ماذا يضمر النظام المصري لمجانية التعليم؟

School teachers Omaima Eid and Eman Saeid play with students in Nile River school where young children are taught the basics of self-development through languages and various crafts in Al-Ayyat district southern of Cairo, Egypt April 29, 2018. Picture taken April 29, 2018. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
معلمتان مصريتان تلعبان مع تلاميذ صغار في أبريل/نيسان الماضي (رويترز)

 عبد الكريم سليم-القاهرة

"وكأن هناك تعليمًا مجانيًا، ولكن الحقيقة أنه لا تعليم هنالك ولا مجانية، والحكومة تتعمد هذا الحال لكي نطلب منها أن تتعامل بواقعية وتلغي مجانية التعليم، مقابل الحصول على تعليم جيد بلا دروس خصوصية".. هكذا ردت نهى والدة تلميذة بالإعدادية على أحدث تصريحات وزير التعليم المصري التي أشار فيها إلى إلغاء مجانية التعليم.

تصريحات وزير التعليم طارق شوقي أحدثت صخبًا دفعه لتفسيرها لاحقًا بأنه يريد فقط تنظيم دفع الأموال في سوق الدروس الخصوصية، وصولا إلى منتج تعليمي جيد، مع بقاء مجانية التعليم للفقراء.

وتنص المادة 19 في دستور مصر المكتوب عام 2014 على مجانية التعليم على أن "التعليم إلزامي حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية، وفقاً للقانون".

واقع المدارس الحكومية
"باتت المدارس هي الملتقى المفضل لتكوين الصداقات بين الطلاب، وقضاء وقت لطيف، فلا المدرس قادر على الشرح ولا حتى راغب فيه، أما الطلاب فاستبدلوا مراكز الدروس الخصوصية بالمدارس"، حسب معلمين تحدثوا للجزيرة نت.

وأوضح المعلمون أن بعض الفصول في المدارس الحكومية تبلغ الكثافة فيها نحو مئة طالب وطالبة، في ظل ما تعانيه هذه المدارس من شح في مستلزمات إدارة العملية التعليمية.

"إذن، ما فائدة المدارس؟ وأين مجانية التعليم المزعومة؟"، يتساءل نبيل ولي أمر طالبة بالصف الثالث الثانوي، يدفع لها في مراكز الدروس الخصوصية نحو 3500 جنيه شهريًا (200 دولار تقريبًا).

وإذا كان نبيل قادرا على اقتطاع هذا المبلغ الكبير نسبيًا من دخله، فإن راشد -وهو محاسب- لم يعد قادرا على مواصلة الدفع لأبنائه كما كان قبل عامين، مع تدهور الحال وارتفاع الأسعار.

يرى راشد في حديثه للجزيرة نت أن التعليم المجاني هو "الحد الأدنى للتعليم" رغم كل "سوآته الفادحة"، وإذا لم يستمر مجانيًا فسيضطر لإخراج أبنائه من المدرسة.

‪تلاميذ وأهاليهم أمام مدرسة حكومية في الجيزة‬   (الجزيرة)
‪تلاميذ وأهاليهم أمام مدرسة حكومية في الجيزة‬   (الجزيرة)

تنظيم الدفع
في جلسة برلمانية عقدت الأحد الماضي، قال وزير التعليم إن المصريين يدفعون آلاف الجنيهات لحفلات المطربين ثم يبخلون على الحكومة التي تعلم أبناءهم، مشيرًا إلى أن الحكومة بصدد مراجعة فكرة مجانية التعليم.

ووافقه برلمانيون من مختلف الأحزاب على كلامه، وقال رئيس البرلمان علي عبد العال إنه لا ينبغي أن يتعلم الراسبون مجانا في مدارس الدولة، مؤكدًا أنه خريج التعليم المجاني.

وسرعان ما حاول الوزير التراجع عن تصريحاته المثيرة بعد هجوم صاخب ضده في منصات التواصل الاجتماعي، وقال إنه كان يقصد تنظيم عملية دفع المصريين لأموال الدروس الخصوصية، والبالغة نحو 200 مليار جنيه (نحو 11 مليار دولار)، ليحصلوا على "منتج تعليمي جيد".

وأضاف شوقي لإحدى الفضائيات المحلية "إننا كحكومة قادرون على دفع 90 مليار جنيه (نحو 5 مليارات دولار)، والناس تدفع 120 مليار جنيه للدروس الخصوصية، دون أن يكون هناك عائد تعليمي جيد.. إننا نبحث عن صيغة اقتصادية أخرى تجعل من هذا المبلغ الضخم وقودًا لاستمرار النظام التعليمي الجديد الذي يشهد له القاصي والداني".

ولفت إلى تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن الدولة تحتاج نحو 130 مليار جنيه (نحو 7.4 مليارات دولار) لإنشاء فصول جديدة.

وأكد شوقي أن المجانية المنصوص عليها في الدستور غير متحققة واقعياً كما كان مستهدفًا، بدليل تكلفة التعليم الباهظة من دروس وكتب خارجية، التي يشكو منها الفقير والغني على حد سواء.

‪هروب تلاميذ من مدرسة حكومية في أكتوبر/تشرين الأول 2017‬ (الجزيرة)
‪هروب تلاميذ من مدرسة حكومية في أكتوبر/تشرين الأول 2017‬ (الجزيرة)

نوايا الحكومة
رأى مراقبون في تصريحات الوزير فضحًا مبكرًا لخطط الحكومة بإهمال أو إلغاء التعليم المجاني، مع السعي لاقتسام "كعكة" الدروس الخصوصية مع المراكز التعليمية المنتشرة في البلاد بدون تراخيص.

ويدلل الكاتب والخبير الاقتصادي ممدوح الولي على ذلك بتراجع مخصصات التعليم في موازنة العام المالي الحالي، إذ تمثل نحو 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعد مخالفة لنصوص دستور 2014 بتخصيص نسبة 4% من الناتج المحلي للتعليم.

وتنص المادة 19 في دستور عام 2014 على أن "تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية".

وأوضح الولي في حديثه للجزيرة نت أن مخصصات التعليم في الموازنة الحالية بلغت 89 مليار جنيه للتعليم قبل الجامعي، منها 80% لأجور المعلمين والعاملين بالمدارس الذين يتخطى عددهم المليون فرد، و7% لمستلزمات العملية التعليمية، وأقل من 12% لبناء المدارس.

ويرى أن سعي الحكومة للتوفير بإلغاء مجانية التعليم ستنتج عنه خسائر اقتصادية قومية ضخمة في المقابل، بازدياد أعداد المتسربين من التعليم، ومضاعفة عمالة الأطفال، وارتفاع معدلات التفاوت الاجتماعي، والإحباط وعدم الانتماء.

وأضاف الولي أن ذلك يعني في المحصلة النهائية تدهورًا في التنمية البشرية سينعكس على ضعف كفاءة العمالة والإنتاج، وانخفاض الطلب خارجيًا على العمالة المصرية ضعيفة المستوى التعليمي.

فتش عن صندوق النقد
يعتقد المدير السابق للمدارس القومية في العجوزة بالعاصمة المصرية ناجي الشهابي أن الخطة الحكومية التي كشفها الوزير -دون قصد- تأتي في إطار اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي على خفض أعداد الموظفين في الدولة -ومنها وزارة التعليم- عبر إلغاء المجانية وتسريح المعلمين.

وتنص اتفاقية الحكومة مع صندوق النقد على إجراءات "إصلاح اقتصادي" -وصفها النظام بالقاسية- تضمن خفض الدعم الموجه للسلع والخدمات، وهو ما أثار غضب قطاعات واسعة من المصريين، خاصة الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل، كما رفض خبراء اقتصاد اعتبار هذه الإجراءات "إصلاحا".

وشدد الشهابي في حديثه للجزيرة نت على أن التعليم ليس مجرد "عملية تلقينية جالبة للربح؛ حتى تسعى الحكومة لاقتسام عوائدها مع مراكز الدروس الخصوصية".

وطالب "بألا تظلم الحكومة الفقراء ظلماً مضاعفاً، وألا تحملهم مسؤولية فشلها في تحسين التعليم"، مشيرا إلى توافر خطط التطوير الجيدة "لو توافرت الإدارة الرشيدة والنوايا الصادقة".

ويؤكد الشهابي أن مجانية التعليم أخرجت لمصر رموزاً في كافة المجالات، مضيفًا أن "التعليم عملية متكاملة لبناء إنسان مؤهل للانخراط في المجتمع بكفاءة وفاعلية، وتدميره تدمير للإنسان المصري".

المصدر : الجزيرة