نصب وخرافات ودماء.. حكايات من هوس البحث عن الآثار بصعيد مصر

هوس البحث السري عن الآثار في صعيد مصر
حكايات كثيرة عن السعي وراء الثروة، عبر عمليات البحث والتنقيب السري عن الآثار خاصة في صعيد مصر (رويترز)

عبد الرحمن أحمد-القاهرة

"هذه الأرض مليئة بالخير الكثير"، لم يتمالك إسماعيل نفسه من السعادة بعد أن سمع هذه العبارة من "الشيخ"، أو في حقيقة الأمر الدجال الذي أتى به ليخبره عما إذا كانت الأرض التي ورثتها أسرته في إحدى قرى محافظة أسيوط (جنوبي مصر)، تحتوي على كنز من آثار قدماء المصريين أم لا. 

لكن سعادة الرجل الثلاثيني الحالم بالثروة تلاشت تقريبا بعد أن استدرك الشيخ عبارته "لكنها ستأخذ دماء أكثر"، فهو يعرف جيدا ما تعنيه هذه الكلمات، وتداعت إلى رأسه عشرات الحكايات التي سمعها وعايشها لباحثين عن الكنوز، انتهت حياتهم على أعتابها أو أزهقوا أنفسا لأجلها. 

ويوضح "إسماعيل. ع" في حديثه للجزيرة نت، أنه لجأ إلى هذا "الشيخ" لأنه سبق أن ساعد أقارب له من قريته وقرى مجاورة، في الوصول إلى كنوز من آثار الفراعنة، نقلتهم إلى عالم الثراء. 

لكن تحذير الشيخ من الدماء الذي يعني وفق توضيح إسماعيل، إما سقوط قتلى أثناء الحفر أو لخلافات على الكنز أو طلب تقديم قربان بشري للجان، وغالبا ما يُطلب ذبح طفل صغير مثلا، دفع والدي إسماعيل إلى الرفض بشكل قاطع أن يستكمل هو وإخوته الأربعة هذه المغامرة، في حين يحاول جاهدا إقناعهم بخوضها. 

حكاية إسماعيل التي لم تكتمل واحدة من مئات وربما آلاف الحكايات عن السعي وراء الثروة، عبر عمليات البحث والتنقيب السري عن الآثار خاصة في صعيد مصر، حيث تزداد معدلات الفقر وتردي الأحوال المعيشية. 


أوهام ودماء
يستعين الباحثون عن الكنوز في سعيهم بمن يسمونهم الشيوخ وهم غالبا من السحرة والدجالين، الذين يدعون القدرة على معرفة المناطق التي تضم في باطنها الآثار والكنوز، ويقنعون ضحاياهم بأنهم قادرون على تسخير الجان لخدمتهم ومساعدتهم على الوصول إلى الكنز والتخلص من "الرصد" (وهو الجان الذي يحرس المكان)، وما إن يقتنع الضحية بكلام هذا الدجال حتى يبدأ الأخير في ابتزازه ماليا. 

ومطالب الدجالين الذين يدعون أنهم شيوخ لا تنتهي، ويصفونها بأنها مطالب الجان الذي يحمي الكنز أو من سيطرد رصد المكان، وبين الزئبق الأحمر والبخور المغربي وغيرها من الطلبات تستنزف أموال الضحية وهو يحلم بالكنز الذي سيعوضه عن كل ما صرفه. 

تروى "حمدية. ع" حين أحضرت عائلتها أحد الشيوخ ليستكشف لهم منزلهم بإحدى قرى مركز ديروط، حيث أخذ الرجل يتمتم بكلمات غير مفهومة ويقوم ببعض الحركات الغريبة، ثم بشّر أصحاب المنزل بالكنز الثمين القابع أسفل منزلهم، وهو عدة سبائك ذهبية، وأنه قادر على إخراجها لهم. 

رحب أهل المنزل وأخذوا يحثون الشيخ على إخراج الكنز ووعدوه بتنفيذ أي شيء يطلبه، ليشرع الرجل في مزيد من التمتمة وإلقاء التعويذات، ليسحر أعينهم ويظهر أمامهم سبائك ذهبية ليضج المنزل بالتهليل والصراخ، وفجأة تختفي السبائك ويبدو على وجه الرجل ذعر مصطنع ويخبرهم أنهم أزعجوا الرصد بصخبهم، فأخذ كنزهم مجددا إلى باطن الأرض. 

وتضيف حمدية للجزيرة نت، أنه بعد أن استيقن الساحر أن ضحاياه قد وقعوا في شراكه، أخذ يطلب منهم طلبات باهظة تتكلف عشرات الآلاف من الجنيهات، وبعد حصوله على عشرة آلاف جنيه دفعة أولى، اختفى وتبخر معه حلم الثراء الذي راود العائلة. 

ولا يقتصر الأمر على الابتزاز المادي فقط، حيث يصل الأمر إلى أبعد من ذلك بكثير، فبعض السحرة والمشعوذين يزعمون أن فك الرصد يتطلب ممارسة الجنس في مكان الحفر، أو إراقة دماء بشرية لتقديمها قربانا للجن، ويغيّب الطمع العقول ويدفعها إلى هاوية الجريمة. 

ويسرد "محمد. ف" في حديثه للجزيرة نت واحدة من هذه الحوادث التي وقعت في قرية مجاورة لقريته القريبة من الجبل الغربي في أسيوط، حيث اختُطف أحد الأطفال واختفى لأيام، قبل أن يعثر عليه أهل القرية مذبوحا قرب أطراف القرية القريبة من الجبل الغربي وعلى مقربة منه آثار حفر وتنقيب. 


الكنوز للموعودين
ورغم النهايات الكارثية لأغلب حالات التنقيب عن الآثار التي تستنزف الجهد والأموال، والتي قد تصل إلى الموت، فلا تكاد تخلو أحاديث وأسمار أهل القرى والمدن على السواء، من حكايات هؤلاء الذين عثروا على الكنوز تحت منازلهم أو أراضيهم، وتبدل حالهم وودعوا الفقر، وكل منهم يمني نفسه أن يكون هو التالي على قائمة الموعودين بالكنز أو "اللقية" كما يسميها البعض. 

ورغم سعيهم الدؤوب وراء العثور على الكنز، يؤمن أغلب أهل الصعيد أن هذه الثروات "للموعودين وليست للحسّابين" أي لمن يختاره القدر لا لمن يسعى وراءها. 

ويروى "محفوظ. س" كيف وجد خاله مقبرة فرعونية بطريق المصادفة أثناء حفره بئرا في أرض زراعية يمتلكها في إحدى قرى مركز "أبو تيج" بأسيوط، مشيرا إلى أن قريبه رفض إشراك باقي أفراد العائلة في الكنز الذي عثر عليه، وأخفاه بعناية في مكان مجهول، حتى تمكن من التواصل مع المشتري. 

لا يعلم محفوظ سوى القليل عن الأشياء التي وجدها خاله ووصفها بـ "المساخيط" (في إشارة إلى التماثيل) ولا من يكون المشتري، ولكنه أكد في حديثه للجزيرة نت أن الرجل الذي كان يعمل خبازا إلى جانب رعاية أرضه الزراعية الصغيرة، تحول خلال أشهر قليلة إلى أحد أثرياء القرية، فاشترى مساحات كبيرة من الأراضي وسيارات نقل يقوم بتأجيرها. 


عصابات مسنودة
العثور على الكنوز الأثرية لا يعني بداية رحلة الثراء، فهناك رحلة أكثر إثارة وأهمية وهي العثور على من يشتري الكنز، وغالبا ما تكون عصابات منظمة تضم بعض المسئولين الكبار أو تحظى برعايتهم، وفق تصريحات سابقة للدكتور محمد الكحلاوي الأمين العام لجمعية الأثريين العرب، التي تبيع الآثار لحسابها الخاص وتخرجها من البلاد. 

وفي قرية صغيرة قريبة من الجبل الغربي بأسيوط يتداول أبناؤها قصة "عبد التواب" (اسم مستعار) الذي عثر على كنز كبير يحوي عشرات القطع الأثرية، وبعد توصله إلى المشتري "المسنود" (إشارة إلى علاقاته بشخصيات نافذة) اختلفا على سعر البيع، وخرج التاجر غاضبا وأقسم أن يحصل على هذه الأشياء بأي طريقة. 

لم يمض أكثر من نصف ساعة حتى امتلأت القرية برجال الشرطة الذين اقتادوا عبد التواب وكنزه الموضوع في صندوق كبير إلى مديرية الأمن، وبينما ظل الرجل محتجزا لمدة ثلاثة أيام، خرج كنزه سريعا بعد أقل من ساعة من وصوله ونُقل في سيارة سوداء كبيرة، وفق رواية أقارب الرجل المتداولة. 

ووجد الرجل نفسه مطلق السراح بعد أن قيل له إن القطع التي ضبطت معه ليست أصلية، وحين استنكر ذلك خُير بين التأكيد على أصليتها والبقاء محتجزا، أو الرحيل والتسليم بضياع ما وجده، فآثر السلامة وخرج بعد أن ضاعت أحلامه.

وقبل سنوات في مدينة ديرمواس بمحافظة المنيا جنوب القاهرة، شاع بين الأهالي أن الشيخ علاء النائب البرلماني عن دائرتهم والمنتمي للحزب الوطني المنحل، يتاجر في الآثار، ووصل الأمر للصحافة التي أطلقت عليه لقب "نائب الجن والعفاريت" في إشارة إلى استعانته بالسحر والشعوذة للوصول إلى الآثار. 

ومؤخرا تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لرئيس البرلمان علي عبد العال وهو يحتد على أحد النواب بقوله "خليك في الآثار أحسن".


عقوبات مغلظة
تعد تجارة الآثار من أكثر أنواع التجارة ربحا، وتقدر بعض التقارير والإحصاءات غير الرسمية حجم سوق تجارة الآثار في مصر بحوالي 20 مليار دولار سنويا، في حين تشير دراسة سابقة صدرت عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي)، إلى أن هناك ما يقرب من ثلاثة آلاف قضية تنقيب واتجار في الآثار تُسجل كل عام. 

لا يبالي كثير من الحالمين بالثروة بالقوانين التي تمنع عمليات التنقيب السري عن الآثار أو بيعها، وتعاقب عليها بالسجن والغرامات الكبيرة، ولا يلقون بالا للأخبار حول عشرات الحالات التي يتم ضبطها. 

وتصل عقوبة القيام بأعمال التنقيب عن الآثار دون ترخيص إلى السجن مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وسبع سنوات، وبغرامة بين نصف مليون ومليون جنيه. 

في حين تصل عقوبة تهريب الآثار إلى الخارج إلى السجن المؤبد، وغرامة لا تقل عن مليون جنيه، ولا تزيد على عشرة ملايين جنيه، وفقا لقانون حماية الآثار 117 لسنة 1983 بعد تعديله بالقانون رقم 91 لسنة 2018. 

المصدر : الجزيرة