أكراد العراق وأوهام الاستقلال

Kurdistan regional government president Massud Barzani (C-R) delivers a speech at a meeting during his visit to the multi-ethnic city northern Iraqi of Kirkuk on June 26, 2014. Barzani made the trip to inspect Kurdish security forces deployed near Sunni Arab militant-controlled areas south and west of the city and raise morale, an official from his Kurdistan Democratic Party said. AFP PHOTO/STR
الفرنسية AFP PHOTO/STR

سيناريوهات الفعل الكردي
بين الكويت وكركوك
عقدة كركوك

عاد حلم الاستقلال ليقفز لواجهة الأماني الكردية في شمال العراق بعد أن سمحت الأوضاع الأمنية المتدهورة في المحافظات العربية العراقية المحاذية لإقليم كردستان (نينوى وديالى وصلاح الدين)، وكذلك الأوضاع السياسية في بغداد، بخلق فراغ عسكري كامل في مناطق كانت لفترة زادت على العشر سنوات موضع خلاف وصراع بين الإقليم والمركز حتى سميت من قبل الطرفين بالمناطق المتنازع عليها.

ولعل ذلك ما أغرى رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني لإصدار أوامره لقطاعاته العسكرية (البشمركة) للتقدم صوب هذه المناطق والسيطرة عليها، وبدا الحلم الكردي أقرب إلى الواقع من خلال تأكيد البارزاني خلال زيارته كركوك أن سيطرة الأكراد على كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها مع بغداد أمر نهائي، ثم اعتباره أن المادة 140 من الدستور الخاصة بهذه المناطق "لم يبق لها وجود".

بدا الحلم الكردي أقرب إلى الواقع من خلال تأكيد البارزاني أن سيطرة الأكراد على كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها مع بغداد أمر نهائي، ثم اعتباره أن المادة 140 من الدستور الخاصة بهذه المناطق "لم يبق لها وجود"

بعد هذه المتغيرات على أرض الواقع، هل من حق الأكراد أن يفرحوا بالمتحقق فعلا على الأرض؟ أم إن ما أقدموا عليه يمثل خطوة غير مدروسة بشكل صحيح يمكن أن تفضي إلى إرباك كافة الإنجازات المتحققة في الإقليم منذ أكثر من عشر سنوات؟

وإنْ افترضنا هيمنة الأكراد في العراق على هذه المناطق المتنازع عليها بهذه الطريقة غير المقبولة عراقيا وعربيا وإقليميا وعالميا، فهل سيتمكنون من الحفاظ على هذه الهيمنة؟ وسؤال أخير ربما، نفترض من خلاله إعلان كردستان العراق احتفاظها بكركوك إلى الأبد، فمن يا ترى سيعترف بهذا الضم عراقيا وإقليميا ودوليا؟

سيناريوهات الفعل الكردي
هناك الكثير من العراقيين قبل المراقبين يتساءلون وبشدة عن كيفية تساقط المناطق المتنازع عليها بيد البشمركة بهذه السرعة، والسهولة أيضا، في حين يفترض أن هذه المناطق هي بشكل عام مناطق حيوية إستراتيجيا واقتصاديا.

ويهتم المسلحون (الثوار) الذين بسطوا سيطرتهم على محافظات نينوى وصلاح الدين والكثير من مناطق محافظة ديالى، بأن تكون هذه المناطق ورقة ضغط على عصب حكومة المركز التي يديرها المالكي، ولهذا الأمر سيناريوهات محتملة يمكن افتراضها كالتالي:

– أن يكون هناك إهمال لهذه المناطق من قبل الثوار على اعتبار أن الهدف الأهم لهم هو العاصمة العراقية بغداد، وكل ما عداها ليس سوى مناطق إدارية سرعان ما ستنضم بحكم القانون والقوة لها بعد أن تتم تقوية المركز بحكومة وطنية مركزية، كما كان الوضع في العراق في أغلب فترات تاريخه الحديث.

– أن يكون هناك اتفاق مسبق بين قيادة "الثوار" وقيادة إقليم كردستان العراق يترك بموجبه الثوار هذه المناطق لقوات البشمركة المدربة والمنضبطة عسكريا وأمنيا من أجل الحفاظ على هذه المناطق من أية تداعيات تؤثر لاحقا على مجمل الوضع العراقي الداخلي أمنيا واقتصاديا، على أن يكون للموقف الرسمي من هذه المناطق الكلمة الفصل في عائديتها بعد أن تضع الحرب الحالية في العراق أوزارها، خاصة وأن للسيد مسعود البارزاني علاقات جيدة مع أهم الفصائل الوطنية المشتركة في قتال قوات المالكي الآن.

– أن يكون الأكراد قد اختاروا "المجازفة" واستغلال لحظة تاريخية وهَنَ فيها العراق بكامله أمام كل التحديات ليأخذوا ما يريدون أخذه ثم ليعلنوا بعدها حدود دولتهم المنشودة ويضعوا العالم والإقليم أمام أمر واقع يغذيه ضعف الأداء لحكومة بغداد في مقابل حاجة العالم لعراق قادر على ضبط أوضاعه بالحد الذي يحافظ من خلاله على حركة الإقليم ومصالح الغرب فيه وفيما جاوره من بلدان.

يقع السيد البارزاني ربما في خطأ إستراتيجي كبير إذا توهم أن قضية الاحتفاظ بمحافظة كركوك العراقية ستكون نهائية وأنه سيستطيع فرضها على المجتمعين العراقي والدولي كأمر واقع

– أخيرا أن يكون الإجراء الكردي إجراء وقائيا لحماية محافظات الإقليم من تحركات "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) أو أية منظمات إرهابية، وهو ما عبر عنه رئيس الإقليم بالقول "كانت في هذه المناطق قوات عراقية وحدث فراغ أمني وتوجهت قوات البشمركة لملء هذا الفراغ".

بين الكويت وكركوك
يقع السيد مسعود البارزاني ربما في خطأ إستراتيجي كبير إذا توهم أن قضية الاحتفاظ بمحافظة كركوك العراقية ستكون نهائية، وأنه سيستطيع فرضها على المجتمعين العراقي والدولي كأمر واقع.

ومن خلال ما قدمه رئيس الإقليم من عبارات أعقبت سيطرة قواته على كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها، يمكن القول إن قضية الاحتفاظ بكركوك تشبه إلى حد كبير دخول القوات العراقية إلى دولة الكويت، فقد كان الدخول للمدينتين بنفس السهولة، كما اعتبر الزعيمان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والكردي مسعود البارزاني مسألة الضم "نهائية".

إذ قال صدام حسين إن الكويت عادت إلى بلدها الأم العراق وإن "الفرع عاد إلى الأصل" و"إن الكويت الآن تمثل المحافظة التاسعة عشرة للعراق" وغيرها، في حين قال البارزاني في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ في أربيل "لقد صبرنا عشر سنوات مع الحكومة الاتحادية لحل مشاكل هذه المناطق وفق المادة 140، والآن أنجزت هذه المادة ولم يبق لها وجود".

ولأن الكويت تمثل لؤلؤة الغرب وشريانا حيويا منتجا للنفط ومصالح أخرى، فإن كركوك أيضا تمثل ذات الأهمية وإن كانت من الناحية الجيوسياسية تختلف كثيرا عن تلك التي تتمتع بها الكويت، لذلك ترددت الولايات المتحدة في الموافقة على طلب كردستان (بعد سيطرتها على المناطق المتنازع عليها) بالانفصال عن العراق، وكذلك فعلت بريطانيا، أما الأهم والأخطر على هذه الأمنية (الطلب) الكردية بالاستقلال فيتمثل بالجارتين الكبيرتين تركيا وإيران، تماما كما كانت المملكة العربية السعودية وإيران ترفضان تماما وبشكل قاطع سيطرة العراق على دولة الكويت وضمها لبقية محافظاته.

ويجب أن لا يغرّن الأكراد الصمت التركي عما يجري من عمليات عسكرية في العراق، ذلك أن أنقرة تعتمد على سياسة المساهمة في تغيير المشهد العراقي القائم حتى لو كلفها ذلك الصبر على خلط بعض الأوراق، وأهمها الورقة الكردية، في مقابل إيصال المجتمع الدولي والإقليمي لضرورة حتمية التغيير الجذري في طبيعة نظام وأيديولوجية الحكم في بغداد.

ولعل هذا الأمر واضح جدا من خلال اعتماد تركيا أسلوب الدبلوماسية الناعمة لاستثمار كل العناصر الفاعلة في التغيير سواء كانت تاريخية أو جغرافية أو اجتماعية، دون أن تفلت من أيديها العقدة الجامعة لخيوط اللعبة القائمة في العراق الآن.

إن الحكمة تقتضي أن تتصرف إدارة الإقليم بشيء من التريث، انتظارا لما ستؤول إليه الأمور في بغداد بدل إطلاق تصريحات تضع الزيت على النار

أما إيران فقد أنذرت أربيل بتوخي الحذر من أي خطوة قد تثير غضبها كتغيير الواقع الجغرافي أو السيادي في المنطقة، والكل يعلم أن إدارة الإقليم وأحزابه السياسية تحسب ألف حساب للغضبة الإيرانية وحجم الخسارة التي يتكبدها الإقليم في حال فقدانه دعم العمق الإستراتيجي له على مر المراحل السياسية منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن، إضافة لتهديد مليشيات إيرانية تعمل في العراق للإقليم بعدم ضم كركوك وتلويحها بعمليات عسكرية ضده.

عقدة كركوك
أتمنى أن لا يخطئ زعيم سياسي محنك ومخضرم مثل السيد مسعود البارزاني في حساباته تجاه قضية قد تنهي جميع إنجازات الإقليم الذي هو رئيسه، فكما كانت الكويت مقتل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونظام حكمه، فإن كركوك -إن لم يتدارك رئيس الإقليم تصريحاته ومواقفه بشأنها- قد تكون نهاية غير جيدة لمسيرة نضالية وسياسية طويلة للقوى السياسية هناك، كما قد يفضي مثل ذلك الخطأ لتحويل كل المنجز خلال العقد الماضي إلى سراب.

إن الحكمة تقتضي أن تتصرف إدارة الإقليم بشيء من التريث لما ستؤول إليه الأمور في بغداد بدل إطلاق تصريحات تضع الزيت على النار كقول رئيس الإقليم مثلا "إذا اقتضى الأمر سأحمل السلاح بنفسي للدفاع عن كركوك"، فهناك ألف مانع ومانع يعلمها الأكراد قبل غيرهم تحول دون قدرتهم على الاحتفاظ بهذه المدينة النفطية المهمة إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.