حكومة بنكيران في نسختها المرممة

تصميم : حكومة بنكيران في نسختها المرممة - يحيى اليحياوي - بعد أن انسحب حزب الاستقلال من الحكومة، لم يعد بين يدي رئيس الحكومة إلا سيناريو الترميم، باعتباره أخف الضررين، وأقلهما تكلفة بميزان الخسارة والربح

undefined 

قرر المجلس الوطني لحزب الاستقلال (ثاني أكبر حزب سياسي بالمغرب، والمكون الأساسي لحكومة بنكيران الأولى) يوم 11 مايو/أيار الماضي الانسحاب من الحكومة، والانضمام إلى صفوف الأحزاب المعارضة لذات الحكومة، أو المناهضة لتوجهاتها.

(1)

الإعلان عن هذا القرار جاء في أعقاب مداولات واسعة من لدن أعضاء ذات المجلس، صدر على إثرها بيان مفاده أن "وزراء حزب الاستقلال سيقدمون استقالاتهم الجماعية لرئيس الحكومة، على أن يقدمها إلى صاحب الجلالة طبقا للدستور، وذلك بعد إبلاغ جلالته من طرف الأمين العام للحزب بهذه الخطوة".

ويضيف بيان المجلس أن اللجنة التنفيذية للحزب تكفلت عمليا "بتفعيل قرار المجلس الوطني (برلمان الحزب)، بعد استشعارها أنها منحت رئيس الحكومة ما يكفي من الوقت لتدارك انسحاب الحزب".

ويتابع البيان بنبرة تبرئة ذمة، "إن حزب الاستقلال "تحمل بوطنية عالية كل الاستفزازات التي صدرت عن رئيس الحكومة، والتي تعكس قلة الخبرة وانعدام الإحساس بالمسؤولية، والذي تجلى في تعامله مع المهلة التي منحت له قبل تنفيذ القرار".

ويختتم المجلس بيانه بالتشديد على أن مسار الديمقراطية طويل، و"أن المرحلة الحالية تحتاج إلى تضافر جهود كل الديمقراطيين من مختلف التيارات الوطنية، السياسية والحقوقية والاقتصادية والنقابية، للتصدي لمشروع الهيمنة واستنساخ التجارب الفاشلة، والالتحام بهموم المواطنين".

الملك لم ير في ذات الفصل ما يستوجب تدخله وتحكيمه بين الفريقين، فكان قراره بقبول استقالات وزراء الحزب دليلا على تبرمه، ونأيه بنفسه عن صراعات الأحزاب وتطاحناتها

هذا في الأسباب العامة، أما الأسباب التفصيلية فتتمثل -حسب البيان- في "انفراد الحكومة بالقرارات المصيرية الكبرى، واحتضانها للفساد وتشجيعها عليه، واستنفاد الحزب الطرق المؤسساتية في تنبيه الحكومة إلى الوضعية الاقتصادية الكارثية التي وصلت إليها البلاد… وفشل الحكومة الكامل في جميع المجالات، وسياساتها الممنهجة في استهداف القدرة الشرائية للمغاربة، وخلط من يسمى رئيس الحكومة بين مهامه الحزبية ومهمته الحكومية".

لم يأت قرار انسحاب حزب الاستقلال من عدم إذن، بل جاء كتتويج لحالة من الاحتقان السياسي سابقة، عكستها صحافة الحزبين، وأججت من لهيبها التصريحات "النارية" المتبادلة بين المنتمين للحزبين، بردهات البرلمان، كما بالمناسبات الخطابية و"الخرجات الإعلامية" التي لا تفتر نيرانها في هذا المنبر، حتى تتصاعد شهبها في ذاك.

ولعل الذي أفاض الكأس حقا بين الفريقين، هو تلك المذكرة التي رفعها الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال إلى رئيس الحكومة، يحثه فيها على تسريع الإصلاحات البنيوية، وإلحاحه عليه لاعتماد سلوك رئيس حكومة، عوض أن يتعامل كزعيم حزب (حتى وإن كان صاحب الأغلبية العددية بالصناديق)، ناهيك عن المطالب الأخرى المرتبطة بالإصلاح الضريبي وترتيب الانتخابات الجماعية المقبلة وما سوى ذلك.

وهي المذكرة التي لم ير رئيس الحكومة من ضرورة للرد عليها أو التجاوب معها، بل اعتبرها بالإشارة والتلميح "تعجيزية"، ومن شأنها "إيقاف وُرش الإصلاحات الكبرى" التي هو بصددها.

ومع أن المذكرة تقتصر في شكلها على مطالب قطاعية صرفة، وتنبني في مظهرها على ضرورة تزويد مكونات الحكومة بجرعة من التناسقية والانسجام، فإنها تستدعي لبلوغ ذلك، إجراء تعديل حكومي رأى حزب الاستقلال أنه لا بد منه، لرفع "المظلومية" عن تمثيلية له بالحكومة بدت له منذ اليوم الأول، غير مطابقة لوزنه على الأرض، وغير منصفة قياسا إلى عدد نوابه بالبرلمان.

إن تبرم بنكيران عن الرد على المذكرة، والتجاهل المقصود للجهة الصادرة عنها، إنما يعتبر بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ونقطة اللاعودة في قرار الحزب الانسحاب من الحكومة، وتمترسه السريع في صف المعارضة، حتى مع بقاء وزرائه في الحكومة لتصريف الأعمال.

بامتداد لذلك وفي سياقه، رفع حزب الاستقلال مذكرة ضافية للملك (من 19 نقطة) يوضح فيها أسباب الانسحاب ودوافعه، بناء على فصل في الدستور يخول للملك صلاحية "فض النزاعات" بين المؤسسات، ويمنحه سلطة التحكيم فيما بينها.

لم يصدر رد رسمي من القصر، بما معناه أن الملك لم ير في ذات الفصل ما يستوجب تدخله وتحكيمه بين الفريقين، فكان قراره بقبول استقالات وزراء الحزب دليلا على تبرمه، ونأيه بنفسه عن صراعات الأحزاب وتطاحناتها.

(2)

الحكومة لم تستطع ترجمة الحد الأدنى من وعودها والتزاماتها، ولم تنجح في تنزيل النصوص التنظيمية الأساسية للدستور الذي أوصلها إلى السلطة، بل أدمنت الخطاب الشعبوي

إن المبررات التي قدمها حزب الاستقلال في المذكرتين، كمسوغ لانسحابه من "التوليفة" الحكومية، ليست مجانبة للحقيقة ولعين الصواب كثيرا، بل تكاد تكون انعكاسا لما ينطبع في ذهن المواطن العادي، ناهيك عن المتتبع لتموجات الحقل السياسي بالمغرب:

– فالحكومة بعد أكثر من عام على تنصيبها، لا تبدو أنها تعمل كفريق منسجم يحتكم إلى مرجعية موحدة وإلى تصور واضح، يقود فعلها ويوجه بوصلتها. إنها تعمل كما لو أنها فريق برؤوس متعددة، الكل من بين ظهرانيها يثوي خلف قطاع يعتبر النجاح في تسييره وتدبيره من نجاح الحزب المشرف عليه، لا من نجاح الحكومة برمتها.

وهو أمر بالإمكان تفهمه جيدا، لا سيما وأن تركيبة الحكومة تركيبة ائتلافية بين أحزاب متنافرة المرجعية، متباينة الرؤية، دع عنك حساباتها الانتخابية والسياسية الضيقة. وبالتالي، فإن القول بغياب الانسجام قول لا تنقصه الحجة، اللهم إلا الحد الأدنى الذي يضمن التعايش من أجل الاستمرار.

– والحكومة لم تكن تعمل بأفق موحد وبأجندة في الإصلاح متوافق عليها، بل كانت تعكس في اجتماعاتها تباين توجهات الأحزاب المكونة لها، بدليل أن إصلاح صندوق المقاصة مثلا، يبدو لوزراء حزب العدالة والتنمية (حزب رئيس الحكومة) أساسيا وجوهريا لإنقاذ ذات الصندوق، في حين لا يبدو لوزراء حزب الاستقلال إلا في كونه أداة للإجهاز على القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما لاحظناه أيضا بخصوص الزيادة في أسعار المحروقات، وما نلاحظه منذ مدة بإزاء الإصلاح الضريبي لجباية الثروات الكبرى، أو إخضاع القطاع الفلاحي المعفى من الضريبة دون وجه حق يذكر، علما بأن هذا من توصيات المنظمات المالية التي يدرك حزب الاستقلال أنه لا مناص منها.

– ثم إن الحكومة لم تستطع ترجمة الحد الأدنى من وعودها والتزاماتها، ولم تنجح في تنزيل النصوص التنظيمية الأساسية للدستور الذي أوصلها إلى السلطة، بل أدمنت الخطاب الشعبوي بمناسبة وبدون مناسبة، لدرجة لم نعد ندرك معها حقا من يناهض الفساد، ومن يتستر عليه، ويحذر من مغبة مطاردة الفاسدين أو التشهير بهم.

كل هذا صحيح أو به بعض من الصواب، إلا أنه بقراءة مقابلة، يبدو لنا أن ما سبق قد يكون من قبيل قول الحق المحيل ضمنيا على الباطل:

التعديل الحكومي الذي طالب به الأمين العام الجديد، إنما كان الغرض منه استبعاد هؤلاء أو بعض منهم، وتعويضهم بوزراء للحزب جدد، يكون ولاؤهم الأول والأخير لذات الأمين العام

– فالأمين العام لحزب الاستقلال لم يكن راضيا عن بعض الوجوه التي تمثل حزبه في الحكومة، لا سيما وقد تم استوزارها في عهد أمين عام (الأمين العام السابق) لم يكن يستلطفه كثيرا، بل ويعتبره من الذين فرطوا في ماضي الحزب وإرثه "النضالي الطويل".

فالتعديل الحكومي الذي طالب به الأمين العام الجديد، إنما كان الغرض منه استبعاد هؤلاء أو بعض منهم، وتعويضهم بوزراء للحزب جدد، يكون ولاؤهم الأول والأخير لذات الأمين العام.

– والأمين العام لحزب الاستقلال الجديد لم يستلطف رئيس الحكومة يوما، بل نفى عنه صفة الكاريزما التي لا بد من توافرها لقيادة البلد، واستهجن لغة تواصله وخطابه، واعتبرها مجرد شعبوية زائفة، ولغة مزايدات لا تخلق إيحاءاتها إلا المصادمات والعداوات، عوض أن تؤسس لتواصل سياسي المحك فيه للفعل والمبادرة والإنجاز.

– ثم إن قرار انسحاب الحزب من الحكومة لربما أملته حسابات تكتيكية وإستراتيجية، لا شك في أن الأمين العام الجديد يضمرها، ويراهن عليها لإزاحة غريم له ما كان ليتبوأ رئاسة الحكومة لولا سياق "ربيع عربي" جنى بنكيران ثماره هنيا مريا، دونما أن يكون لحزبه يد في رفع لوائه.

إننا نزعم هنا أن الأمين العام لحزب الاستقلال قد قال في قرارة نفسه: لو كتب لحكومة بنكيران أن تذهب ببعض الإصلاحات إلى مداها، وتنجح في تدبير الملفات التي فتحتها أو تعتزم فتحها، فإن ذلك سيحسب لها، ولن يحسب لوزرائه أو لحزبه، وهذا سيسهم في تعضيد مصداقيتها بأعين الناخبين، فيصوتوا لفائدتها في انتخابات العام 2016، ويخرج الحزب من ذلك خاوي الوفاض. الأولى برأيه، هو الانسحاب، والتهيؤ لذات الانتخابات من موقع معارضة لا خسارة بركوبها كبيرة، وقد تفضي به إلى حيازة الصف الأول، وقيادة الحكومة بناء على ذلك.

صحيح أن ذات الحساب لم يكن يراود الأمين العام لحزب الاستقلال وهو يطالب بالتعديل الحكومي، أو بالتحكيم الملكي المراهن عليه "لإنصافه" من لدن الملك، بجهة حث رئيس الحكومة على أخذ مطالب حليفه بالحكومة مأخذ الجد. قد يكون هذا صحيحا، لكننا نزعم أنه بات أكثر صدقية، وقد أضحى الحزب رسميا خارج الحكومة.

(3)

الآن، وقد انسحب حزب الاستقلال من الحكومة، بعدما تم استبعاد التعديل الحكومي بوجوده، واستبعاد سيناريو الانتخابات السابقة لأوانها، لم يعد بين يدي رئيس الحكومة إلا سيناريو الترميم، باعتباره أخف الضررين، وأقلهما تكلفة بميزان الخسارة والربح.

لن يكون لبنكيران والحالة هاته، أن يكابر أو يغض الطرف، بل سيضطر للتنازل والإذعان، لا سيما وهو يعلم أن السبل باتت محدودة، ومسالك إعادة ترميم البناء الحكومي من جديد، ستنتفي إن انسحب وزراء الأحرار

ويبدو لنا أن خطب ود حزب الأحرار (يميني محافظ) وتجاوبه -إلى حين كتابة هذه السطور- مع بنكيران لدخول الحكومة، من شأنه إن نجح، أن يضمن لبنكيران الأغلبية العددية التي تفسح لحكومته المجال في الاستمرار، على الأقل إلى حين.

ومع أننا لا نستطيع التكهن كثيرا بما ستؤول إليه الأمور بين الحزبين في قادم الأيام، إن تسنى لهما ترميم ما تكسر، فإن "الخشية" تراودنا حقا بإزاء سلوك حزب من هذه الطينة:

– فهو حزب إداري صرف، كان للنظام الفضل الكبير في بروزه وتطوره، وتذبذبه الموسمي بين المشاركة في الحكومات المتتالية، ومعارضته لها تحت هذه الظرف أو ذاك. ولذلك، ولما كان للنظام من بين ظهرانيه كلمة الحل والعقد، فإنه لن يتوانى في الانسحاب من الحكومة، أو في أخف الأحوال عرقلة سيرها، أو معارضته لبعض قراراتها، إن تم التأشير له بذلك من عل.

هذا زعم استقيناه من سلوك للحزب معروف، ولا نعتبره مزايدة من لدنّا عليه.

– والحزب حزب أعيان، وليس حزبا جماهيريا بقاعدة شعبية معتبرة، لذلك فإن مصلحة الحزب لديه هي من مصلحة أعيانه، لا فارق بينهما كبير. فلو تراءى له أن الإصلاح الضريبي مثلا سيضر بمصالحهم، فلن يُعدمَ السبل في المعارضة والانتفاض، والتهديد بالانسحاب إن لزم الأمر.

لن يكون لبنكيران والحالة هاته، أن يكابر أو يغض الطرف، بل سيضطر للتنازل والإذعان، لا سيما وهو يعلم أن السبل باتت محدودة، ومسالك إعادة ترميم "البناء" الحكومي من جديد، ستنتفي إن انسحب وزراء الأحرار.

– ثم إن الحزب فوق كل هذا وذاك، حزب انتهازي بامتياز، ولا قرار له مستقل، بل هو حزب تابع ومرتهن. لذلك، نزعم لدرجة الجزم أنه سيكون في المحصلة النهائية حائط عبور لحزب آخر، كان قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الحكومة، لولا سياق انتفاضات عربية "نغصت" عليه المسار. أما وأن مدّ هذه الانتفاضات قد بدأ في الانحسار والانتكاس، فلم يعد ثمة من مانع لهذا الحزب، "حزب القصر"، من معاودة الكرة، على أنقاض غريمه "الإسلامي" هذه المرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.