. والأسواق المملوكية نموذجية لأن المماليك اهتموا بتطويرها وإعمارها فكانت مراكز تسوق عالمية، وبالإضافة لسوق العطارين والخواجات واللحامين والقطانين بالقدس، فإن عددا من الأسواق المملوكية النموذجية في كل من سوريا ومصر ما زالت تشهد على جمالية العمران في تلك الفترة.

هيمنة استيطانية
اليوم تسيطر الجمعيات الاستيطانية على سطح سوق العطارين، وبعد استيلائها على أحد منازل المقدسيين هناك حوّلته لكنيس، ويتعرض تجار السوق الثلاثي لكثير من المضايقات من المستوطنين من خلال الفتحات الجانية والعلوية للسوق، في محاولات مستمرة لإجبار التجار على هجر حوانيتهم لتسهل السيطرة عليها.

ورغم كل ما يتعرض له التجار فإن جميع الحوانيت ما زالت تفتح أبوابها، لكنّ عددا كبيرا منها تحول من مهنة العطارة لتخصصات وبضائع أخرى، نظرا لاختلاف احتياجات المواطنين مع مرور السنين مما أثّر على ملامح السوق التاريخية.

وهكذا تُغلق حوانيت سوق العطّارين أبوابها وتتهيأ لولادة نهار جديد يأمل التجار في أن يحمل معه الأمن والسلام والانتعاش لمدينتهم وأسواقها. 

المصدر : الجزيرة