دلالات لقاء الرئيس الفلسطيني بالطلبة الإسرائيليين

دلالات لقاء الرئيس الفلسطيني بالطلبة الإسرائيليين ..ماجد كيالي

undefined

كان الأحد 16 من الشهر الجاري يوما غير عادي في مقر المقاطعة برام الله، إذ أمّه ثلاثمائة طالب جامعي إسرائيلي بصحبة عدد من نواب الكنيست والصحفيين الإسرائيليين، بدعوة من الرئيس
أبو مازن، وهو رئيس المنظمة والسلطة و"فتح".

طبعا، هذه ليست المرة الأولى التي يستضيف فيها الرئيس إسرائيليين، إذ سبق أن التقى قادة أحزاب "يسارية"، وأعضاء كنيست، ورجال أعمال وصحافيين إسرائيليين.

على أي حال، فربما أن المشكلة لا تكمن في هذه اللقاءات بحد ذاتها، وإنما في مضامينها، وفي الموضوعات التي تناقشها، والإطار العام الذي تتم به، علما أن الإسرائيليين متواجدون في كل الضفة الغربية كمحتلين، كجيش وكمستوطنين، ومن خلال البنى التحتية المشتركة، والتبادل التجاري، وفي المعابر، ومفترقات الطرق الرئيسة بين كل مدينة ومدينة في الضفة، وحتى في العملة الرسمية المتداولة (الشيكل)، كما أن بعضهم يتواجد في حقول الزيتون لمساعدة الفلسطينيين على صد اعتداءات إسرائيليين آخرين، أي المستوطنين المتطرفين.

الحركة الوطنية الفلسطينية شرّعت -وبقرارات من المجلس الوطني- اللقاء مع إسرائيليين، للاستثمار في التناقضات الداخلية الإسرائيلية، وتعزيز النقاط المشتركة مع القوى أو التيارات المناهضة للصهيونية

وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية شرّعت -وبقرارات من المجلس الوطني الفلسطيني- اللقاء مع إسرائيليين، للاستثمار في التناقضات الداخلية الإسرائيلية، وتعزيز النقاط المشتركة مع القوى أو التيارات المناهضة للصهيونية عموما، أو تلك المناهضة للاحتلال والسياسات العنصرية.

كما شرعت ذلك من خلال اعتمادها -أوائل السبعينيات- فكرة إقامة دولة واحدة ديمقراطية في فلسطين الكاملة -وعلى أساس تقويض الصهيونية- كعقيدة ومؤسسات.

لكن الحركة الوطنية الفلسطينية قصّرت في كل ذلك، مثلما قصرت في كثير من الأمور التي أخذتها على عاتقها، إذ لم تولِ قضية الاشتغال على المجتمع الإسرائيلي لاستثمار تناقضاته الأهمية المناسبة، ولم تعمل على تطوير أشكال عمل مشتركة مع التيارات السياسية والحقوقية التي تنتصر للحقيقة والعدالة والحرية، وتدعم حقوق الفلسطينيين، وتتعاطف مع معاناتهم وكفاحهم.

ولعل المشكلة الكبرى والأخطر -في ذلك- كانت في نكوص هذه الحركة عن أهدافها الأولية، باختزالها قضية فلسطين بمجرد أرض محتلة في الضفة والقطاع (1967)، وتحولها من حركة تحرر وطني إلى مجرد سلطة في الضفة والقطاع، أي لجزء من شعب على جزء من أرض، وقبل دحر الاحتلال.

والمعنى هنا أن هذه الحركة في تحولاتها تلك بدت وكأنها اقتربت من الادعاءات الإسرائيلية بدل أن تفككها وتدحضها.

وفي ذلك بدت إسرائيل وكأنها هي التي كسبت المعركة على الوعي، واحتلت وعي القيادة، أو الطبقة السياسية الفلسطينية، بدل أن يحتل الفلسطينيون وعي الإسرائيليين، في ما أطلق عليه الراحل إدوارد سعيد الصراع على المخيلة أو على الوعي.

على ذلك، فإن المشكلة الأساسية في "العرض" المذكور -بمقر "المقاطعة"- أنه لم ينبثق من إستراتيجية نضالية للفلسطينيين، ولا من خطة لمخاطبة المجتمع الإسرائيلي، لزعزعة قناعاته بالصهيونية، وتعزيز مكانة التيارات المعادية لها، وللسياسات الاستعمارية والعنصرية التي تنتهجها إسرائيل، وإنما جاء في سياق آخر، قوامه إقناع الإسرائيلي المحتل والظالم بأهلية "الفلسطيني الجديد" لثقته، وللحفاظ على استقراره وأمنه.

ولعل مراجعة متأنية لنص محاضرة الرئيس (كما نشرت في وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا")، تمكننا من معرفة المشكلات التي تضمنها، والتي يكمن أهمها في الآتي:

أولا: بشأن "التطبيع"، لم يكن من حق أبو مازن تقديم "وعد" بتطبيع علاقات الدول العربية والإسلامية مع إسرائيل حال قيام "السلام الفلسطيني-الإسرائيلي"، فهذا السلام سيبقى ناقصا ومجحفا، لأنه يتأسس على موازين القوى، والإملاء الإسرائيلي، وأيضا لأن هذا الأمر يتقرر في البلدان المعنية، وبحسب مصالحها، ورؤاها.

مثلا، كان بإمكانه القول إن هذا الأمر قد يفتح المجال لعلاقات جديدة، وإنه أمر يخص كل دولة على حدة، لكن ليس من حقه الحديث أكثر من ذلك.

ثانيا: بشأن الشرعية الدولية، اعتبر أبو مازن أن اتفاق أوسلو قام "على الشرعية الدولية التي أنشأت دولة إسرائيل، وهذا غير صحيح، لأن اتفاق أوسلو لم يعتمد الشرعية الدولية أساسا له، وهذه مشكلته، بدليل عدم نصه على اعتبار الضفة وغزة أراضي محتلة، وعدم نصه على اعتبار إسرائيل دولة احتلال.

أيضا، فإن إسرائيل قامت بموجب القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (1947)، وهو ينص على إقامة دولة إسرائيل في حدود 55% من أرض فلسطين فقط، في حين أن القيادة الفلسطينية اعترفت لإسرائيل -عبر اتفاق أوسلو- بـ77% من أرض فلسطين.

ثالثا: التنازلات الفلسطينية، في محاضرته كشف أبو مازن عن التنازلات الفلسطينية المعروفة في ثلاثة مجالات رئيسة، في وضع لا تبدي فيه إسرائيل استعدادا لأي تنازل.

هكذا تحدث أبو مازن عن أن "لا مانع من إجراء تبادل طفيف بالقيمة والمثل في الأراضي لتسهيل بند تحديد الحدود".

وبالنسبة لتخفيف مخاوف إسرائيل الأمنية، قال "لنأتِ بطرف ثالث يأتي إلى أرضنا من أجل أن يحمي الأمن في المنطقة، لنا وللإسرائيليين"، كأن الفلسطينيين هم الطرف الأقوى، والذي يملك جيشا قويا وسلاحا نوويا، أو كأن الفلسطينيين هم الذين يهددون لا الإسرائيليين!

أفصح أبو مازن عن أنه لا يعمل لإعادة اللاجئين، وأن "كل الذي قلناه هو تعالوا لنضع ملف اللاجئين على الطاولة". وقال "لن نسعى أو نعمل على إغراق إسرائيل بالملايين لنغير تركيبتها السكانية"

أما في قضية اللاجئين فقد أفصح أبو مازن عن أنه لا يعمل لإعادة اللاجئين، وأن "كل الذي قلناه هو تعالوا لنضع ملف اللاجئين على الطاولة"، وقوله "لن نسعى أو نعمل على أن نغرق إسرائيل بالملايين لنغير تركيبتها السكانية"، هذا من دون أن يتحدث عن مأساة اللاجئين ومعاناتهم منذ أزيد من ستة عقود.

رابعا: التحريض، والإرهاب الدبلوماسي واللاسامية، وقد خصص أبو مازن جزءا من خطابه لنفي هذه الادعاءات الإسرائيلية، وكأنه يتبنى كونها اتهاما للفلسطينيين، ينبغي عليهم التبرؤ منه.

يقول أبو مازن "أنا أعترف بدولة إسرائيل، وأتعايش معها، أين اللاسامية؟ أنا لا أترك مكانا في العالم أذهب إليه إلا أقابل قيادة الجاليات اليهودية، في واشنطن، في لندن، في جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية".

وفي هذا الإطار لم يكن أبو مازن موفقا تماما في طرح هذه القضايا، لأن من حق أي حركة تحرر وطني نزع الشرعية عن المستعمر، والحث على مقاطعته وعزله، ومن حقها استخدام إستراتيجيات المقاومة ضده، لإشعاره بأن ثمة ثمنا للاحتلال، لأن الحقوق لا تستعاد بمجرد مناشدات وتوسلات، فحتى جون كيري وزير الخارجية الأميركي تحدث عن ذلك، أي عن المقاطعة ونزع الشرعية عن إسرائيل في كلمته بمؤتمر ميونيخ مؤخرا، في معرض تحذيره إسرائيل من مغبة الاستمرار في انتهاج التعنت.

خامسا: لم يبدُ أبو مازن في هذا الخطاب بمثابة قائد لحركة تحرر وطني لشعب يعاني الاحتلال، واللجوء، والممارسات الإسرائيلية العنصرية، وهذا ما بدا في تحذيره الإسرائيليين من خيار الدولة الواحدة، وهو أمر خطير وغير لائق، ولا يخدم الكفاح الفلسطيني، ولا يصب في هدف الصراع على تغيير وعي الإسرائيليين، علما أن هذا أقل بكثير من كلام يقوله إسرائيليون آخرون.

فمثلا، هذا إبراهام بورغ -الذي كان أحد قادة حزب العمل ورئيس كنيست ورئيس الوكالة اليهودية والذي طلّق الصهيونية- يقول صراحة "لكل إنسان يعيش بين نهر الأردن والبحر المتوسط الحق نفسه والمساواة نفسها، إذا كنت يهوديا أو عربيا، رجلا أو امرأة، حريديا أو علمانيا، لكل إنسان الحق نفسه في أن ينتخب ويُنتخب، الحق في الحياة".

يتابع بورغ "أنا شخصيا أريد الاندماج، أريد أن تكون هناك دولة واحدة مدنية، ومساواة في الحقوق لكل إنسان بين النهر والبحر، أريد أن يكون الحكم في البلاد اشتراكيا أكثر وعلى غرار الدول الإسكندنافية." (مجلة "قضايا إسرائيلية"، مركز "مدار"، عدد شتاء 2012).

هكذا، تبدو المشكلة الأساسية في هذا الخطاب في أنه دفاعي، واعتذاري، كأن الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة، والابتزازية، والاستهلاكية، تمكنت من اختراق وعي القيادة الفلسطينية التي بات همّها -وهي التي في مكانة الضحية- مجرد الدفاع عن نفسها، وتبرئة ذاتها، إزاء ادعاءات الطرف الآخر، أي المستعمر، والعنصري، والذي يرتكب انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، ويصادر أرضهم، ومياههم، ومواردهم وحريتهم ومستقبلهم.

والمشكلة الثانية أن أبو مازن في هذا الخطاب طمس أو أزاح الرواية الفلسطينية عن النكبة، كأن الأمر يقتصر على مجرد احتلال نشأ عام 1967، مما يرضي الطرف الإسرائيلي، لا سيما اليسار الإسرائيلي كونه ينسجم مع الرواية الإسرائيلية.

والمعنى أننا هنا إزاء تنازل على صعيد الرواية التاريخية أيضا، وهذا أمر كبير وغير مسبوق، وغير مقبول.

أما المشكلة الثالثة فهي أن كلام أبو مازن يبدو أقل من كلام إسرائيليين آخرين كما ذكرنا، فثمة إسرائيليون معادون للصهيونية، وللسياسات الإسرائيلية المعادية لحقوق الفلسطينيين، يرفضون يهودية الدولة، ويرفضون الاستيطان جملة وتفصيلا، ويطالبون بدولة واحدة ديمقراطية، دولة مواطنين أو ثنائية القومية.

المشكلة الرابعة والأخيرة تتمثل في أن الطرف الإسرائيلي -مقابل كل هذه التنازلات الفلسطينية- غير مستعد لـ"التنازل" البتة عن أي شيء، ولا سيما معتقداته الصهيونية، وادعاءاته الدينية والغيبية، وسياساته الاستعمارية والعنصرية.

كلام أبو مازن يبدو أقل من كلام إسرائيليين آخرين معادين للصهيونية وللسياسات الإسرائيلية المعادية لحقوق الفلسطينيين، يرفضون يهودية الدولة، ويرفضون الاستيطان جملة وتفصيلا

الآن، لنلاحظ الفرق بين كلام أبو مازن وكلام نتنياهو المتضمن في خطابه أمام مؤتمر المنظمات اليهودية الأمريكية المنعقد في القدس (17/2)، إذ تحدث نتنياهو ببجاحة، قائلا "قريبا سنعرف إذا ما كان هناك شريك للسلام في الجانب الفلسطيني، يتوقعون منا الاعتراف بدولة للشعب الفلسطيني، كيف يجرؤون على عدم الاعتراف بالدولة اليهودية؟ ألا يعرفون أنها دولة التوراة؟ هي الدولة التي تعرفنا، كنا هنا طوال سنوات طويلة؟"

ويضيف "لا ضمان بأن يتوقف التحريض وثقافة الكراهية، لهذا نحن بحاجة إلى ترتيبات أمنية، إسرائيل لن تعتمد على قوات أجنبية بما فيها الناتو أو قوات أميركية، نحن قادرون على الدفاع عن أنفسنا، وهكذا سنواصل".

أيضا، لنتجاوز كلام نتنياهو ولنأخذ خطابات إسرائيليين آخرين، للقياس مع خطاب الرئيس الفلسطيني، ومثلا هذا زئيف شترينهل يعبر عن رفضه الاحتلال والاستيطان، ويفند مواقف حكومة نتنياهو بقوله "ليست اللاسامية هي التي تقبع في أساس مقاطعة المستوطنات والتي تتطور في أوروبا، المقاطعة هي قبل كل شيء بمثابة ثورة على الاستعمار والأبرتهايد السائدين في "المناطق".. رفض التعاون مع الاحتلال يجد تعبيره في فرض مقاطعة اقتصادية وثقافية على مستعمرة المستوطنين الإسرائيلية.
وفي أوساط الأغلبية الساحقة من الرأي العام الأوروبي تعتبر المقاطعة وسيلة ضغط مبررة لتحرير الفلسطينيين.

وهذا توماس فريدمان -المعلق الأميركي- يحذر نتنياهو في مقالة كتبها (نيويورك تايمز، 12/2) من أن السياسات التي ينتهجها "سترغم إسرائيل على السير على أحد ثلاثة دروب سيئة: إما انسحاب من جانب واحد من أجزاء من الضفة الغربية، أو ضمها ومنح الفلسطينيين هناك الجنسية (الإسرائيلية)، مما سيجعل إسرائيل دولة ثنائية القومية، أو إذا لم يفعل أيا من الأمرين فإن إسرائيل يمكن أن تصبح بالنتيجة دولة فصل عنصري من نوع ما مسيطرة بصورة دائمة على 2.5 مليون فلسطيني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.