من بيروت إلى موريشيوس.. كوارث سوء تنظيم النقل البحري

A general view shows the bulk carrier ship MV Wakashio, that ran aground on a reef, at Riviere des Creoles
صورة جوية للسفينة اليابانية التي تسببت في تلوث هائل على سواحل موريشيوس (رويترز)

بين انفجار بيروت المروع الذي دمر جزءا منها، وبقعة النفط التي تدمر جزيرة موريشيوس هناك شيء مشترك؛ إنه ضعف تنظيم قطاع النقل البحري الذي ينقل 90% من البضائع العالمية، وهو من تقع عليه مسؤولية هذه الحوادث.

بهذا التمهيد بدأ موقع ميديابارت Mediapart مقابلة أعدتها لوسي ديلابورت مع عالمة الاجتماع كلير فليشر المتخصصة في النقل البحري، من أجل إلقاء الضوء على هذا الموضوع.

وقبل الدخول في صلب الموضوع ذكّرت المحررة بالناقلة "صافر" (Safer) التي اعتبرتها "قنبلة عائمة" على شاطئ غير بعيد من اليمن، وهي ناقلة مهجورة منذ عام 2015، وبها ما يعادل مليون برميل من النفط الخام، وتهدد بالانفجار في كل لحظة.

ولئن كانت الأمم المتحدة دقت ناقوس الخطر بشأن ما تمثله هذه السفينة من خطر إلحاق كارثة بيئية وبشرية غير مسبوقة بالمنطقة، فإن المتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على الشواطئ يمنعون في الوقت الحالي أي تدخل في الموضوع؛ لأن الحكومة اليمنية تدّعي ملكية الشحنة.

كما ذكّرت المحررة بما سبّبه غرق ناقلة يابانية في 25 يوليو/تموز قبالة جزيرة موريشيوس من تسرب حوالي ألف طن من زيت الوقود، مضيفة إلى ذلك ما أحدثته رحلة السفينة "روسوس" (Rhosus) من انفجار مروع عصف بجزء من بيروت بعيدا عن المسؤوليات السياسية في هذا الشأن.

تدافع المسؤوليات

وانطلقت المقابلة من قضية المسؤوليات في هذا القطاع المعقد، حيث تتدافع الجهات الفاعلة المختلفة فيه المسؤولية بعد كل حادثة، بين مالك السفينة (المالك) والمستأجر (الشخص الذي يشغلها) ودولة العلم التي يطبّق قانونها على السفينة.

وذكرت المتخصصة في النقل البحري أن السفينة تكون مسجلة تحت علم يربطها بإدارة بحرية؛ لكنه نادرا ما يكون علم بلد المالك، ويمكن أن يطلق عليه "علم الملاءمة" لأن هذه العملية تسمح لمالكي السفن بالتهرب من الضرائب والقوانين في بلدانهم، وهو أمر مفيد بشكل خاص من حيث معايير العمل أو البيئة.

وعلى الرغم من أن غالبية مالكي السفن يأتون من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوروبية، حيث الضوابط والتشريعات أكثر صرامة، فإن 70% من الأسطول مسجل تحت أعلام ملاءمة، أشهرها ليبيريا وبنما ومالطا.

وضربت عالمة النقل مثالا بالسفينة المسؤولة عن التسرب النفطي في موريشيوس، وهي ناقلة يابانية تم بناؤها من قبل شركة ناغاشيكي كيسن، وتشغلها شركة أخرى "مول" (MOL)، وفي هذه الحالة فإن مشغل السفينة ليس هو المالك لكنه مستأجر، مما يعني أنه مسؤول ويجب عليه دفع كل ما يتعلق بالسفينة من صيانة وتكاليف تشغيلية وما يتعلق بالطاقم من إمدادات.

ويبدو أن الجميع في الوقت الحالي يتدافعون المسؤولية مثل كرة المضرب، ومع أن التحقيق مستمر، فإن هناك مخاوف من أن يحمل القبطان الذي يحقق معه الآن مسؤولية غرق السفينة بمفرده تقريبا.

أما بالنسبة للسفينة صافر التي تم التخلي عنها قبالة اليمن منذ عام 2015 والتي ترفع علم اليمن، فإن الوضع يبدو أكثر تعقيدا مما عليه الحال في البلاد التي تعاني حربا أهلية؛ لأن إدارة العلم اليمنية في هذه الحالة غائبة تماما، كما تقول العالمة.

ما الذي يفسر هجر السفن؟

وقالت العالمة إن التخلي عن السفن يحدث عندما يتعذر على المالك أو عندما لا يرغب في دفع تكاليف تشغيلها، سواء كانت تكاليف الصيانة أو رواتب الطاقم أو الوقود لتحريك القارب أو تكاليف الميناء أو التوقف، وغالبا ما تكون السفينة عند التخلي عنها بدلا من بيعها في حالة سيئة، ولن تجد مشتريا.

وحتى إذا وجد المالك مشتريا، فسيتعين عليه عندئذ إيجاد شركة تصنيف وشركة تأمين للتصديق على السفينة والتأمين عليها، إلا أنه في أغلب الأحيان إن لم يكن الأمر مطردا، فإن السفينة تكون عليها أجور غير مدفوعة وديون لشركات تأمين وإجراءات قانونية، مما يجعل الاختفاء أسهل عادة من إعادة بيع "السفينة المسمومة".

ورأت العالمة أن حالة السفينة روسوس التي كانت تحمل الشحنة التي خلفت انفجار بيروت المدمر، تمثل الحالة النموذجية لترك السفينة، فمشغلها رجل أعمال روسي، وهي مسجلة تحت علم مولدوفا التي لم تصدق على اتفاقية العمل البحري، ومالكها يعمل من قبرص مع شركة مقرها جزر مارشال المعروفة بأنها من بلاد "علم الملاءمة".

ونبهت العالمة إلى أن توقف تقديم الصيانة الأساسية من قبل مالك السفينة أو توقف الأجور، علامات تحذير من احتمال التخلي، وعندها يمكن للبحارة تنبيه الاتحاد الدولي لعمال النقل من خلال مفتشيه للعمل من أجل تسوية المدفوعات المستحقة.

ومنذ عام 2006 أصبح لدولة الميناء تحكم في السفن التي تستدعيها بغض النظر عن دولة العلم، وهذا ما يسمى مراقبة دولة الميناء التي قد تجد أن السفينة في حالة سيئة، وقد تحتجزها، كما في حالة السفينة روسوس التي أوقفت في مرفأ بيروت من قبل سلطات الموانئ اللبنانية بعد أن قررت أنها غير صالحة للإبحار في حين أعلن مالكها الإفلاس.

وهكذا -تقول العالمة- تقطعت السبل بجزء من الطاقم على متن السفينة لمدة عام تقريبا، وهم على ظهر "هذه العبوة الناسفة" غير قادرين على النزول، وهم سجناء لعدم امتلاكهم موارد مالية للعودة إلى الوطن، ناهيك عن مشاكل التأشيرة.

عقوبات منخفضة

وأشارت العالمة إلى أن عدد السفن المهجورة في تزايد، وهي الآن تبلغ ما بين 40 و50 سفينة مهجورة كل عام، إلا أن الإحصاءات منذ إنشاء قاعدة البيانات من قبل المنظمة البحرية الدولية في عام 2004، تتحدث عن 366 سفينة مهجورة، من بينها 52 حالة ما تزال دون حل، إما بسبب دولة العلم أو مالك السفينة أو التأمين.

وأشارت العالمة إلى أن قياس تأثير الأزمة الصحية على القطاع ما يزال أمرا صعبا، وإن كان هناك بالفعل انخفاض أكبر من المتوقع في حركة النقل البحري حيث أعلن مالك شركة السفن اليابانية مول عن تركه حوالي 40 سفينة تحسبا لانخفاض نشاطها بنسبة 25% من الحاويات عام 2020.

وفسرت فليشر عدم الاهتمام بتنظيم النقل البحري رغم هذه الكوارث المذهلة؛ بأنه يعود إلى أن المعنيّ الأول فيه هم بحارة من دول ذات مستوى معيشي منخفض، بالإضافة إلى أن المشغلين أقوياء للغاية، وأصحاب السفن لا يريدون اهتمام السلطات العامة بهم كثيرا.

ونتيجة لذلك، فإن القانون البحري لا يتوقع منه الكثير؛ لكنه يتطور في معظم الأوقات كرد فعل على الأزمات البشرية أو البيئية التي تسرع من تبني الاتفاقيات الدولية التي تعتبر أساسية للحد من الانتهاكات.

وخلصت عالمة الاجتماع إلى أن العقوبات على انتهاكات القانون البحري ما تزال منخفضة مقارنة بالمخاطر، كما أن المشكلة الحقيقية تكمن في ضعف أدوات المراقبة، وإن كان تم علاجها جزئيا منذ عام 2006 ببعض الاتفاقيات.

المصدر : ميديابارت