حكايات النزوح القديمة تتجدد في سوريا

نزوح السوريين إلى لبنان هربا من تصاعد المواجهات
undefined

اعتادت عائشة العجوز الثمانينية أن تدفن رأسها تحت الوسادة كل ليلة وتدير حبات سبحتها وتبتهل، محاولة أن تصم أذنيها عن أصوات الرصاص والقذائف والطائرات التي لم تتوقف عن استهداف قرى غوطة دمشق منذ أشهر.

"أريد أن أموت في بيتي" هكذا كانت ترد كلما طلب منها أولادها الخروج، فعلت كل شيء لتعود إلى بيتها في المرات التي زاد فيها التصعيد، لكنها لا تعرف الآن متى ستهدأ الأمور وتتمكن من العودة ثانية، وتوضح أنه لا عمرها ولا صحتها ولا معنوياتها تسمح لها بتحمل مشقة النزوح مجددا، وهي التي جربته باكرا في حياتها.

تجلس عائشة على حافة الأريكة بقوامها الضئيل، وتتحدث بوجهها المتغضن عن قصة الرحيل التي بدأت عام 48 حين كانت بالعاشرة من عمرها عندما خرجت مع إخوتها الصغار ووالدتها من قريتها الريحانية بفلسطين وقصدوا الجولان السوري، تركوا بيتهم ذا الطابقين وبساتينهم ليعيشوا حياة معدمة وشديدة الفقر.

ذكرى نزوح
الصراع المتصاعد في سوريا نكأ جراح عائشة واستثار أيضا ذكريات النزوح لآلاف الجولانيين الذين نزحوا عن أرضهم عام 67 واستقر معظمهم في دمشق وريفها، والآن يجدون أنفسهم أمام مقارنات لا تحصى بين تلك التجربة بالماضي والمعاناة الحالية، وكثير منهم شد الرحال مجددا إلى الجولان الذي يشهد بالجزء المحرر منه موجة نزوح عكسية.

العديد من الجولانيين تحدثوا للجزيرة نت عن حكايات رحيلهم القديمة عندما احتلت إسرائيل أرضهم، وعن قصصهم ومعاناتهم الحالية دون أن ينسوا الوقوف عند المفارقات بين الحالتين.

كثير من السوريين أصبحوا يجهزون ما يسمونها حقيبة النزوح استعدادا لحملها والمغادرة إلى أقرب ملجأ بأي لحظة

فلا يمل فارس العجوز الثمانيني من تكرار تلك الحادثة عند مغادرته مدينة القنيطرة، حيث جمع أمتعته في شاحنة لكن جنودا من الجيش السوري اعترضوا طريقه وسمحوا له بالمرور لكن دون ما يحمله من أثاث، فاضطر لإعادته إلى القنيطرة، ويقول ساخرا "لقد باعوا المدينة مفروشة".

الرجل الذي وهن العظم منه الآن يحمد الله على أن قذيفة أخطأت بيته قبل أيام فنجا هو وعائلته من الموت، ويتحدث عن أنه لم يعد يملك القوة ليرحل أو يحمي نفسه أو غيره، لكنه يضيف أنه شديد القلق على أبنائه وأحفاده الصغار ويتمنى لو تمكنوا من السفر أو الذهاب إلى مكان آمن "النزوح أمر سيئ جدا لكن انتظار الموت في كل لحظة أسوأ منه".

من نزوح إلى نزوح
عائلة أبو محمد لها حكايتها القديمة الجديدة، فبعد رحلة نزوح شاقة عام 67 والعيش بغرفة بمستشفى التل عاما كاملا استطاع أبو محمد بعد سنوات من العمل الحصول على بيت من غرفتين بمنطقة للمخالفات بحي القدم شأنه شأن غالبية النازحيين الذين سكنوا مناطق العشوائيات أو بنوا بيوتا صغيرة كيفما اتفق لتتحول إلى أحياء مخالفة بأرياف دمشق.

بيت أبو محمد تعرض للنهب الآن عندما اجتاح الجيش السوري المنطقة وحدثت اشتباكات بينه وبين الجيش الحر، ابنه الأكبر تحدث لنا عن حال البيت السيئ الذي تفقده قبل فترة "إضافة إلى سرقة محتويات البيت والعبث بالأغراض التي اعتبروها رخيصة ولا تستحق السرقة، فقد تركوا مخلفاتهم وبقايا طعامهم إذ أنهم احتلوا البيت لفترة".

لكنه يعتبر أن كل ذلك لا يقارن بحادثة إعدام أحد أقاربه قبل أسبوع على يد القوات التابعة للأسد "كان طفلا صغيرا عندما نزحنا من الجولان والآن أعدمه الجيش السوري هنا في دمشق".

وأضاف أن المدنيين لم يتعرضوا لأشياء بهذه الشناعة عام 67 وأنه كان يعتبر تجربة النزوح من الجولان أقسى مما واجهه في حياته إلى أن قُدر له أن يشهد الأحداث الحالية وأن ينزح مجددا من بيته لكن هذه المرة دون أن يجد بسهولة جهة آمنة ولا استقرارا داخل سوريا.

فالتوتر ساد كامل البلاد هذه الفترة وحركة النزوح إلى الخارج أو بالداخل لا تتوقف، وأصبح كثير من السوريين يجهزون ما يسمونها "حقيبة النزوح" استعدادا لحملها والمغادرة إلى أقرب ملجأ بأي لحظة.

المصدر : الجزيرة