موت السلطان والثائر وتيه الشعوب في الرواية العربية.. روايات وليد سيف وأمين معلوف وياسمينة خضرة نموذجا

صورة من ثلاثة أغلفة

أمام تدفق الأخبار والمعلومات، وكثرة الوقائع والأحداث، وتنوع السرديات والمرويات؛ لا يملك المرء سوى خيار «التصفح»؛ تراه ينتقل من صفحة إلكترونية إلى أخرى، من موقع للتواصل الاجتماعي إلى آخر وهو يقف حائرا، تغيم في بصره صورة العالم من حوله، وعاجزا لا يقوى على الفهم والإدراك.

وكيف لا يحار عقل الإنسان العربي ولا يعجز عن بناء المعنى وصياغة الأدلة وهو يُجابه بصبيب لا ينضب من صور الاحتجاجات والانتفاضات التي أصبح يشهدها العالم العربي! وكأننا بسرعة وتيرة التحولات المجتمعية في هذا العالم وتعدد مصادر الأخبار والمعلومات تفجر بنية هذا العقل، وتحول دون الإنسان العربي والتمثلات التقليدية لذاته وللكون.

ولقد كان من ذلك أننا أصبحنا نشهد انصراف القراء عن مشاريع النهوض، وعن كل النظريات التي كان أصحابها يتوسلون فيها بالعقل والمنطق لفهم وتفسير أسباب السقوط والانحطاط، ولتعيين سبل النهوض والارتقاء. ويبدو أن صدر القارئ في الوطن العربي لم يعد يتسع لهذه المشاريع والنظريات الشمولية المفحمة.

لقد أصبح هذا القارئ يرى أن شموليتها هي من جنس شمولية الاستبداد السياسي، فكلتا الشموليتين تروم «المُطلق المُفحِم»، إما على مستوى العقل كما هو في حال نظريات السقوط والنهوض، وإما على مستوى الممارسة السياسية، كما هو في حال واقع السلطة في العالم العربي.

وأمام انتهاء عصر النظرية وعزوف الإنسان في العالم العربي عن مشاريع النهوض وأصحابها، لم يعد عقل هذا الإنسان يتمثل واقعه إلا من خلال تفاعل الآخرين مع ما ينتجه هو من معنى عبر وسائل إنتاج المعنى الإلكترونية.

إذا صح القول إن لهذه «المعاني التفاعلية» الجديدة دورا هاما في كسر طوق الفكر الإيديولوجي الشمولي، سواء في شقه التراثي الديني أو في شقه العصري الحداثي؛ فإنه لا يقل صحة أننا أمام طوق جديد لا يقل سطوة عن سطوة الطوق القديم، إنه الطوق الذي أصبح يُسيِّج العقل جراء التفاعل المزدوج مع «اللحظة والصورة». فقد أصبح الاهتمام باللحظة يحول دون العقل وتمثل الأبعاد التاريخية وراء الأحداث، كما أصبحت الصورة الماثلة أمام البصر تحد آفاق الإبصار والتبصر. وهذا ما قد ينتج عنه وعي هو أقرب إلى الضحالة والرداءة والتفاهة منه إلى شيء آخر.

في زحمة المعاني الضحلة والأفكار الرديئة والإبداعات التافهة؛ تضيع المعاني العميقة والأفكار الذكية والإبداعات القيمة، فتجد الكثرة السائدة من القراء يشيحون بأوجههم عن بعض الأعمال الأدبية العظيمة، يفوتهم إدراك ما تزخر به من مضامين تعبر التعبير الأوفق عما يختصم داخل المجتمعات العربية الإسلامية من أحاسيس وأفكار، مضامين تؤصل وعي الإنسان العربي بذاته في سياقه التاريخي المطبوع بالشك والتيه، وفقدان الوجهة ونقاط الاستدلال والاسترشاد؛ لا في عالم ذهني صرف تتناغم فيه الأشياء تناغما مثاليا ومجردا.

إن في العزوف عن هذه الأعمال ما يباعد بين الوعي وبين الفن الأدبي بوصفه فنا يتوسل بقوة الكلمة لتبليغ الإنسان مرتبة الشعور بالوجود كما هو، قبل الارتقاء به إلى حالة وجدانية تؤهله لطلب الخروج من مضايق اللحظة والمكان.

في زحمة المعاني الضحلة والأفكار الرديئة والإبداعات التافهة؛ تضيع المعاني العميقة والأفكار الذكية والإبداعات القيمة، فتجد الكثرة السائدة من القراء يشيحون بأوجههم عن بعض الأعمال الأدبية العظيمة، يفوتهم إدراك ما تزخر به من مضامين تعبر التعبير الأوفق عما يختصم داخل المجتمعات العربية الإسلامية من أحاسيس وأفكار، مضامين تؤصل وعي الإنسان العربي بذاته في سياقه التاريخي المطبوع بالشك والتيه، وفقدان الوجهة ونقاط الاستدلال والاسترشاد؛ لا في عالم ذهني صرف تتناغم فيه الأشياء تناغما مثاليا ومجردا

كثيرة هي الروايات التي ترتقي بالإبداع الأدبي إلى مرتبة عالية من الشعور يصير عندها المبدع قادرا ليس على الإحساس بوجود الأشياء من حوله إحساسا خارقا قويا فحسب، بل كذلك قادرا على إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن هذا الإحساس.

ومن هذه الروايات ما هو مكتوب باللغة العربية، كما هو شأن رواية "ملتقى البحرين" للأديب الكبير وليد سيف؛ ومنها ما هو مكتوب بلغات أخرى مثل رواية أمين معلوف "التائهون"، وقد كُتبت بالفرنسية في أصلها؛ أو رواية ياسمينة خضرة "ماذا ينتظر القردة؟"، وقد كُتبت بالفرنسية أيضا. هذه الروايات الثلاث تمثل نموذجا حيا عن الفن الأدبي في أرقى صوره، حيث يستطيع بواسطة الكلمات تكثيف شعور المتلقي وإحساسه بحقيقة سياقه الوجودي ووضعه فيه.

من يقرأ رواية وليد سيف "ملتقى البحرين"؛ يعتقد لأول وهلة أنه أمام بحث يحاول تقريب أحداث تاريخية ووقائع لها ارتباط بفترة زمنية ماضية. لكن مواصلة القراءة تجلي للقارئ أنه أمام عمل فني اختار صاحبه التاريخ مسرحا للأحداث ورقعة ترتسم فوقها الشخوص؛ وكأننا بوليد سيف يريد من وراء هذا الاختيار أن يمرر رسالة مفادها استحالة التحدث عن العالم العربي إلا بصيغة الماضي.

ذلك أنه عالم لا يقوى على صناعة الحاضر، أو قل إنه تحول إلى مجرد «سردية» أو «مروية»، يؤثثها السلاطين والجواري، أي شخوص ألصق بماضي الحضارة العربية منها بحاضر الثقافة الكونية. ليس في "ملتقى البحرين" أثر لعمل بطولي، بل كل الأشياء تؤول إلى نهاية مأساوية.

تحكي "ملتقى البحرين" قصة سلطان وجارية ومعلم: سلطان غاشم يأمر وينهى، وجارية في دار النخاسة، ومؤدب معلم يمتهن الثورة. لقد شاء القدر أن تشتبك مصائر الثلاثة حين قررت زوجة السلطان إهداء الجارية قمر إلى زوجها، وحين علمت قمر من النخاس أنها ستباع للسلطان نفسه صُدمت وقالت لمن زفّ إليها الخبر: «هذه أسوأ ساعة في عمري منذ رأيت جنود السلطان يقتلون أهلي، ثم يسوقونني سبيّة وأنا بعد لم أتجاوز العاشرة. فهل كنت تتوقع أن أطير فرحا بأني سأصير إلى الطاغية المستبد الذي سلبني أهلي وحريتي!».

ولما أطلعت الجاريةُ المعلمَ على الخبر أصيب بالذعر واقترح عليها الهروب؛ لكنهما سرعان ما اهتديا إلى فكرة، أن يضحيا بعلاقتهما فتقبل هي بدخول القصر، حتى إذا استتب لها الأمر كانت عَيناً للمعلم وعوناً للثورة من الداخل. وبالفعل هذا ما قد كان؛ دخلت قمر القصر واجتهدت في الوصول إلى قلب السلطان، حتى إذا وصلته صار لا يتسع لامرأة سواها، فجعل يغدق عليها من الجواهر والأموال ما أخذت هي تنفقه في سبيل الثورة، تُسرِّبه إلى المعلم متذرعة بالإنفاق على الفقراء والمحتاجين.

لكن وبقدر ما يكبر دعمها للمعلم الثائر، يكبر حبُّها للسلطان حين تكتشف بعض أوجه إنسانيته، وخصوصا بعد أن تدرك أنها أصبحت حُبلى، وقد يكون من تحمل في أحشائها الوريث للسلطة والملك. الآن جعلت قمر تعمل على التقريب بين الحاكم والثائر، تجتهد لإقناعهما بضرورة الاشتغال معا خدمة لصالح البلاد والعباد، تهمس في أذن كل واحد منهما بمحاسن الآخر، تذكرهما بالغايات والأهداف التي تجمعهما في الباطن.

توحي للسلطان كيف يستطيع أن يتخذ المعلم الثائر -دون أن يدري- عونا له على تحقيق مطلبه القديم، الذي صار مطلب المعلم الجديد، أي العدل والشورى وإطلاق المسجونين، والتخلص من الفساد والفاسدين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل…؛ فما زالت تلحّ على السلطان حتى أقنعته بأن في الاستعانة بالمعلم ما يضمن أهون الأضرار، وعندها قال: "بذلك أنتصر به… وأنتصر عليه"؛ لتستدرك هي قائلة: "فلنقل: بذلك تنتصر الرعية بكما".

ليس في الوجود أمر عظيم يرجى تحققه أعظم من أن تنتصر الرعية بتحالف السلطان الحاكم والمعلم الثائر، تحالفا يضمن أسباب الاستقرار والرخاء ويُؤمن مستقبل الأجيال الصاعدة. فقد حقّ لِـ"قمر" أن تفخر وتسعد بما تحقق بفضلها من تقارب بين رجلين، بين حبيبين، أو بالأحرى بين بحرين بينهما برزخ لا يلتقيان.

وبينما هي تتشوف إلى لحظة التقائهما، وهي لحظة تصالح مع الماضي ومع الذات والآخر، لحظة تنفتح عندها أبواب السعادة الأبدية؛ بينما هي كذلك تعيش في حالة انتشاء، فُجعت بنبأ اغتيال المعلم وهو في طريق العودة لملاقاة السلطان. فقد قُتل شر قِتلة وجاء قتَلَتُه برأسه، يطلبون مِن وراء عملهم أوفر الجزاء، وهم يجهلون ما قد تم من تقارب بين الرجلين. ولن يمضي زمن طويل حتى تُفجع ثانية، وهذه المرة بمقتل السلطان على أيدي ثوار انقلابيين يقودهم حاجبه وبعض رجال دولته، الذين نقموا عليه لما انتقص من أموالهم وأملاكهم.

من يقرأ رواية وليد سيف "ملتقى البحرين"؛ يعتقد لأول وهلة أنه أمام بحث يحاول تقريب أحداث تاريخية ووقائع لها ارتباط بفترة زمنية ماضية. لكن مواصلة القراءة تجلي للقارئ أنه أمام عمل فني اختار صاحبه التاريخ مسرحا للأحداث ورقعة ترتسم فوقها الشخوص؛ وكأننا بوليد سيف يريد من وراء هذا الاختيار أن يمرر رسالة مفادها استحالة التحدث عن العالم العربي إلا بصيغة الماضي

مات السلطان ومات الثائر مقتوليْن مغدوريْن، كل منهما على أيدي أقرب المقربين إليه، وبهذا تم وأد الإصلاح. أما قمر فقد امتثلت لأوامر السلطان فجمعت من المتاع والمال ما قدرت عليه، وخرجت رفقة وصيفتين وخادمين من القصر تطلب مكانا آمنا. وبينما هي في الطريق تضم إلى صدرها طفلها يحيى (وريث الملك)؛ إذا بأحد الخادمين الوفيين يسألها: «إلى أين المسير؟»، لترد هي: «سنعرفه حين نبلغه». لقد مات السلطان والثائر وبموتهما دخلت قمر -بوصفها رمزا للشعوب التي ما فتئت ترى في تلاحم السلطتين ما يحقق آمالها المنشودة في الإصلاح- مرحلة التيه، فصارت تسعى لملاقاة قدر مخبوء وهي تجهل المسير والمصير.

التيه هو كذلك موضوع رواية أمين معلوف "التائهون". غير أن معلوف -على خلاف وليد السيف الذي اختار التاريخ خشبة تتجسد فوقها الأحداث وترتسم الشخوص- فضل سرد الأحداث المأساوية التي شهدها لبنان من زاوية أخرى، من موقع آدم –وهو مؤرخ يقيم في المهجر- الذي عاد ليزور وطنه الأصلي بعد طول غياب. وبهذا الاختيار يأخذ الراوي مسافة نقدية تمكنه من وصف المجتمع اللبناني من الخارج، أي كما يراه الآخرون لا كما يحلو له أن يرى ذاته.

إن نظرة آدم للأشياء هي نظرة الغائب العائد، هذه النظرة التي توسع ساحة السؤال لتجعله يشمل ما يعتبره الحاضر الذي لم يبرح المجتمع قطّ ثوابث ومسلمات، مانحة بذلك الراوي فرصة الوقوف والتعبير عن طبيعة ما يعتمل داخل هذا الإنسان الغائب العائد من أحاسيس مبهمة، تجمع بين الحب والكراهية والصداقة والخيانة. يتوق الراوي إلى زمن الصبي، إلى ما قبل الحرب حيث كان التعايش بين مكونات المجتمع ممكنا، بعيدا عن نقمة الطائفية البغيضة وانعدام الشعور بالمسؤولية والمحاسبة.

نجد بين ثنايا الرواية إحالات قوية على حالة التمزق التي يعيشها آدم -ومن ورائه أمين معلوف- حيال وطن لا يستطيع المرء أن يواصل الحياة فيه، كما لا يستطيع أن يغادره. يحدِّث آدم نفسه في مذكراته قائلا: «حين كنت هناك، كنت أشعر بالعجز عن الذهاب بعيدا. والآن وأنا في البعد، أشعر بالعجز التام عن العودة. فحالي مثل حال من ينجو من الغرق. في البداية كان صعبا عليّ القفز من السفينة وهي تغرق، ولكن بعد أن غادرتها فلن يدور بخلدي الصعود إليها مرة ثانية. بالنسبة لي هذه صفحة قد طُويت إلى الأبد. ولست في هذا الأمر وحدي بالمناسبة… لن أزيد في علمك شيئا إن قلت لك إن الشرق قد ضاع، نهائيا».

يدرك آدم لاحقا أن عودته إلى لبنان هي مجرد سفر في الزمان لا في المكان، حيث يشعر بأنه لم يعد إلا ليصل ذاته بموطن صباه، بحثا عن آثار الشباب لا لينظر إلى الوطن الماثل بين عينيه. كل شيء جديد في هذا الوطن يبدو في عينيه وكأنه انتهاك للذاكرة واعتداء.

هذا التمزق سيلازم آدم إلى نهاية الرواية ليصبح تمزّقا بين الموت والحياة، «من جنس التمزق الذي يشهده وطنه»، كما تقول «دولوريس» التي أصبحت تلازمه وهو فاقد الوعي في غيبوبة بعد حادثة سير. يورد الراوي كلاما يُتخيّل أن يكون قد جال في خاطر آدم قبل وقوع الحادثة، كلاما ليس مكتوبا في مذكرته، فيه ما فيه من حديث عارض عن «السعادة والابتهاج برهافة الشرق وهدوء رقته»، و«استعادة الشهية والرغبة في الحياة»، و«بواعث على مواصلة المعركة».

تظل معاني هذه العبارات مبهمة غامضة، ولن تُعرف إلا بعد استفاقة آدم من غيبوبته، هذا إن استفاق. لكن في جميع الحالات؛ يظل آدم أبعد ما يكون من تجسيد أي نوع من البطولة، شأنه شأن من يملك شطرا من الحياة فلا يحياها كاملة، وشطرا من الموت فلا يدركه كاملا.

لعل ما آلت إليه أوضاع آدم -من تمزق أفضى به إلى غيبوبة وحزن مقيمين- هو نتيجة أوضاع بلد تتنازعه الطائفية، ويجثم على صدره صراع أبدي للمعتقدات ونقاشات وملاسنات لا تنتهي. هذا ما تجليه بشكل واضح وبلغة راقية المراسلات والنقاشات التي دارت بين أصدقاء صبي آدم، وما أودعه هو من خواطر في مذكرته.

يقول أحد الأصدقاء في معرض رده على سؤال طرحته «دولوريس» بخصوص المكانة الكبيرة التي يحتلها الإيمان في هذه الجهة من العالم: «هذا ما يقال في الغرب؛ لا تثقي بحرف مما يقال. إنه مجرد أسطورة؛ فالحقيقة هي عكس ما يقال تماما… هنا. في المشرق؛ لا نكترث بالإيمان، بقدر ما نكترث بالانتماء».

ما أعان الراوي على بلورة مثل هذه المعاني هو البعد والمنفى اللذان يحرضان العقل على طرح أسئلة غير مألوفة، تجعل المرء يرتد إلى دواخله بحثا عن أجوبة جديدة مقنعة. فما كان للعقل المشرقي أن يتنبه إلى هذه المعاني الجديدة من نفسه لو لا المسافة النقدية التي يوفرها التيه خارج حدود الذات بحثا عنها.

وكأننا رفقة آدم -الغائب العائد- نقف عند جملة أحاسيس وآراء يستعصي على من لم يبرح مجتمعه قطّ إدراك قعرها. إن القارئ العربي ليتغلغل مع رواية أمين معلوف إلى فكر غير مألوف، فكر تصبح في ميزانه مسلمة الإيمان لدى المشارقة مسلمة لا أساس لها من الصحة، فكر يصبح هذا الإيمان في مذهب أصحابه مجرد انتماء.

تَوسَّل أمين معلوف بالغياب كتقنية تسمح بتوليد المسافة النقدية اللازمة للقيام بتحليل حالة المجتمع النفسية والثقافية، وفَهْم ما صار إليه لبنان والوطن العربي عموما من ضيق. وقد أثبت بذلك أن فن الرواية خير ما يتوسل به لبلوغ ما تعمى عنه بصائر المنظّرين من مشاعر وأحاسيس تصنع حالة المجتمع الشعورية، الحالة التي تحدد قابليته للنهوض من عدمه. بعد تقليب الأمور بطنا وظهرا؛ نخلص مع آدم وأصدقائه –وهم أبطال كَلا أبطال في المنفى- إلى أن المجتمع العربي يغفل حقيقة كونه مجتمع «انتماء»، ويظن خطأ أنه في جوهره مجتمع «إيمان».

لقد وُفِّق أمين معلوف في فتح باب للتأمل في علاقتنا بالدين وبالآخر؛ وكأننا بالراوي يخطو بنا خطوة إلى الأمام في طريقنا نحو فهم ذواتنا. بعد مرحلة التنظير العلمي والتحليل المنطقي للعلاقة بين الدين والسياسة؛ نجد أنفسنا اليوم مدعوّين للتفكير في العلاقة بين الدين بوصفه انتماءً للطائفة، والدين بوصفه إيمانا، وهذا ما يستحثنا على الاشتغال على ذواتنا، على الحالة الشعورية والنفسية والثقافية، عوض تفسير أسباب السقوط تفسيرا مطلقا، وتعيين سبل النهوض تعيينا لا يقبل النقاش، وكأننا أمام وصفة موضوعية، متى وُجدت وُجد معها الانبعاث والإحياء والنهوض.

التيه هو كذلك موضوع رواية أمين معلوف "التائهون". غير أن معلوف -على خلاف وليد السيف الذي اختار التاريخ خشبة تتجسد فوقها الأحداث وترتسم الشخوص- فضل سرد الأحداث المأساوية التي شهدها لبنان من زاوية أخرى، من موقع آدم –وهو مؤرخ يقيم في المهجر- الذي عاد ليزور وطنه الأصلي بعد طول غياب. وبهذا الاختيار يأخذ الراوي مسافة نقدية تمكنه من وصف المجتمع اللبناني من الخارج، أي كما يراه الآخرون لا كما يحلو له أن يرى ذاته

لقد استطاع الروائي ياسمينة خضرة بدوره أن ينفذ عبر فن الرواية إلى أغوار المجتمع، فيفكك أوصال الاستبداد بكل أنواعه، سواء أكان استبدادا فكريا أم سياسيا. لكنه -على خلاف وليد سيف وأمين معلوف- اختار لأبطال روايته "ماذا تنتظر القردة؟" ولأحداثها واقعنا المعاصر، واقع المجتمع الجزائري المضطرب؛ مفضلا أسلوب الوصف والكشف عما يُعايَن في هذا الواقع من زاوية نظر شخوص تنتمي إليه، لا من زاوية نظر من يطلّ عليه من التاريخ، كما هو الحال بالنسبة لوليد سيف، أو من المنفى كما هو الحال بالنسبة لأمين معلوف. إنها مقاربة ثالثة، تغني المقاربات الأخرى وتثبت قدرة الإبداع الفني على تحريض الوعي، لمساءلة الواقع العربي مساءلة تستحق التنويه.

في حوار بين مفتش شرطة شاب وعنيد يصرّ على إنهاء التحقيق في قضية قتل فتاة، وبين الحاج سعد المستبد الغاشم؛ تنكشف لنا طبيعة الاستبداد، الاستبداد الذي لا سبيل إلى معرفة كيف نشأ وكيف كبر وترعرع.

يقول المستبد في معرض محاولته دفع ما يلصقه به المفتش الشاب من ظلم وأعمال شنيعة اقترفها في حق الأبرياء: «الخطأ ليس خطأ أي أحد؛ فالواحد منا ليس إلا ما يريده الآخرون أن يكون… فأنا لم أطلب أن أكون مستبدا». يحاول أن يتجرد من مسؤوليته الأخلاقية باعتماد إستراتيجية دفاع ترد الاستبداد إلى مجرد مسألة تراتبية، أو وباء مُعْدٍ يستعصي على الإنسان تحصين ذاته ضده. ويضيف قائلا: «الطغاة ليسوا سوى مفعول هلوسات تنتج عن أشكال من الجبن، سواء أكان جبنا صغيرا أو كبيرا».

عبثا يحاول العجوز المستبد أن يتخلص من قبضة المفتش الشاب الذي لحق به وهو يهرب، ليضربه على وجهه بظهر مجرفة، كما يفعل السفلة والرعاع؛ فيذيقه نفس الإهانة التي كان أيام جبروته يذيقها الآخرين، يريد أن يشعره بالمعنى الحقيقي للحياة خارج إطار العدالة، فيخاطبه قائلا: «أرأيت سيدي سعد! هكذا يسير العالم وفق موازين قوى بذيئة. فسيّد الموقف في هذه الحالة هو الهراوة، لا مَن يحمل الهراوة». جعل الغضب يتطاير من عينيه وهو يجثم على صدر الحاج سعد الطاغية، ثم ما لبث أن غرز وتدا في صدره وهو يلعنه باسم كل جزائري، صالح أو طالح، صغير أو كبير، ويدعو عليه أن يكون سعير جهنم مثواه الأخير.

تقدم لنا رواية ياسمينة خضرة الاستبداد في صورة نمر من ورق، ظاهره القوة والعزة وباطنه الضعف والهوان. ولما كان كذلك؛ فحق للكاتب أن يُضمِّن عنوان الرواية سؤالا استنكاريا يستحث الهمم على طلب التحرر من أغلال الاستبداد التي توثقها، وكأنه يحرض وعي القراء سائلا: ماذا تنتظرون حتى تهبّوا للانقضاض على الاستبداد الذي هو من عند أنفسكم، من صنع هلوساتكم التي ورثكم إياها الجبن. فلا مناص من كسر شوكة الاستبداد كشرط لاستعادة كرامة الإنسان واسترداد إنسانيته!

بعد أن أجهز المفتش الشاب على الطاغية الغاشم الحاج سعد؛ شعر بألم في أسفل البطن لم يتبين حقيقته، حتى إذا عاد أدراجه إلى البيت ودخل الحمام ليستحمّ فوجئ بأن مصدر ألمه هو دخوله في حالة انتصاب، وهو الذي ورّثه اليأسُ من عدم القدرة على الانتصاب حزنا وهمًّا مقيميْن. الآن -والآن فقط- صار إنسانا «مَشْفِيًّا، كاملا، وحيا».

لا تخلو لغة "ماذا تنتظر القردة؟" من التحريض، تحريض الوعي على التفكير في إعادة ترتيب العلاقة بين الاستبداد ومطلب الحرية. وحين ننظر إلى الرواية على ضوء ما تشهده الجزائر من أحداث؛ نجدها توثّق مرحلة مفصلية في تاريخ التحرر من الخوف، وتستشرف عهدا جديدا تولد فيه البطولة ويُقبر فيه الاستبداد. لقد استطاع ياسمينة خضرة بهذا العمل الروائي أن ينطق باسم شعب بأكمله، باسم جيل بأكمله، أصمته الاستبداد. عند التأمل نجد روايته تدخل في عداد أعمال أدبية تنطلق من حيث وقفت مشاريع النهوض الفكرية؛ لتزيح الغشاوات، وتزيل الظلمات عن الواقع، وتقدح شعلة الأمل وتشحذ العزائم.

وفي الختام؛ نخلص من هذا التقديم للأعمال الأدبية لكل من وليد سيف وأمين معلوف وياسمينة خضرة إلى ما مفاده أننا أمام إبداع عربي جديد، إبداع يؤشر إلى نهاية ما يُصطلح عليه بـ«مرحلة ما بعد الاستعمار»، حيث كان «الآخر» يُستدعى كمسؤول عما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي من تخلف وإفلاس واستبداد. أما اليوم فقد أصبحنا إزاء حسّ نقدي جديد، لا يقبل بأن يتذرع الطغاة بالغزاة، وكأننا بأفق جديد ينفتح أمام الشعوب، التي تجدها تدخل مرحلة التيه في عالم تنعدم فيه كل نقاط الاسترشاد، وهي لا تُميِّز بين الذاتي الأصيل والغيري الدخيل.

لقد استطاع الروائي ياسمينة خضرة بدوره أن ينفذ عبر فن الرواية إلى أغوار المجتمع، فيفكك أوصال الاستبداد بكل أنواعه، سواء أكان استبدادا فكريا أم سياسيا. لكنه -على خلاف وليد سيف وأمين معلوف- اختار لأبطال روايته "ماذا تنتظر القردة؟" ولأحداثها واقعنا المعاصر، واقع المجتمع الجزائري المضطرب؛ مفضلا أسلوب الوصف والكشف عما يُعايَن في هذا الواقع من زاوية نظر شخوص تنتمي إليه، لا من زاوية نظر من يطلّ عليه من التاريخ، كما هو الحال بالنسبة لوليد سيف، أو من المنفى كما هو الحال بالنسبة لأمين معلوف

هذه الأعمال الأدبية الراقية ترصد لنا أبعادا خفيّة كثيرة، أبعادا تستحثنا كي نطرح الاشتغال بجدلية السلطة والمثقف جانبا، باعتبار ما آلت إليه أمورهما اليوم من ضعف أمام تنامي قوة الأفراد والأقليات في مجتمعات هلامية يصعب دمجها وفق رؤية أحادية.

لم تعد الشعوب العربية -في ظل شيوع المعلومة- قابلة لأن تُحكَم بسردية دينية أو نظرية عقلية. لقد خرجت من طوق الاستبداد المحلي لتدخل في مواجهة استبداد خفي لم تتحدد بعدُ ملامحه الكبرى. إنه التيه الذي آلت إليه الأمور في "ملتقى البحرين"، التيه بحثا عن قاعدة جديدة يتأسس عليها الاجتماع العربي في زمن يُيْأس فيه من الطمع في إصلاح العقلين السياسي والثقافي. وكأننا بهذين العقلين قد سلّما مفاتيح قيادة الشعوب العربية إلى قوة افتراضية جديدة، لا تُعلَم مصادر قوتها بعدُ.

من بين الأبعاد الأخرى التي تجليها الروايات المقدَّم لها في هذا السياق، البعد المتعلق بالدين ودوره في المجتمعات العربية. لم يعد الدين ذلك الرصيد الروحي الذي تنهل منه المجتمعات العربية أسباب القوة والنهوض، بل صار مجرد انتماء يُذكي النعرات الطائفية. هذا ما تجليه رواية "التائهون" لأمين معلوف، فتنبهنا إلى إمكانية أن نكون من أكثر شعوب الأرض اليوم خواء روحيا، نظن أننا نؤمن والواقع أننا ننتسب. لقد جعلت أسطورة الشرق الروحاني تنهار ليحل محلها الشك في الأسس التي ينبني عليها تديننا.

ونقف مع رواية ياسمينة خضرة "ماذا ينتظر القردة؟" عند ظاهرة الاستبداد، فنحسب أن الراوي يريد أن يبعث برسالة واحدة، مؤداها أن المستبد أهون من أن يصمد في وجه إرادة الشعوب في الحياة، وأن وضع حد للاستبداد يقتضي قدرا يسيرا من الإصرار والشجاعة. فالراوي يتساءل -في عنوان الرواية- كيف يجبن الإنسان أمام المستبد فلا ينقضّ عليه حتى يسترد مروءته وكرامته، فيصير إنسانا كاملا غير منقوص. يحمل العنوان تساؤلا استنكاريا، كيف يعجز الإنسان العربي عن دخول زمن البطولة الذي صار لا تفصله عنه إلا جرعة من الجرأة؟

هذه الروايات الثلاث تفتح أمامنا أفقا أرحب للتأمل في العلاقة بين السياسة والفكر والشعب، بعد أن كان الأمر يقتصر على التأمل في ثنائية السياسة والفكر، أو السلطة والمثقف. لقد صار الشعب يفكر، وصار لزاما على السلطان والمثقف -على السواء- الإقرار بهذا الأمر وأخذه بالحسبان. كما تجلي لنا كذلك ما يختصم في دواخل الإنسان العربي من أسئلة لا تقف عند حد، أسئلة تطال أشكال التدين الموروثة ودورها في إغناء تجارب المشارقة الروحية أو إفقارها.

وكأننا بالعالم العربي اليوم يعيش مخاضا، مخاض الخروج من روحانية الانتساب إلى روحانية الفرد المتأمل المتفلسف. وأخيرا؛ تضعنا الروايات المذكورة أمام معضلة العلاقة بين الاستبداد والشعوب. إن بطولة الشعوب تقف عند التخلص من الاستبداد، لا تتعداه إلى تجسيد بطولة أخرى: بطولة البناء في مرحلة ما بعد الاستبداد، بل قدَر هذه الشعوب أن تظل في الشارع حتى صارت لفظة "الشعب" مرادفة للفظة "الشارع".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.