اعتمد فكرة الخداع البصري.. نصب "الشهيد" أحد أهم معالم بغداد وهذه قصته

حفل غنائي في نصب الشهيد يثير غضب العراقيين
فكرة نصب "الشهيد" استلهمت فيها القبة كموروث إسلامي (الجزيرة)

بغداد- شهدت العاصمة بغداد مؤخرا افتتاح موقع نصب "الشهيد" بعد سنوات من الإغلاق، ويعد من أبرز المعالم المعمارية في العراق، وتم بناؤه خلال الحرب العراقية الإيرانية ثمانينيات القرن الماضي تخليدا لذكرى الذين ارتقت أرواحهم دفاعا عن البلاد. ودعا مراقبون إلى إظهار النصب بشكل يليق بمكانته الكبيرة، مع ضرورة المسارعة بإصلاح الأجزاء المتضررة منه، وترتيبه، وتأهيله بالشكل المناسب.

نقش على جدران النصب الآلاف من أسماء الشهداء بوساطة الخط اليدي - مواقع التواصل
نقش على جدران نصب "الشهداء" أسماء الآلاف من قتلى الحرب العراقية الإيرانية بخط اليد (مواقع التواصل)

حكاية النصب التاريخية

وبدأ العمل في بناء نصب "الشهداء" عام 1983، وهو يمثل جميع شهداء البلاد الذين ضحوا بأرواحهم لصون كرامة العراقيين، ويقع في منطقة حيوية بالعاصمة، كما يقول الدكتور مؤيد السعدي مدير الإرشاد السياحي في فريق "أنقياء" التطوعي للحفاظ على الآثار.

السعدي يرى بأن الأهمية السياحية للنصب تأتي من قدسية الشهيد العراقي - الجزيرة نت
السعدي يرى أن نصب "الشهيد" أيقونة ثقافية اجتماعية إنسانية بكل ما تحمله الكلمة (الجزيرة)

ويبين السعدي -في حديثه للجزيرة نت- أن الكثير من العراقيين والسياح يزورون هذا النصب ليشاهدوا جماله المعماري و"رمزيته للشهيد العراقي" موضحا أن الذي نفذ تصميمه هو المهندس سامان أسعد كمال، وكانت قبته من بنات أفكار التشكيلي إسماعيل فتاح الترك، وساهم في بنائه شركات أجنبية لاسيما اليابانية، والتصميم المعماري للنصب شعاعي يتألف من 3 وحدات أساسية: القبة، الراية التي تمثل الشهيد العراقي، الينبوع الذي يمثل ديمومة التضحية من أجل هذا البلد الذي يقدم دائما التضحيات للحفاظ على هذه الأرض والمقدسات وكرامة العراقيين.

وعن المكانة السياحية لهذا النصب، يرى السعدي بأنها تأتي من قدسية "الشهيد" ونسبة كبيرة من العراقيين يجلون قيمة "الشهيد" لأنه قدم روحه من أجل العراقيين وللحفاظ عليهم وعلى سلامتهم، ويلفت إلى أن النصب يعد أيقونة ثقافية اجتماعية إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وجماله ينبثق من الفكرة الرائعة التي استوحاها الفنان العراقي من حيث استلهام فكرة القبة كموروث إسلامي، واستخدام الفيروزي وهو لون يستخدم في القباب الإسلامية بشكل عام.

ويضيف السعدي أن النصب يتكون من وحدات كثيرة ويشغل مساحة كبيرة، فهناك بحيرات على جانبي القبة من اليمين واليسار، إضافة إلى وجود الخندق الذي يضم المتحف ويحتوي على مقتنيات "الشهداء" ومآثرهم وبطولاتهم، إضافة إلى اللوحات المرسومة لهذا الغرض، لذلك يقف الزائر بانبهار أمام هذا النصب لما يحمله من معان إنسانية بالغة.

ويصف مدينة بغداد بأنها حاضرة العالم العربي والعالم الإسلامي، لما تحمله من قيم إنسانية وموروث إسلامي وإنساني كبير على مر التاريخ، ونصب "الشهيد" امتداد لمعالم حضارية كثيرة يضمها هذا البلد.

شوقي تعزو أسباب إهمال نصب الشهيد إلى عدم وجود إرادة حقيقية لتعزيز قيمة وأهمية المواقع الأثرية والتذكارية - الجزيرة نت
شوقي تعزو أسباب إهمال نصب "الشهيد" لعدم وجود إرادة حقيقية لتعزيز قيمة المواقع الأثرية والتذكارية (الجزيرة)

سنوات الإهمال

وتعرض نصب "الشهيد" إلى الإهمال والتخريب المتعمد وغير المتعمد، حاله حال أي شاهد حضاري أو نصب تذكاري في العراق بعد عام 2003، وفق الصحفية والناشطة أفراح شوقي.

وتبين شوقي للجزيرة نت أن النصب تعرض للخنق حينما شرعت وزارة النقل في إنشاء بناء عال لها غطى جانبا كبيرا للنصب من جهة حي المهندسين، وتحول بعدها النصب إلى مرأب لحافلات النقل الكبيرة، إضافة للإهمال وعدم صيانة المرافق المحيطة به والمساحات الخضراء التي تيبست بسبب العطش.

وتتابع: فضلا عن قيام مؤسسة "الشهداء" المعنية إداريا به، بتحويله لإحدى دوائرها الخدمية، وقطعت بنايته من الأسفل بشكل جائر بهدف بناء كرفانات وعلب حديدية أساءت لفضاء النصب.

وعن أسباب إغلاق النصب لسنوات، تؤكد شوقي بأنه لا أحد يعرف السبب، لكن جزءا من التخبط بالإدارات الحكومية أصاب معظم المتاحف والمواقع الأثرية والتراثية، فبسبب التخريب وغياب الصيانة كانوا يعمدون لتغطية هذه الأمور بإغلاقه.

وتعزو أسباب إهمال النصب إلى عدم وجود إرادة حقيقية وطنية لتعزيز قيمة وأهمية معظم المواقع الأثرية والتذكارية بالعراق، بسبب اعتقاد الساسة أن معظم هذه الآثار والمواقع والنصب التذكارية تعود إلى نظام الرئيس الراحل صدام حسين، فهم يريدون محو كل آثار ذلك النظام في حين أن كل دول العالم تحتفظ ببقايا معالم أي أنظمة سياسية تمر بها كجزء من الشواهد الحاضرة.

سلمان أكد بأن نصب الشهيد يُعد اليوم ثروة ثقافية تراثية واقتصادية في نفس الوقت - الجزيرة نت
سلمان أكد أن نصب "الشهيد" يُعد اليوم ثروة ثقافية تراثية واقتصادية (الجزيرة)

عبقرية التصميم

وتعد النصب التذكارية واحدة من أهم المعالم المعمارية التي حملت دلائل ورموزا عبرت عن مواضيع ذات مغزى ثقافي اجتماعي لا تخلو على الأغلب من الطابع السياسي، وقد لازمت حياة الشعوب منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، كما يقول أستاذ الآثار المساعد الدكتور كاظم جبر سلمان.

ويضيف سلمان للجزيرة نت بأن نصب "الشهيد" خلف صورة حية جذابة عن الشهادة وعن روح "الشهيد" خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، إذ جسد أجمل وصف لما تحمله الشهادة بكل معانيها.

ويلفت إلى عبقرية التصميم التي استخدمت في تشييده، والمبنية أساسا على فكرة الخداع البصري في النصب المقام على أرض واسعة مفتوحة مترامية الأطراف، ليستمتع من يدور وهو راكب بالسيارة حول النصب بخدع بصرية غاية في الروعة، وهي من خصائص فن العمارة التي عودنا عليها المعمار العراقي منذ فجر الحضارة في هذا البلد.

ويبين سلمان أن شطري القبة يبدوان مغلقين عند بداية الشارع، ثم ينفتحان أحدهما على الآخر رويدا رويدا كلما اقتربنا منهما بحيث يبدو المنظر وكأنه أشبه ما يكون ببوابة تنفتح تمهيدا لخروج شيء ما، وما إن نصل إلى داخل النصب حتى نجد أنفسنا أمام صرح معماري جسدت فيه معالم رمزية الوطنية وقدسيتها.

نصب الشهيد في بغداد / مواقع التواصل
النصب يقع فوق منصة دائرية قطرها 190 مترا فوقها قبة مقسومة إلى نصفين ارتفاعها 40 مترا (مواقع التواصل)

ويشير إلى أن الفنان استوحى معالم القبة من طراز قباب بغداد المفتوحة في عصرها الذهبي خلال مدة الخلافة العباسية وكانت على ارتفاع 40 مترا، ورغم أن البعض اقترح عليه تشييدها وفقا لقبة الصخرة في القدس فإنه فضل أن تكون عراقية ومن الإرث الحضاري لمدينة بغداد، فوقع الاختيار على القبة العباسية.

ويقف النصب -بحسب سلمان- فوق منصة دائرية قطرها 190 مترا، تحمل فوقها قبة مقسومة إلى نصفين ارتفاعها 40 مترا، فضلا عن وجود الراية التي ترتفع عن الأرض بطول 5 أقدام وتنغرس تحت الأرض بمقدار 3 أمتار وتبدو على شكل ثريا.

وتحيط بالبناء بحيرة صناعية واسعة، فضلا عن الخندق وجدار "الشهداء" أسفل الصرح، وبذلك يقدم المصمم فكرة مضمونها يعبر عن ساحة معركة يقف المقاتلون في مقدمتها يستشعرون الخطر و"استشهادهم" هناك لإبعاده عن الوطن وساكنيه، وتخلل الخندق جدار مشيد بالصفائح الرخامية والحجرية من الداخل والخارج نقشت عليه يدويا أكثر من 150 ألف اسم مع نقوش أشجار النخيل والمياه الجارية باعتبارها رموزا حضارية للبيئة العراقية.

أعيد افتتاح نصب الشهيد أحد أبرز معالم بغداد أمام الزائرين – الجزيرة
نصب "الشهيد" فتح أبوابه للزائرين مؤخرا (الجزيرة)

معلم مهم

ويبين سلمان أن النصب كان يحظى باهتمام حكومي قبل 2003 كونه يمثل أحد 3 أماكن رئيسة تستخدمها الدولة بالاحتفالية الرسمية، لكن الأمور تغيرت بعد هذا العام، فقد أهمل بشكل كبير بعدما أصبح ثكنة عسكرية للفرقة المدرعة الأولى في الجيش الأميركي، وأغلق أمام الزائرين وعامة الناس مثله مثل جميع المواقع والمرافق الثقافية والسياحية بالعراق.

كما يتمتع النصب بأهمية بالغة عند سكان بغداد، إذ أصبح يشكل جزءا من ثقافة سكان المدينة، لما يحمله من جانب جمالي، فضلا عن الجوانب الأخرى وأهمها كونه بني تخليدا لذكرى الجنود العراقيين الذين قتلوا في الحرب مع إيران.

ويلفت إلى أن النصب ينظر إليه اليوم على أنه ثروة ثقافية تراثية واقتصادية في نفس الوقت، وعلى الدولة الاهتمام به لما يتمتع به من أهمية كبيرة عند غالبية العراقيين خصوصا بعد أن تضاعفت أعداد "الشهداء" منذ التصميم الأول للنصب إلى يومنا هذا.

المصدر : الجزيرة