"أصحاب ولا أعز".. لماذا شعر المشاهدون بالصدمة من أول أفلام نتفليكس العربية؟

أصحاب ولا أعز

في قبائل الهوبا في أميركا الجنوبية، يتناقل الناس أقاصيص أن خسوف القمر يُخضِع الوحوش المفترسة كالأسود والثعابين الجبلية، أما شعوب الإنكا فكانوا يعتقدون أن نمرا هاجم القمر محاولا التهامه، وأن هذا النمر سينتهي من القمر ويهجم على الأرض، لذلك كانوا يقرعون الطبول طوال الخسوف لردعه. ارتبط الخسوف تاريخيا إذن بالخرافات والأساطير والقصص الغريبة، لذلك لم يكن مفاجئا أن استخدمه المخرج اللبناني وسام سميرة في مطلع فيلمه الروائي "أصحاب ولا أعز"، الذي دارت أحداثه في ليلة خسوف للقمر، وبينما اختفى وجه القمر المضيء، بدأ الوجه الآخر لسبعة شخوص رئيسة في الانكشاف.

 

نصف القمر الآخر

فجَّر أول فيلم عربي تُنتجه "نتفليكس" الكثير من الشقاقات والجدالات والانتقادات لأبطال الفيلم وصانعيه. اتُّهِم الفيلم بالترويج "للشذوذ الجنسي"، وتبني القيم الغربية في العلاقات الاجتماعية، وتقويض القيم المحافظة للمجتمعات العربية، وتلقَّت الفنانة المصرية منى زكي تحديدا النصيب الأكبر من الانتقادات، حتى إن مشاركتها في الفيلم اعتُبرت "سقوطا أخلاقيا" نظرا لمحتواه الذي سبَّب لدى البعض حالة صدمة أو اغتراب، ناهيك بالحوار المنفتح إلى درجة اعتباره من قِبَل الكثيرين "خادشا للحياء". الأهم من ذلك كانت العلاقات الاجتماعية المضطربة التي صُوِّرت خلال الفيلم، ودفعه بقضية المثلية الجنسية إلى الواجهة عربيا.

أصحاب ولا أعز

في المقابل، حظي الفيلم بالقبول عند فئة أقل، اعتبرت أنه يناقش قضايا مفروضة بالفعل، وأن الفيلم ليس عائليا لكنه مُصنَّف عمريا للكبار (+16 سنة)، وأنه يُعرَض على منصة عالمية باشتراك خاص. ومع كون الجدل المُثار حول الفيلم أخلاقيا وليس فنيا، فإن لنا الحق أن نتساءل عما إذا كانت نسخة الفيلم المُعاد تدويرها مرارا وضعت المشاهد العربي محل اعتبار، وكذلك عن حدود النقل المسموح بها.

 

نُقل الفيلم برمته من عمل المخرج الإيطالي باولو جينوفيزي "غرباء بامتياز" (Perfect Strangers) الذي كان نقطة فارقة في مسيرته. تُوِّج الفيلم الأصلي بلقب أفضل فيلم في جائزة "دافيد دي دوناتيلو" (أوسكار السينما الإيطالية)، وتحوَّل نصه في الأعوام التالية إلى 18 نسخة (ريميك) مقتحما كتاب غينيس بوصفه أكثر فيلم استُنسخ ونُقل إلى مختلف اللغات، لتحط ما بين أيدينا النسخة الـ 19 باللغة العربية. (1)

أصحاب ولا أعز
النسخة الأجنبية "غرباء بامتياز" (Perfect Strangers) والعربية "أصحاب ولا أعز"

 

فيلم عربي غير عربي

لكن بعيدا عن كل ذلك الجدل، فإن أول ما تلاحظه في الفيلم هو عزوف مخرجه عن اقتحام التفاصيل وتعديل مُجرياتها والتلاعب في تركيب الشخصيات من أجل إنتاج نسخة أقرب إلى الواقع العربي، بل إن اختيار الممثلين جاء معتمدا على خصائص جسدية تتشابه مع خصائص الممثلين من النسخة الإيطالية، والأمر ذاته ينطبق على لغة الجسد وتعبيرات الوجه. (2)

 

ومن ثم يبدو الفيلم في حركاته وتفاعلاته وحواره وكأنه مُترجَم أو مُدبلَج، حتى إن زوايا الكاميرا لم تتغير. لكن من الإنصاف القول إن صناع الفيلم أعلنوا منذ وقت طويل أنه إعادة بالضبط للعمل الأصلي، كشأن النسخ التي سبقته، وليس تعريبا له.

 

عادة، لا تسير عمليات استنساخ الأفلام بشكل موحَّد، وحده المالك الحالي لحقوق الفيلم الأصلي مَن يُقِر ويُحدِّد ما إذا كان يحق له أو لشخص آخر أصلا إعادة إنتاج الفيلم الأصلي، وما القيود التي تحكم عملية الإنتاج. بعبارة أخرى، فإن مَن يملك السيناريو الأصلي له الحق أن يفرض الالتزام ببعض أو كل عناصر السيناريو. (3)(4)

 

المشكلة هنا أن وسام سميرة قَبِل السيناريو الأصلي ولم يرَ خللا في مفرداته أو أحداثه، مؤكِّدا أن رسالة الفيلم يجب أن تنتقل باللغة التي جاءت به ومفرداتها، وأنه ما من شيء فيها دخيل على المجتمع العربي، فالجميع على حد قوله يتلفَّظ بتلك الشتائم، والكثيرون يتورَّطون في الممارسات نفسها، والأمر كله لا يعدو كونه نقلا للصورة الحقيقية دون تجميل.

أصحاب ولا أعز

لكن ما كان بإمكان وسام سميرة فعله، وهو الذي كان مُتخصِّصا في صناعة الأغاني المصوَّرة على مدار عقدين من الزمن قبل هذا الفيلم، ربما هو التفاوض مع شركة الإنتاج ومحاولة جر عمله إلى نقطة يتناسب فيها -ولو قليلا- مع روح المنطقة المنقول إليها، أو على الأقل أن يُجرِّده من بعض المشاهد الدخيلة التي لم تُضف شيئا إلى السياق. فما الفارق الذي شكَّله مشهد نزع منى زكي لإحدى قطع ملابسها الداخلية مثلا؟ ما الأهمية الدرامية لذلك حقا؟ هذا المشهد لم يُضف الكثير إلى السياق بأكمله، بل إن لحظة كشف سبب ذلك جاءت وكأنها مدفوعة دفعا إلى أحداث الفيلم، بينما كان المشاهدون مشغولين بقصة أخرى تماما من قصصه.

 

لو جاء السيناريو مُعرَّبا، لاقترب منا وشابهنا ولو قليلا، ولكان أداء الممثلين مقنعا على طول الخط، ولتلبَّس العمل ببعض من روح بلاده كتلك الأفلام التي تُخرجها نادين لبكي نفسها. كان ذلك ليسمح للمخرج أن يُظهِر تمكُّنه من أدواته بشكل أكبر، والأهم من ذلك أنه كان ليمنح المشاركين فيه وزنا وثقلا يتناسب معهم، لا أن يجعلهم مجرد انعكاس لأبطال آخرين.

 

لهذا السبب تحديدا وجدت لفظة "ملوخية بالواين" مكانا لها في سخرية البعض من الفيلم، الملوخية بالأرانب هي أكلة مصرية أصيلة، لكنها اندمجت اندماجا فجا مع النسخة الغربية من الفيلم. للمفارقة، كانت الملوخية -نعم تلك المصنوعة بالخمر- هي الشيء الوحيد المتقاطع مع ثقافة المنطقة (ربما مع بعض الألفاظ المنتقاة من اللهجتين المصرية واللبنانية)، في حين كان للخمر -الدخيل- دور فعال في الأحداث، حيث ينسكب طيلة الفيلم تقريبا، لتلازم الزجاجة والكوب يد مريم (منى زكي) التي تُدمنه ولا تنفك تتجرعه حتى الثمالة.

 

لنستوعب المفارقة استيعابا أفضل، دعونا نتأمل مثلا ما حدث في مسلسل "الآنسة فرح"، فقد أبقى صانعوه على القصة والديكور والأزياء كما هي، لكنهم منحوا الشخصيات بُعدا خاصا، وإن لم يمنعه ذلك من أن يصبح في مرمى النقد اللاذع. المسلسل الكوميدي المصري هو نسخة من آخر أميركي يُدعى "جين العذراء" (Jane the virgin)، والمقتبس بدوره من المسلسل الفنزويلي (Juana, la virgen)، ويتمحور حول فرح، الفتاة الرصينة التي أنشأتها جدتها على الانغلاق والبُعد عن العلاقات بأنواعها كافة، وهو ما يجعلها شديدة التحفُّظ في علاقتها بخطيبها، إلى أن تصبح حاملا، بغتة، بعد تعرُّضها لحقن مجهري عن طريق الخطأ.

 

ليلة بلا ضوء

أصحاب ولا أعز

يدور فيلم "أصحاب ولا أعز" (5) في منزل ذي حديقة ومساحة مناسبة لفيلم ستدور أحداثه كاملة في مكان واحد، وبطله الرئيسي هو الحوار بين أشخاصه، وهم المصرية منى زكي والأردني إياد نصار (يقومان بدور زوجين مصريين مقيمين في لبنان)، واللبنانيون عادل كرم وديامان أبو عبود (زوجان حديثان يحاولان الإنجاب) وجورج خباز ونادين لبكي (هما الزوجان المُستضيفان)، وفؤاد يمين الذي يُمثِّل دور صديقهم الأعزب.

 

يلتقي الأصدقاء على العشاء لمشاهدة الخسوف معا (6)، وتقترح صديقتهم التي دعتهم إلى تناول العشاء (نادين لبكي) لعب لعبة يضعون فيها هواتفهم المحمولة على المائدة ويردون علانية على جميع المكالمات ويشاركونها، لتكون الرسائل والمحادثات على مرأى ومسمع من الجميع، لتتحوَّل اللعبة إلى كابوس.

 

الفكرة العامة جيدة لا شك، وجذابة لجميع نطاقات المشاهدين، خاصة أن الفيلم يعتمد على المباشرة في طرح فكرته بتمريرها على لسان ربيع في مشهد يثور فيه ويفقد التحكم في أعصابه، لكن ذلك الجهر والمباشرة وتوكيد أن الهواتف باتت تفصلنا عن بعضنا تركت تأثيرا متناقضا، لأن قائلها يتفوَّه بتلك الكلمات مرتعدا من كشف أصدقائه لسره الذي أخفاه طويلا عنهم.

 

الهواتف إذن هي الضرورة الدرامية الرئيسية للفيلم، تتلاعب بسير الحكاية مثل ثقب أسود في الفضاء يجتذب ما في مداره ويُخبِّئ كمًّا من الخفايا. كانت تلك الفكرة لتصبح مركزية أكثر إذا قُدِّمت بإطار عربي الطابع، لأن الهواتف الذكية تؤثر فينا كما تؤثر في كل العالم، وهوسنا بأسرارها شبيه بما تفعله بكل مواطن على الكوكب، يمكنك أن تُصدِّق ذلك إذا طالعت مشهدا كوميديا لسيدة أميركية أو مصرية أو إسبانية تحاول وضع إصبع زوجها النائم على الهاتف لفتح البصمة، أو حينما تجلس في المترو فتجد أن الراكب بجانبك يتابع معك صفحتك على فيسبوك. هذه بالأساس هي النقطة التي جعلت من الفيلم محل اهتمام الكثيرين في الدول العربية، لكن الفيلم خذلهم في النهاية وحصر قلق شخصياته ومشكلاتها ودوافعها في إطار الجنس وإيحاءاته، ومن ثم فقد سطَّح شخوصه من حيث ظن أنه يُعمِّقها.

أصحاب ولا أعز

ينتهي الفيلم نهاية مشابهة لما حدث في النسخة الأصلية، تُحطِّم الحقيقة التي تمنحها لهم اللعبة ما كان متماسكا، تكشف الخيانة والأكاذيب المُلفَّقة والادعاءات التي يحملها كلٌّ منهم لشريكه وأصدقائه، ليعوا أنهم رغم تلك السنوات الممتدة من الصداقة غرباء تماما، وأنهم ربما في أشد السيناريوهات رحابة لم يكونوا ليلعبوا تلك اللعبة من الأساس، ومضوا في حياتهم، لا لأن الجهل نعيم أحيانا، بل لأنهم لم يأبهوا بالخسوف أو بفضح أي أوجه أخرى للقمر.

——————————————————————————–

المصادر

  1. “My friends and my dearest”, the Arabic version of the Italian movie “Perfect strangers .”
  2. “Friends and not dearest” .. Why did he raise all this controversy since its early hours?
  3. Arabization or theft? Learn about the “stolen” Arab films from world cinema | art
  4. How do you secure the rights for a remake of an old movie?
  5. Film remakes are great, but it’s time we tell our own Arab stories
  6. Netflix: First Arabic movie sparks morality row
المصدر : الجزيرة