أم شريف ذوقان.. "أم وشقيقة الأسرى" تروي 4 عقود من الطواف بين سجون الاحتلال

لم تدَّخر أم شريف ذوقان وسيلة إلا واستخدمتها لزيارة السجون أو حضور محاكمات أبنائها، فركبت سيارات باعة الخضار والمزارعين، وقطعت جبالا وأودية سيرا على الأقدام.

"كان الثلاثاء مخصصا لزيارة أمير في سجن هداريم، والأربعاء لمظفر بمعتقل مجدو، والخميس كنت أزور عرابي في سجن ريمون"، كان يحدث ذلك فعلا لدى كفى ذوقان "أم شريف" حين غيَّبت سجون الاحتلال الإسرائيلي أبناءها الثلاثة بآن معا.

يكفي أن تدخل زقاقا واحدا في مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين (شرق نابلس) لتعرف حجم معاناة أم الشريف ذوقان أو "أم الأسرى" كما توصف، فـ4 عقود من الاعتقال والزيارات للسجون الإسرائيلية لم تنته رغم تحرر "عرابي" آخر أبنائها المعتقلين قبل أيام بعد 18 عاما من الاعتقال.

تلك السنون مضت من عمر أم شريف حين طرقت باب سجن "عتليت" داخل الخط الأخضر عام 1978 لتزور شقيقها أحمد، حينها كانت وأمها تتناوبان على الزيارة، قبل أن ترحل أمها، وتترك لها حملا ثقيلا زاد باعتقال الاحتلال لأبنائها الأربعة؛ شريف وأمير ومظفر وعرابي.

وتجاوزت مرات اعتقال شقيقها الـ30 مرة، أما أبناؤها فبالكاد تستجمعها، وتحصي السنوات أو اقتحامات المنزل وتفجيره، وبكل مرة كانت تخرج أقوى، لا سيما بعد اعتقال نجلها الأكبر شريف عام 1986، وهو طفل في الـ12 من عمره.

كل الطرق تحقق الزيارة

مستذكرة سنين الأسى عادت أم شريف لتخبر الجزيرة نت ببرنامج زيارتها، الذي يبدأ في الثالثة فجرا وينتهي بعد منتصف الليل غالبا، وقبل أي زيارة توضب منزلها وتحضر متطلبات نجلها الأسير وخاصة الملابس، التي يحدد الاحتلال لونها وشكلها.

ولم تدَّخر وسيلة إلا استخدمتها لزيارة السجون أو حضور محاكمات أبنائها، فركبت سيارات باعة الخضار والمزارعين، وقطعت جبالا وأودية سيرا على الأقدام.

وتقول إنه خلال الاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية بين عامي 2002 و2003، ولتصل قاعة المحكمة الإسرائيلية كانت تغادر منزلها قبل يوم من الموعد، وتنام عند أقارب لها بمدينة جنين (شمالا) الأقرب لمحكمة سالم العسكرية الإسرائيلية.

عاطف دغلس- الأسير عرابي ذوقان نجل ام شريف افرج عنه قبل أيام بعد 18 عاما من الاعتقال وهو آخر ابنائها المعتقلين- الضفة الغربية- نابلس- مخيم بلاطة- الجزيرة نت1
الأسير عرابي ذوقان نجل أم شريف أفرج عنه قبل أيام بعد 18 عاما من الاعتقال، وهو آخر أبنائها المعتقلين (الجزيرة)

ومن كثرتها لم تحص أم شريف زياراتها لسجون الاحتلال، التي باتت تحفظ أسماءها ومواقعها غيبا، من مجدو (شمالا) مرورا بهداريم والرملة وانتهاء بنفحة والنقب وبئر السبع (جنوبا)، وعشرات من المعتقلات ومراكز التحقيق، وتقول بلهجتها "ما خليت سجن يعتب علي" أي لم تترك سجنا إلا زارته.

وتعتقل إسرائيل في سجونها نحو 4500 أسيرة وأسير فلسطيني، بينهم41 أسيرة، و140 طفلا تقل أعمارهم عن (18) عاما، فضلا عن 25 من الأسرى القدامى و550 أسيرا مريضا، ونحو 440 معتقلا إداريا (بدون ملف اتهام أو فترة اعتقال محددة).

صلف الاحتلال

وغير آبه بطول المسافة التي قطعتها حتى وصلت المعتقل، لطالما أعاد السجان الإسرائيلي أم شريف، وحرمها الزيارة، وكان "ينتقيها" من بين ذوي الأسرى كنوع من العقاب، الذي أكمله بمنعها السفر لأداء فريضة الحج.

بعد اعتقاله لمدة 18 عاما، أفرجت إسرائيل عن أمير ذوقان ضمن صفقة وفاء الأحرار (شاليط) عام 2011، وأبعدته إلى غزة لتبقي نار الحزن والشوق متقدة.

وأقسى المشاهد، التي وثقتها ذاكرتها الستينية، إرجاعها من الزيارة بذريعة أن جسما غريبا داخل جسدها، فأخبرتهم أنه "بلاتين طبي" زرع برجلها إثر عملية جراحية، فرد السجَّان مستنكرا وبصلف طلب منها خلعه.

فجلست تندب حظها وأجهشت بالبكاء، ولم تمض بضع دقائق حتى وصل الخبر لنجلها الأسير عرابي والأسرى، فانتفضوا احتجاجا حتى سمح لها بالزيارة ولقاء ابنها.

يقاطع عرابي الحديث، ويقول إن اتفاقا يعقد بين الأسرى والسجان، ويقضي بعدم التعرُّض للأهل بأي شكل، كسحب تصاريحهم واحتجازهم أو تعريضهم للتفتيش العاري. ويضيف "أي إخلال بالاتفاق يرفضه الأسرى، ويحتجون بطريقتهم كإرجاع وجبات الطعام والطرق على أبواب السجن وغير ذلك".

ويستخدم الاحتلال الزيارات كوسيلة لعقاب الأسير أو ذويه، فقد يحرمهم منها نهائيا أو لأشهر وسنوات أحيانا، أو يمنحهم تصريحا أمنيا (الزيارة مرة كل 4 أو 6 أشهر).

وتزيد المعاناة بنقل الاحتلال الأسير للمحكمة أو لسجن آخر أو عزله قبل ساعات من زيارته ودون علم ذويه، وقد يلتقي الأسرى الأشقاء بسجن واحد كما حدث مرة مع نجلي أم شريف عرابي وأمير، فجلست تحمل سماعتي الهاتف بكلتا يديها وتتحدث إليهما.

عاطف دغلس-أزقة مخيم بلاطة وجدارانه تزينت بالصور والشعارات ابتهاجا بتحرر عرابي ذوقان بعد 18 عاما من الاعتقال- الضفة الغربية- نابلس- مخيم بلاطة- الجزيرة نت7
أزقة مخيم بلاطة وجدرانه تزينت بالصور والشعارات ابتهاجا بتحرر عرابي ذوقان بعد 18 عاما من الاعتقال (الجزيرة)

جرح لم يلتئم

والشوق نفسه يعيشه الأسير لرؤية ذويه، فيحلق رأسه استعدادا، ويضع عطرا، وهو يدرك أن رائحته لن تتجاوز الجدار الزجاجي بينه وبين ذويه، ويقول عرابي للجزيرة نت "الزيارة ترفع معنويات الأسير وتخفف وضعه النفسي".

يحق للأسير أن يلتقط صورة أو اثنتين حسب السجن القابع فيه مع ذويه من الأب والأم، إذا كانوا فوق 60 عاما، ولمرة واحدة كل 5 سنين.

وبمرارة يساوي عرابي بين الزيارة والبوسطة (حافلة ترحيل الأسرى)، ويصفها بـ"قطعة من العذاب"، فالرحلة ذاتها خلال زيارة الأهل؛ تنَقُّل وتفتيش طوال النهار واستجواب واحتجاز.

وظلت أم شريف تزور السجون إلى أن أقعدها المرض، وصارت طريحة الكرسي المتحرك، فكانت آخر زيارة لها عام 2017 على الكرسي ذاته وبرفقة أمراض الضغط والسكر، التي نالت من جسدها بعد سنين المعاناة تلك.

اليوم وبعد 20 عاما من الغياب قسرا تلتقي أم شريف وأولادها على مائدتها الرمضانية بمنزلها في مخيم بلاطة، الذي تزينت جدران أزقته بالصور والشعارات ابتهاجا بتحرر نجلها عرابي.

غير أن الغصة لم تزل، فأمير ما يزال مبعدا إلى غزة، ولعل صورا يرسلها إلكترونيا لأطفاله تثلج صدرها، وتطفئ نار شوقها لرؤياه، ويشاركه في هذا عشرات الأسرى وعائلاتهم بمخيم بلاطة دونت أسماء بعضهم على الجدران أملا بالإفراج القريب.

المصدر : الجزيرة