الكتاب العربي والكفاح الثقافي

قراء يطالعون على الكتب برفوف معرض الكتاب العربي الأول


في معرض للكتاب العربي أُطلق لأول مرة بحجمه ونوعيته في إسطنبول، ونظمته الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت، ازدحم الحضور من النخب والرأي العام بصورة كبيرة جدا.

وعموما هناك حركة صعود في اهتمامات القارئ العربي، كما أن معارض الكتب يشهد بعضها تفوقا، وبعضها انحسارا جراء الظرف السياسي والاجتماعي الأمني الذي يُهيمن على سماء الحركة الثقافية منذ عمليات اغتيال الربيع العربي، أو محاصرته، والصراعات التي قامت في متن هذه الأزمة أو هامشها.

والشبكة العربية للأبحاث -التي لا صلة لي ولا لكتبي بها، سوى معرفة بسيطة بأصحابها- لها بصمة مختلفة في هذه المرحلة الزمنية التي يعيشها الوطن العربي، حيث رفعت سقف التعبير الفكري، وجدليات الوعي السياسي والثقافي وخاصة الإسلامي، في مضمار التحرير الفكري لمناهج الحريات والفلسفة والتاريخ الاجتماعي في الوطن العربي، مما جعل موادها المنشورة لا تتمكن من العرض والتداول التسويقي بسهولة.

وتلك متلازمة استمرت لعقود طويلة في مسار حضور المثقف العربي ورأيه الحر، بغض النظر عن توجهه الأيدولوجي قوميا أو يساريا أو ليبراليا، سوى أن هذه التوجهات العميقة التي تحمل إرثا كبيرا من المؤلفات والتنظير الفكري في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، نُحيّت في العقود الثلاثة الأخيرة عن متابعة ورقابة المؤسسات الرسمية، لكونها لم تعد تيارات مثيرة لقلق الأنظمة الرسمية، أو لأي سبب آخر.

بعض معارض الكتب تشهد تفوقا، وبعضها انحسارا جراء الظرف السياسي والاجتماعي الأمني الذي يُهيمن على سماء الحركة الثقافية منذ عمليات اغتيال الربيع العربي أو محاصرته، والصراعات التي قامت في متن هذه الأزمة أو على هامشها
كما أن الكتب التراثية والوعظية في المادة الدينية تحافظ على حضورها، وبقيت أوراق الحرية السياسية الأكثر متابعة ومطاردة في كل الوطن العربي من كل الاتجاهات، وإن بقيت كتب الفكر الإسلامي الأكثر حضورا ومتابعة، في حين سُمح بكثافة لبديل انتشر في الزمن الأخير، لأدب الحكواتية الجدد، وهي تدوينات بإيحاءات جنسية، أو صراع مع المجتمع والسائد فيه، بعضه صراع حقيقي مع عادات سيئة قُدّمت باسم التدين والعفاف، وبعضها هذرٌ اجتماعي تم صفّه للتسويق كحالة متمردة تستقطب جمهور القراء لا أكثر، ورفعَ سقف مبيعات الناشرين في الخليج العربي، وزادت في تسويقها حملات مواجهة وتعنيف من تيار ديني طاردها فعزز الطلب عليها، وحين تُركت تراكمت في الرفوف.

وهذا جزء من صورة واقعية لسوق المعرفة الثقافي واضطرابه الذي يتأثر بالواقع الاجتماعي السياسي للوطن العربي.

 
ومع كل ذلك التدخل التسويقي أو السياسي، فقد ظل الرواق الثقافي الذي يمنح معرفة نوعية للمجتمع العربي، ويعيد تحرير مسائل مهمة جدلية وإعادة طرحها وتفكيكها ومناقشتها، مطلبا مستمرا لنخب الصعود الشبابي في الوطن العربي الجديد.

وهي نخب مهمة جدا في صناعة الوعي الذاتي، والقاعدة الفكرية والضمير الأممي بشقه الإسلامي والعروبي، كما هي في سرادق البحث عن صناعة إنسان الغد العربي الذي يرتفع تدريجيا من الواقع المر، وضغوط تشكّل شخصيته ومجتمعه تحت قصف من العنصريات والتحريض الأمني وأرتال من البهتان والكراهية، تُصب عليه من مأجورين، أو من شخصيات ثقافية اشتُرِيت لهذا الغرض السياسي، في حين يُحاصر مثقف آخر، فيقدم مادته الفكرية غير مكتملة أو يُغيّرها خشية القمع الثقافي، فتفقد رسالتها.

ولسنا نتحدث عن كل الفنون ولا الآداب والمعارف العلمية، فهناك ما يبقى في مساره القديم ويحضر له جمهور في كل جيل، وخاصة في علوم الضرورات، لكننا نتحدث عن المادة الفكرية البحثية وأسئلة السياسة المعاصرة، ومسارات الوعي الفكري الثقافي، التي تُجيب جموع الشباب الحائر والمضطرب عن خريطة معارفه، ومهمة العقل العربي أمام عواصف العنف والحروب، وحملات قتل الحرية التي لا تنتهي، وعلاقة الإنسان العربي بذاته ومشرقه، والمتفق مع أصوله وبيئته والمختلف معهما دينيا واجتماعيا وفكريا.

إنها رحلة كفاح بالفعل كي يُقدم المثقف العربي مادة منتقاة تُسهم في تقديم أجوبة ومقترحات معرفية، وليس وجبة أسئلة لا تنتهي، ولا عالم شكوك يُسقط اليقينيات الكبرى في حياة الفرد -وخاصة الشباب- ويزيده تيها على تيه.

والمشكلة المركزية دائما هي غياب الحرية، فالحرية تَبني مدرج التعبير والتفكير للمثقف العربي، وتُشجعه على مواصلة البحث وقطف الثمرة، والقارئ تزداد أمامه الخيارات النوعية، فينتخب ما ترتاح له نفسه، ولكن حين ترفع القيود عن المجتمع والمثقف، فإن الوصول إلى دلالات هذا الأمر ستكون مَهمّة سهلة ومتاحة.

إن إحدى الإشكاليات الكبرى اليوم أيضا أن الإعلام الجديد بات مطاردا من ذات القوى الرسمية في الوطن العربي التي طاردت الربيع والحرية، وبالتالي تحولت لغته إلى ركام ضخم عبر تدخل ممنهج، أو رعونة وحماقة من أفراد تأثروا بالسلوك السيئ، والمشاتمة العنيفة، والتحريض الذي ساد في أروقته اليوم، فيُفاقم أزمة الوعي من جديد، وإن كان لا يزال لهذا الإعلام بصمات إيجابية في مسارات أخرى.

 
المسؤولية اليوم تَعظم للغاية على المثقف والناشر، في انتخاب المادة المعرفية النوعية المهمة للجيل العربي، وتدعيم علاقاته الأخلاقية وسلوكه الإنساني الراشد، الذي هو أحد أكبر أصول الإسلام الخالدة التي بعث بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم

ولذلك فإن المسؤولية اليوم تَعظم للغاية على المثقف والناشر، في انتخاب المادة المعرفية النوعية المهمة للجيل العربي، وتدعيم علاقاته الأخلاقية وسلوكه الإنساني الراشد، الذي هو أحد أكبر أصول الإسلام الخالدة، التي بعث بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.

وقد باتت اليوم مادة التجديد الإسلامي بثوبها العربي، ومساراتها الاجتماعية والتشريعية والفلسفية والفكرية والسياسية والدستورية، أهم هذه المواد وأكثرها تأثيرا في صناعة الوعي الثقافي، لكون الفكرة الإسلامية واسعة الانتشار، عبر التيار المنتمي إليها بكل أطيافه، أو عبر الرأي العام العربي في مجتمعات المسلمين، وحتى شركائهم من الأقليات، فيحتاجون إلى هذه المادة ومعرفة أين يقف خطاب الفكر الإسلامي الجديد الذي يعي أصول الشريعة، ويعي في ذات الوقت معارف التجديد الفكري والإنساني لها.

إن هناك خطوات لا بد أن تقطع ضمن هذا السبيل، ولا بد من مصارحات كبيرة أيضا، تُراجع -بشجاعة- مسيرة الوعي الإسلامي المعاصر، وتأثيرات صحوة الخليج الدينية عليه، وأين يتفق معها في أصل دلالته وتحرير فكره الإصلاحي، وأين يختلف معها، وهو بحاجة أيضا إلى قراءة تجديدية لمهمة الدعوة الإسلامية في فكر الإنسان والحضارات، وهل هذا الزمن هو زمن الجماعات التي ستستمر كطبيعة للتكتل الاجتماعي لدى العرب، أم هو زمن المدارس والأفكار التي تُعيد إنتاج مسؤولية الوعي للمسلمين كأمة، وليس للإسلاميين كجماعة.

إن الظلم الشديد الذي وقع على الحركة الإسلامية في بلاد مختلفة، يجب أن لا يمنع إطلاق القراءة النقدية لها، وخصوصا في بنائها الأيدولوجي، وأين يقف بين فكر الإسلام الواسع من ضيق المسالك التربوية والفقهية الذي قاد البعض إلى اعتبار هذه الحركات أمة الإسلام، واعتبار مادتها المقدمة للشباب وكأنها أركان للدين.

وعليه من الضروري مراجعة هذه المرحلة، وتأسيس حقيبة معارف إسلامية متكاملة، تُكمل أسس المدرسة التي بدأها الشيخ المعاصر محمد الغزالي فسبق عصره وجدد خطاب نهضته، وتُواصل البحث والتأسيس لخطاب الفكر الإسلامي الجديد.

وهذا الأمر ليس مطلوبا قط للحالة الإسلامية، بل لكل شباب العرب وأشقائهم العجم، حيث مادة الوعي الإسلامي وخاصة ثوبه التجديدي الإنساني المعاصر، حاجة للجميع، وخروج القلم الثقافي عن أن المادة الإسلامية معرفيا أو سياسيا أو فكريا، تقدم للإسلاميين لا المسلمين، هي أول مهام المثقف العربي وكفاحه الأمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.