بورقيبة الشخصية المثيرة للجدل

العنوان: بورقيبة الشخصية المثيرة للجدل - الكاتب: عادل لطيفي

undefined 

سر عودة الزعيم
بورقيبة وزعامة الحركة الوطنية
تحديث الوطن والمجتمع

جاءت الذكريات الوطنية مكثفة في الأسابيع الأخيرة في تونس، لتعود معها شخصية بورقيبة -الغائب الحاضر- إلى الساحة السياسية، فتمثل موضوع جدل وتجاذب بين مختلف الأطراف. كانت البداية مع ذكرى الاستقلال الموافق للعشرين من مارس/آذار سنة 1956، لتليها ذكرى وفاته في السادس من أبريل سنة 2000، ثم ذكرى الشهداء في التاسع من نفس الشهر 1939.

عاد الشخص محملا بهموم التاريخ، وذلك في سياق كثر فيه الرهان على الذاكرة الوطنية بعد الثورة، كما ساد فيه الانفعال العاطفي في التعامل مع الذات، ومع ماضيها. أفكاري التي أسوقها إلى القارئ هنا ليست في الواقع استعادة لموقفي السياسي الذي كان دوما معارضا للرئيس السابق، خاصة ضمن النشاط الطلابي، بل هي ثمرة ملاحظة المؤرخ.

سر عودة الزعيم
ربما كان الوقود الأساسي لهذه العودة هو توسع حزب نداء تونس، الذي ينادي باستعادة التراث البورقيبي، لتطويره ومواصلة المشروع الحداثي التونسي الذي يندرج ضمنه. هذا واضح من خلال تبني شخصيات هذا الحزب لرمزية بورقيبة في مهرجاناته الخطابية وفي خطابه السياسي عموما. لكن هذا الزخم الحزبي لا يفسر لوحده العودة القوية لشخصية بورقيبة. ذلك أن استرجاع هذه الشخصية لا يقتصر على المتعاطفين مع حزب نداء تونس، بل يتجاوزهم إلى شريحة واسعة من الشعب التونسي اليوم.

هناك بعض العوامل التي يمكن أن تساعد -حسب رأيي- في فهم استعادة شخصية بورقيبة في سياق ما بعد الثورة التونسية. العامل الأول عاطفي ووجداني، وهو مرتبط بسياسة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تجاه بورقيبة، من خلال عزله المهين عن تونس وعن شعبها رغم كبر سنه.

الإهانة للشعب ولشخص اعتُبر زعيما تاريخيا، تجلت بكل وضوح في تسيير جنازة بورقيبة سنة 2000، حيث منع حضور من لا يقطن بمدينة المنستير

هذه الإهانة للشعب ولشخص اعتبر زعيما تاريخيا، تجلت بكل وضوح في تسيير جنازة بورقيبة سنة 2000، حيث منع حضور من لا يقطن بمدينة المنستير، كما حرم كل التونسيين من تتبع الجنازة على شاشة التلفزة، في استخفاف مقيت بعواطفهم، فبدى بذلك الأمر وكأن الشعب لم يودع أول رئيس لتونس المستقلة. فها هو اليوم وبعد الثورة يستعيد ذكرى وفاته التي بقيت مكبوتة طيلة سنوات، وكـأنه يواريه الثرى من جديد.

العامل الثاني سياسي، وهو مرتبط ببعض المواقف والسياسات المتعلقة بانتخابات الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2011 وما تمخضت عنه من خارطة سياسية ومن حكومة. إذ ليس خافيا على أحد أن حركة النهضة بتوجهاتها الإسلامية طالما اعتبرت أن الرئيس بورقيبة هو أب المشروع التغريبي الذي أبعد تونس عن هويتها العربية والإسلامية، وذلك في قراءة اختلط فيها نقد الشخص من وجهة نظر سياسية مع التاريخ العام للبلاد التونسية وللعالم العربي والإسلامي عموما في الفترة الحديثة والمعاصرة، في بعده المعرفي.

ثم من جهة ثانية، وفي إطار نظرة شمولية للإسلام، بدا وكأن خطاب السلطة الجديدة يأخذ منحى متطرفا غريبا عن المجتمع التونسي وعما تعود عليه، وخاصة بعد تتالي موجات الدعاة المشرقيين، وما أتوا به من خطب ظلت الزمن والتاريخ، مثلما تعلق بختان النساء.

ومما زاد في شدة الهوة بين الخطاب الرسمي والهوية المحلية التونسية تلك الحرب التي شنت على مقامات الأولياء، والتي رغم تراجع دورها إلى مستوى فلكلوري، إلا أنها بقيت تمثل جزءا من الهوية المحلية والجهوية.

وقد استاء أغلب التونسيين من جراء ما لحق بها من تخريب، خاصة وقد أتلفت وأحرقت بداخلها العديد من المصاحف. مثل هذا التوجه ظهر للعديد من التونسيين وكأنه تهديد لهوية ولنمط عيش ولشخصية تعودوا عليها بعد ثورة ربحوا منها وطنا كان محتجزا لدى السلطة.

جاءت مواقف الإسلاميين -سواء في السلطة أو في خارجها- وكأنها في تعارض تام مع استعادة التونسيين لتونسهم التي تعودوا عليها، بإسلامها العفوي، وبنمط عيشها المنفتح. ضمن هذا التعارض تتنزل إذن عودة التونسي إلى رموز الذاكرة الوطنية، من علم البلاد ونشيدها الرسمي، ووجوه مثل بورقيبة وأبو القاسم الشابي والشهداء والثوار.

العامل الثالث -حسب رأيي- هو تاريخي، ويتمثل في أن بورقيبة والبورقيبية تعد بالفعل نوعا من التيار الفكري الذي يتنزل عموما ضمن مسيرة طويلة من الإصلاح التونسي، التي تعود بدورها إلى دستور عهد الأمان سنة 1861 أو حتى إلى ما قبله. عودة هذا الفكر بخطابه وتصوراته ومشروعه يمثل إجابة عن التشكيك في المكتسبات الحداثية للمجتمع التونسي، والتي تلاقي إجماعا من طرف شريحة واسعة من التونسيين.

بورقيبة وزعامة الحركة الوطنية
تتعالى عديد الأصوات اليوم -في إطار نظرة قاصرة لتاريخ تونس- بضرورة إعادة كتابة تاريخ البلاد، اعتقادا أنه كتب على مقاس المنتصرين ومن بينهم بورقيبة. لكن النظرة المتأنية للأعمال التاريخية التي أنجزت حول الحقبة الاستعمارية -سواء من طرف المؤرخين التونسيين أو الأجانب- تثبت أن جانبا كبيرا من هذا الإنتاج قد تم بمعزل عن تأثير السلطة القائمة.

يلام بورقيبة على أنه انقلب على الحزب القديم سنة 1934 بقيادة عبد العزيز الثعالبي والحال أنه كان هناك توجه عام من خلال هذا النفس الشبابي الجديد إلى إعطاء بعد جماهيري للعمل الوطني ضد المستعمر

كان بورقيبة قد برز من خلال مقالاته الصحفية وهو شاب حديث التخرج من المدرسة الفرنسية، بعد أن كان قد حصل على شهاداته في المدرسة الصادقية في تونس. ولم يكن لوحده، بل كان بروزه في إطار بروز موجة من الشباب مع نهاية العشرينيات مثل محمود الماطري وعلي البلهوان.

يلام بورقيبة على أنه انقلب على الحزب القديم سنة 1934 بقيادة عبد العزيز الثعالبي. والحال أنه كان هناك توجه عام -من خلال هذا النفس الشبابي الجديد- إلى إعطاء بعد جماهيري للعمل الوطني ضد المستعمر.
من جهة ثانية، كانت التطورات الاجتماعية في تونس وفي تلك الفترة منسجمة مع هذا التوجه الجديد من خلال ظهور البوادر الأولى لظاهرة النزوح، وما نتج عنها من تضخم حزام الفقر في المدن، وتوسع القاعدة الديمغرافية للحواضر.

كان بورقيبة ومن ورائه الوطنيون الشبان قد وعوا قيمة هذا التحول، وقرروا القطع مع العمل السياسي الأرستقراطي النخبوي القديم، مفضلين الاتصال المباشر بالشعب.

كان بورقيبة شخصية موصومة بالواقعية السياسية، وظهر ذلك في بعض المحطات ومن بينها موقفه من الحجاب. فالثابت أن بورقيبة لم يساند الطاهر الحداد المدافع عن حقوق المرأة إثر صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" سنة 1930 بالرغم من العزلة التي ضربت عليه.

ربما كان محمود الماطري الوحيد من بين الدستوريين الذي سانده ولو باحتشام. وقد برر الحبيب بورقيبة موقفه بأن شن حرب على الحجاب لا يخدم مصلحة القضية الوطنية والبلد تحت وطأة الاستعمار. لم يكن الموقف مبدئيا من الحجاب ومن تقدم المرأة، ودليل ذلك أنه أصدر مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 مع ما ورد فيها من قرارات عدت تاريخية.

تجسد الذكاء السياسي البورقيبي مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية عندما خضع التراب التونسي إلى سيطرة قوات المحور لبضعة أشهر، مما دفع بعض الوطنيين ومن بينهم الحبيب ثامر إلى اعتبار الألمان قوة قد تدحر الاستعمار الفرنسي. لكن بورقيبة -وبالرغم من تفوق الجيش الألماني سنة 1942- أرسل إلى الوطنيين لينبههم إلى عدم التسرع في مناصرة ألمانيا، لأن قواتها غير قادرة على إنهاء الحرب لصالحها، وهو ما حصل بالفعل.

كان بورقيبة يستعمل الحركة المسلحة من باب التهديد لا غير، وبهدف الوصول إلى المفاوضات، وكان هذا ما اقترحه على الفلسطينيين فيما بعد من خلال الجمع بين النضال المسلح والمفاوضات

المثال الأخير على هذه الواقعية السياسية وعلى بعد النظر السياسي تمثل في موقفه من مقترح فرنسا في قبول الاستقلال الداخلي سنة 1955 على عكس صالح بن يوسف، الرجل الثاني في الفريق الدستوري. كان بورقيبة يرى أن الاستعمار الفرنسي يشهد أيامه الأخيرة، وأنه ليس من الضير القبول بهكذا مقترح، على عكس خصمه بن يوسف الذي طالب بالاستقلال التام. في النهاية بينت الأحداث اللاحقة صحة وجهة النظر البورقيبية.

يتحدث البعض الآخر عن تضخيم دور القيادة السياسية -بما فيها بورقيبة- على حساب الثوار الذين ضحوا أو خاطروا بحياتهم من أجل الوطن. لكن الواقع التاريخي كان يقول إن وضع الاستعمار ووضع البلاد جعل من الحركة الوطنية التونسية ذات صبغة سياسية بالأساس، ثم جماهيرية بدرجة ثانية، ونادرا ما كانت عسكرية، على خلاف الحالة الجزائرية.

فكان من الطبيعي أن تكون الصبغة السياسية هي المهيمنة، وأن لا يكون هناك مجال كبير للعمل المسلح. كان بورقيبة يستعمل الحركة المسلحة من باب التهديد لا غير، وبهدف الوصول إلى المفاوضات، وكان هذا ما اقترحه على الفلسطينيين فيما بعد من خلال الجمع بين النضال المسلح والمفاوضات.

تحديث الوطن والمجتمع
المستوى الثاني من حياة بورقيبة، والذي يمثل مصدر جدل كبير وخاصة في الخارج، يتعلق بإنجازاته في مجال تحديث الدولة والمجتمع. سوف لن أتوسع في الإصلاحات المتعلقة بالدولة، ولن أشير سوى إلى تركيزه لجمهورية مدنية فيها جيش جمهوري لا يتدخل في الشأن السياسي، على خلاف باقي الجمهوريات العربية الأخرى التي كانت كلها جمهوريات عسكرية.

هذا ما جعل الصراع بين المجتمع والدولة صراعا اجتماعيا بالأساس (المواجهات مع اتحاد الشغل) أو كذلك سياسيا من خلال الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، مما يفسر بدوره سلمية الثورة التونسية، وسرعة إنجازها بمجرد انهيار قوات الأمن الداخلي.

لكن الأهم من ذلك هو تلك الإصلاحات التي اعتمدها الرئيس بورقيبة لتحديث المجتمع. وسأكتفي هنا بذكر مسألة واحدة جلبت له كل الانتقاد الذي وصل حد تكفيره واتهامه بعدائه للإسلام. يتعلق الموضوع بإصدار مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 وخاصة ما ورد فيها من منع تعدد الزوجات.

وفي هذا السياق لا بد من التنبيه إلى بعض المعطيات. أولا أن هذا الإلغاء قد تم على أساس نظرة مقاصدية للشريعة، حسب تقليد الشاطبي والذي أكمله العلامة التونسي الطاهر بن عاشور، وذهب في نفس اتجاهه المفكر محمد عبده.

أي أن هذه النظرة المقاصدية شكلت تجاوزا للنظرة المعيارية للشريعة ذات البعد الأصولي. هكذا نفهم مشاركة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في اللجنة المكلفة بصياغة مجلة الأحوال الشخصية، واستشارة محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير والتنوير، والشيخ عبد العزيز جعيط في شأنها.

منع تعدد الزوجات لم يكن استنباطا من بورقيبة، بل إن صاحبه هو الطاهر الحداد الذي رأى في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع أن التعدد عادة اجتماعية وليست دينية

ثم ثانيا أن منع تعدد الزوجات لم يكن استنباطا من بورقيبة، بل إن صاحبه هو الطاهر الحداد الذي رأى في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" أن التعدد عادة اجتماعية وليست دينية. أي أنه كان هناك سياق عام ثقافي وتاريخي تتنزل ضمنه مجلة الأحوال الشخصية عموما، ومنع تعدد الزوجات تحديدا. ضمن هذا السياق، وضمن واقعية التجربة الاجتماعية وعفويتها نفهم قبوله من طرف المجتمع بتدرج، حتى أن مطلب التعدد يغيب اليوم لدى التيارات السياسية الإسلامية الفاعلة.

لكن هذه النجاحات التحديثية -حسب وجهات النظر- لا يجب أن تخفي إخفاقاته، وحتى تنكره لاستحقاقات حداثية أساسية. فبقدر ما نجح في بناء الوطن فإنه قد فشل في بناء المواطنة والمواطن على المستويين الاجتماعي والسياسي.

على المستوى الاجتماعي -وبالرغم من تحسن مستوى العيش ونمط العيش بفعل مجانية التعليم والصحة- فإن نموذج التنمية همش المناطق الداخلية والأرياف، كما لم يحد من مستويات الفقر. أما في المستوى السياسي فلم يكن بورقيبة مؤمنا بالديمقراطية، وانساق وراء نظرته الأبوية للتونسيين، ورفض مبادرات الانفتاح السياسي، وذهب إلى حد تصفية خصومه بالقتل أو بالسجن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.