المهراس الخشبي.. أنيس النساء في المطبخ التونسي

المهراس الخشبي رمز للهوية الاجتماعية في عدة محافظات تونسية (الجزيرة)

سيدي بوزيد- ليس صعبًا سماع طقطقة المهراس الخشبي وأنت تمر بالأحياء القديمة في محافظة سيدي بوزيد (وسط غربي تونس) حيث لا يزال هذا الإناء التقليدي أنيسًا للنساء في المطبخ في تلك البيوت التي يغمرها الدفء.

لا يقاس الحب بين زوايا هذه المحافظة المهمّشة بروح الدعابة فقط، بل بحنين الجدات والعادات القديمة، فرائحة البهارات المنبعثة وحدها تحكي أن سمة الزمن لم تقطع حبل الوصل بين عاداتهن على الرغم من ظهور صناعة الآلات المتطورة والأكثر سرعة ودقة.

في المرحلة الأولى لصنع المهراس الخشبي تقص قطع شجرة الزيتون بالمنشار (الجزيرة)

عزيمة وصبر

في رحلتهم الطويلة لجمع خشب الزيتون، يبدأ الحرفيون العمل للحصول على جذع الشجرة، وفي مرحلة ثانية يقومون بتسوية السطح الخارجي للمهراس وجعله أملس، فقولبته حتى تكون الفوّهة أكثر انفتاحًا عن الأسفل، وذلك بعد قص القطع بالمنشار، ليتبع ذلك في مراحل أخرى صقلها ونحتها.

ولا يحتاج صنع المهراس الخشبي يدويا تحت أشعة الشمس الحارة صيفًا أو بردًا في أيام الشتاء سوى إلى آلة حادة، يحفر بها الحرفي الجذع المقطوع من شجرة الزيتون بمقاييس يحددها أهل الصنعة بعيونهم، ويتفننون لساعات طويلة لإنجاز هذه القطع.

حفر وصنع المهراس الخشبي يستغرق وقتا طويلا (الجزيرة)

بسلاح العزيمة والصبر، يعمل الحرفيون على صناعة مهراس ذي جودة عالية، يتكوّن من وعاء و"رزامة" (هي عبارة عن عصا صغيرة الحجم تستعمل لدق البهارات داخل الوعاء الخشبي)، وتستغرق ساعات طويلة، حسب قول هاجر الهرابي، صاحبة أحد محال صنع المهراس الخشبي.

وتوضح الهرابي -في حديثها للجزيرة نت- أن كثيرا من المصانع تعمل على تطوير صناعة هذه الآنية الخشبية بواسطة آلات أكثر تطورًا، لكنها ما زالت تحافظ على طابع الصناعة اليدوي، في كل مراحل إنجازه، موضحة أن السر العجيب يكمن في أن بهارات المهراس الخشبي التي تدق بواسطة عصا خشبية تتمتع بمذاق وطعم مميزَيْن.

وتعتبر الهرابي أن منتجاتها التقليدية لها إشعاع يتجاوز حدود البلاد، إذ إن الدول الأوروبية تستورد كميات كبيرة من المهراس الخشبي، مؤكدة أن مثل هذه الأواني الخشبية تلقى إقبالًا واسعًا من النساء، باعتبارها ذات مزايا ومواصفات من ناحية الجودة والقيمة الفنية.

الكثير من المصانع تعمل على تطوير صناعة هذه الآنية الخشبية (الجزيرة)

أنامل ذهبية

على طول الشارع الممتد إلى تمثال رمز الثورة محمد البوعزيزي، في مدينة سيدي بوزيد، التي انطلقت منها الثورة التونسية في ديسمبر/كانون الأول 2010، والتي أطاحت نظام زين العابدين بن علي في مطلع 2011، بدت المدينة عروسًا تلتحف بمنتجاتها التقليدية، تُعرض هذه التحف في أسواقها الشعبية أو في المحال المخصصة لبيع الصناعات التقليدية.

تبدو قطع المهراس الخشبي منتشرة، وقد اختلفت ألوانها بين الأحمر والأصفر والبني، أبدعت أيادي الحرفيين في نحتها وصقلها ببراعة، فهي مصدر رزق لمئات العائلات. وتختلف أسعارها، بحسب الشكل والحجم، بين 5 دولارات و15 دولارًا.

"في هذه الأسواق الضيقة، سيدلّك الجميع على أفضل منتوجات المهراس الخشبي"، بهذه العبارة يصف فاضل العباسي، أحد صانعي هذا الجهاز التقليدي، جودة منتجاته، مؤكدًا أن "تاريخ الموروث الثقافي للمهراس الخشبي المرتبط بعادات الجدات بعمر شجرة الزيتون، لا يموت".

ويوضح العباسي أن شمس الحرية بعدما أشرقت في سيدي بوزيد بقيت هذه الصناعات الحرفية مصدر رزق للأهالي، تشهد إقبالًا لافتًا من النساء اللواتي ما زلن يحافظن على عادات جداتهن، خصوصًا بعدما أدارت الثورة ظهرها، ولم يجن أهالي هذه المدينة المهمّشة غير مزيد من الوعود.

الصناعات الحرفية تشهد إقبالًا لافتًا من النساء اللواتي ما زلن يحافظن على عادات جداتهن (الجزيرة)

تراث أصيل

يظل المهراس الخشبي رمزًا للهوية الاجتماعية، في عدة محافظات تونسية، على الرغم من أن هذا الإناء يختلف صنعه من منطقة إلى أخرى، بحسب صلابة الخشب ومتانته، ويعد أقل كلفة وسعرًا من المهراس النحاسي الذي يحظى بأهمية في المطبخ التونسي.

ويقول المندوب المحلي للصناعات التقليدية في سيدي بوزيد خالد عمري -للجزيرة نت- إن محافظة سيدي بوزيد من بين المحافظات التي لا تزال تحافظ على صناعة المهراس الخشبي لحفظه في الذاكرة الشعبية والإرث الحضاري للبلاد، على غرار محافظة المهدية الساحلية.

ويرى العمري أن هذا المهراس يمثل جزءًا وإرثًا حضاريا وتاريخيا للبلاد، لارتباطه الوثيق بالعادات القديمة للجدات، وأنه لا استغناء عن هذه الآنية الخشبية في المطبخ التونسي إلى اليوم، إذ تُحضَّر بها أكلات وبهارات مختلفة، موضحًا أنه لا بد من حفظ هذا الموروث للأجيال المقبلة.

وما زالت الطقوس والعادات القديمة محفورة في الذاكرة الشعبية لأهالي محافظة سيدي بوزيد، وتصرّ على حفظ هذا الإرث الثقافي والتاريخي، على الرغم من التطور الذي ظهرت عليه الآلات في المطبخ التونسي على مستوى تحضير البهارات، لتبقى رائحتها راسخة في أذهان كل من يتذوق مأكولاتها التقليدية.

المصدر : الجزيرة