الخطاب الشيعي بين الحسين والحسن

مواقع النفوذ الإيراني وأبعاده في المنطقة العربية


رغم أن القناعة السائدة في التراث الشيعي هي أن الإمام الحسن بن علي، سبط النبي عليه الصلاة والسلام قد مات مسموما، فإنه يغيب عمليا في الأدبيات الشيعية إذا تمت مقارنته بالإمام الحسين.

قبل شهور أثار انتباهي مؤتمر عُقد في إيران حول الإمام الحسن برعاية الرئيس روحاني الذي ألقى كلمة في افتتاح المؤتمر.

مما قاله روحاني إن "الحاجة اليوم تدعو إلى سلوك طريق الإمام الحسن (ع) من أجل الحفاظ على أرواح المسلمين ودمائهم وترسيخ دعائم الصلح والسلام في العالم الإسلامي"، مضيفا أنه "لا ينبغي لأحد أن يتصور أن سلوك طريق أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفضي إلى الخلاف والفرقة، بل على العكس من ذلك، حيث يعد هذا السبيل من دعائم الوحدة بين المسلمين".

يعكس هذا الكلام انقلابا في الفقه السياسي الشيعي، وهو انقلاب لم يترجمه خطاب روحاني، ولا المؤتمر المشار إليه، بل السلوك العام منذ أكثر من ثلاث سنوات، وهو انقلاب لا يمكن النظر إليه بوصفه مراجعة فكرية، بقدر ما يعبر عن انتهازية سياسية بدأتها إيران، وتبعها فيها ما تبقى من الشيعة في العالم الإسلامي، أو لنقل غالبيتهم إذا أردنا الدقة، لأن الصوت الآخر لم يغب تماما، وإن تضاءل تأثيره وحضوره.

الانقلاب الجاري لا صلة له بمراجعة فكرية، بل هو ذو صلة بسياسة أقرها الولي الفقيه، ممثلة في الانقلاب على مسيرة الربيع العربي الذي اعتبر "صحوة إسلامية" بحسب خامنئي في البداية، لكنه ما لبث أن تحوَّل إلى مؤامرة بعد وصوله إلى سوريا

تاريخيا اعتبر أهل السنة والجماعة أن سلوك الحسن بالتنازل عن الخلافة لمعاوية (ضمن صفقة بالطبع لم يلتزم معاوية بشرطها الرئيس ممثلا في إعادة الأمر من بعده شورى بين المسلمين)، قد حقن دماء المسلمين، وأنه كان سلوكا راقيا ومحمودا بعد سنوات من الصراع الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من خيرة المسلمين. ويستشهدون في هذا السياق بقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الحسن "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

بعد ذلك قدّم أهل السنة والجماعة الوحدة على العدل، غالبا على الأقل، وقبلوا بحاكم الجور، أو حاكم الغلبة، ليس من منطلق حرمة الخروج عليه (يرى بعضهم ذلك)، وإلا لأدانوا بذلك الإمام الحسين بخروجه على يزيد، وقبله جمعا من الصحابة الذين قاتلوا يزيدا "يوم الحرة"، بل إعمالا لقاعدة المصالح والمفاسد.

لكن الشيعة لم يقبلوا بذلك، واستمروا على نهج الإمام الحسين في محاولاتهم الخروج على الحكام، ليس انطلاقا من فقه شوري بطبيعة الحال، ولكن انطلاقا من قناعة بأن الخلافة لا تكون إلا في نسل علي وفاطمة رضي الله عنهما، وصاغوا السلسلة التي اقتنعوا بها وصولا إلى الإمام ابن العسكري الذي قالوا إنه ولد ودخل السرداب هربا من العباسيين وسيعود في آخر الزمان لكي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (ثمة شيعة يجادلون في ولادته من الأصل كما هو حال الكاتب العراقي أحمد الكاتب).

من هنا كان الحسين هو الحاضر الأكبر في التراث الشيعي، بينما غاب الحسن عمليا، باستثناءات محدودة من باب تجنب التناقض باعتباره الثاني في الولاية بعد أبيه الإمام علي.

الانقلاب الذي نحن بصدده لا صلة له بمراجعة فكرية كما أشير من قبل، بل هو ذو صلة بسياسة أقرها الولي الفقيه، ممثلة في الانقلاب على مسيرة الربيع العربي الذي اعتبر "صحوة إسلامية" بحسب خامنئي في البداية، لكنه ما لبث أن تحوَّل إلى مؤامرة بعد وصوله إلى سوريا، ولو أخذ "الولي الفقيه" موقفا آخر لسار عليه الآخرون دون تردد.

ولأن الفضيحة كانت مكشوفة في هذا السياق، إذ خرج الحسين على يزيد وجيوشه تقاتل الأعداء وتفتح الأمصار، أي أنه خرج عليه بسبب فساده وظلمه، فقد وجد القوم أن خطابهم بات مفضوحا في سوريا، حيث لا قيمة البتة لحكاية المقاومة والممانعة، لأن الشعب لم يخرج ضدها، بل خرج ضد دكتاتور فاسد.

في هذا السياق المتعلق بثورة سوريا جرت عملية استعادة الإمام الحسن، ما دفع إلى القول إن انقلابا قد وقع، وتحوَّل الشيعة إلى تبني الفقه السني التقليدي عمليا، بقبولهم حاكم الجور أو الغلبة، وتحول السنَّة إلى الفقه الشيعي عن غير قصد في رفض ذلك والخروج على الحاكم الظالم الجائر، وإن تم ذلك بطريقة سلمية، ما لبثت أن تحولت إلى مسلحة، تحديدا في الحالة السورية (قبلها ليبيا)، بقرار من النظام الذي اعتقد أن ذلك سيسهّل عليه إجهاض الثورة.

في سوريا جرت عملية استعادة الإمام الحسن، ما دفع إلى القول إن انقلابا قد وقع، وتحوَّل الشيعة إلى تبني الفقه السني التقليدي عمليا، بقبولهم حاكم الجور أو الغلبة، وتحول السنَّة إلى الفقه الشيعي عن غير قصد في رفض ذلك والخروج على الحاكم الظالم الجائر

هنا، والآن، تتبدى الفضيحة، فقد رفع القوم شعار الحسين، بينما ذهبوا يقاتلون في جيش يزيد، ولم تسعفهم البلاغة في تبرير الأمر، الذي جاء بكل تأكيد تبعا لموقف إيران، وفي سياق من خدمة مشروع إمبراطوري يستخدم المذهب.

هو كما قلنا موقف انتهازي جرى تلبيسه للإمام الحسن، لكأن بشار الأسد يساوي معاوية الذي تنازل له الحسن، وليس رجلا يعلن أنه علماني في الظاهر، بينما يتحكم بالبلد على أساس طائفي، وللمفارقة ضمن طائفة يكفِّرها الشيعة أنفسهم في أدبياتهم التقليدية.

على أن الفضيحة ما لبثت أن شهدت فصلا جديدا تمثل فيما جرى في اليمن، فهنا والآن، عاد الحوثيون إلى الفقه الشيعي التقليدي، وحملوا السلاح في وجه الدولة، ووجه ما تبقى من اليمنيين.

صحيح أنهم لم يعلنوا احتلال البلد وتنصيب زعيم، لكنهم أقاموا دولة داخل الدولة، ولم نسمع أيا من قادة الشيعة في إيران أو حتى خارجها يطالب بتجنب ذلك والأخذ بفقه الإمام الحسن، كما حصل في سوريا، مع العلم أن بشار الأسد أكثر دكتاتورية بما لا يقارن مع عبد ربه منصور هادي في اليمن.

وإذا قيل إنهم احتجوا سلميا في البداية (ليس الأمر كذلك، لأن من يلوح بالسلاح ليس محتجا سلميا)، فإن ثورة سوريا مكثت في الشوارع ستة شهور وقتل من أبنائها الآلاف، ولم تحصل من بشار على التنازلات التي حصل عليها الحوثيون من هادي قبل الاتفاق الأخير، مع أن معادلة الغالبية والأقلية مختلفة بشكل واضح بين الحالتين.

إنها لعنة السياسة التي تتلاعب بالأديان والمذاهب وتجيِّرها لمصالحها، أكثر بكثير مما يحدث العكس، ولا شيء في السياسة لا يمكن تبريره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.