الانتخابات الإسرائيلية.. دلالات وتداعيات

الانتخابات الإسرائيلية.. دلالات وتداعيات

undefined 

توظيف احتجاج الطبقة الوسطى
تبني شعارات اليمين
تراجع الملف الإيراني
عدم استقرار النظام السياسي

دللت نتائج الانتخابات الإسرائيلية بشكل لا يقبل التأويل على أن الأجندة الداخلية لعبت الدور الأبرز في تحديد اتجاهات التصويت لدى الناخب الصهيوني؛ الذي صوت لصالح سلم أولويات اقتصادي اجتماعي جديد.

وقد بات في حكم المؤكد أن المطالب التي رفعتها حركة الاحتجاج الجماهيري، التي تفاعلت في إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011 وجدت تعبيرها في نتائج هذه الانتخابات؛ حيث اتضح أن الطبقة الوسطى عاقبت تحالف "الليكود – إسرائيل بيتنا" اليميني الحاكم، الذي تجاهل مطالب هذه الحركة وسخر منها؛ لكن في الوقت نفسه حرصت هذه الطبقة على ألا يكون تصويتها ضد توجهات اليمين الإسرائيلي السياسية والأيديولوجية؛ حيث إن نتائج الانتخابات تسمح لرئيس الوزراء الحالي بمواصلة إدارة الدولة لولاية ثالثة، وإن كان في ظروف بالغة الصعوبة، والتعقيد.

إن فهم دلالات وتداعيات نتائج الانتخابات الإسرائيلية يتجسد بمحاولة فهم الأسباب وراء الإنجاز الكبير الذي حققه حزب "ييش عتيد"، الذي خاض الانتخابات للمرة الأولى وحل في المكانة الثانية، من حيث عدد المقاعد، بعد تحالف "الليكود – إسرائيل بيتنا".

توظيف احتجاج الطبقة الوسطى
لقد حصل حزب "ييش عتيد"، برئاسة الصحافي ومقدم البرامج الحوارية السابق يئير لبيد على 19 مقعداً؛ بحيث سيكون في حكم المستحيل أن يتمكن نتنياهو من تشكيل حكومته القادمة بدون ضم هذا الحزب، وسيكون للبيد كلمة الفصل تقريباً في تسيير أمور الحكومة، لدرجة أن معظم المعقلين الصهاينة وصفوا الحكومة القادمة بأنها ستكون "حكومة لبيد برئاسة نتنياهو".

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تمكن هذا الحزب من تحقيق هذا الإنجاز، وهو الحزب الذي يرأسه شخص عديم الخبرة تماماً، ولم يخض في حياته أي تحد على الصعيد العسكري أو السياسي، في كيان يزخر بهذه التحديات؟

أدرك لبيد حقيقتيْن مهمتيْن عن واقع الطبقة الوسطى، التي تمثل العمود الفقري للمجتمع في إسرائيل؛ وعمل على أساسهما عند صياغة برنامج حزبه وخلال الحملة الانتخابية

لقد حقق لبيد هذا الإنجاز لأنه أدرك حقيقتين مهمتين عن واقع الطبقة الوسطى، التي تمثل العمود الفقري للمجتمع في إسرائيل؛ وعمل على أساسهما عند صياغة برنامج حزبه وخلال الحملة الانتخابية.
لقد أدرك لبيد أن الطبقة الوسطى في إسرائيل تواجه أزمات اقتصادية واجتماعية حقيقية، وأن معظم المنتمين لهذه الطبقة قد ضاقوا ذرعاً بسياسات حكومة نتنياهو الاقتصادية الاجتماعية؛ لكن في الوقت ذاته وعى لبيد أن التوجهات السياسية والأيديولوجية للطبقة الوسطى من الصراع مع العرب والفلسطينيين؛ هي توجهات يمينية واضحة وجلية.

وقد تجلى إدراك لبيد لهاتين الحقيقتين في أنه تبنى جملة المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي رفعتها حركة الاحتجاج الجماهيري في العام 2011؛ وفي الوقت ذاته حرص على عرض مواقف يمينية واضحة في كل ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.

فعلى صعيد برنامج الحزب، فقد وعد لبيد بتبني مطالب الطبقة الوسطى، وتعهد بأن تتبنى أية حكومة يشارك فيها سلم أولويات يضمن حل المشاكل التي تعاني منها، وعلى رأسها: ارتفاع الأسعار؛ سيما أسعار الشقق السكنية، وعلى وجه الخصوص في منطقة تل أبيب والوسط، معقل العلمانية الإسرائيلية، وتقليص مستوى عبء الضرائب، وإدخال إصلاحات جذرية في مجال التعليم والصحة.

لكن مما لا شك فيه أن أحد الشعارات التي جذبت قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى لحزب لبيد، هو تشديده على وجوب المساواة في تحمل عبء الخدمة العسكرية، وهذا يعني عدم السماح باستثناء أبناء التيار الديني الحريدي من الخدمة العسكرية؛ بحجة تفرغهم للتعليم الديني.

لقد أدرك لبيد حجم السخط، الذي يعتمل في قلوب أبناء الطبقة الوسطى من المزايا الاقتصادية التي أغدقتها الحكومات الإسرائيلية على أبناء التيار الديني الحريدي؛ وفي الوقت الذي أعفتهم من أعباء الخدمة العسكرية.

وقد لفت لبيد خلال الحملة الانتخابية إلى أن الحريديم يتمتعون بهذه المزايا لأن أحزابهم (شاس ويهدوت هتوراة ) تلعب بيضة القبان عند تشكيل أية حكومة، وبالتالي كان من النادر أن يتم تشكيل حكومة بدون هذه الأحزاب.

من هنا تعهد لبيد بأنه في حال حصل على عدد كبير من المقاعد، فإنه سيحرم هذه الأحزاب من هذه الورقة، وسيبطل مفعول أساليب الابتزاز، التي وظفتها الأحزاب الحريدية منذ عقود. لهذا لم يكن من المفاجئ أن تكون أكبر نسبة من التصويت لحزب "ييش عتيد" في مدينة تل أبيب، التي تمثل معقل العلمانية والطبقة الوسطى.

تبني شعارات اليمين
أن أوضح مؤشر على توظيف لبيد للتوجهات اليمينية للطبقة الوسطى من الصراع مع العرب والفلسطينيين، حقيقة أنه حرص على تنظيم المؤتمر التأسيسي لحزبه تحديداً في مستوطنة "أرئيل" ثاني أكبر مستوطنة يهودية في الضفة الغربية؛ والتي تقع شمال غرب مدينة نابلس المحتلة.

علاوة على ذلك، فإن جملة المواقف التي عرضها لبيد، خلال الحملة الانتخابية تعتبر صدى لما يردده اليمين الإسرائيلي، فهو يؤكد على أنه في أية تسوية سياسية للصراع يتوجب على إسرائيل ضم التجمعات الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية لها، علاوة على تأييده للبناء من أجل تلبية متطلبات الزيادة الطبيعية في عدد السكان في المستوطنات.

ويؤكد لبيد على أن القدس "الموحدة" خارج إطار أية تسوية سياسية للصراع، ويشدد على رفضه الانسحاب من منطقة غور الأردن، التي تشكل 25% من مساحة الضفة الغربية، بسبب قيمتها الإستراتيجية لإسرائيل، علاوة على رفضه حق العودة للاجئين.

مواقف لبيد تعتبر صدى لما يردده اليمين الإسرائيلي, لكنه بخلاف الأحزاب التي تمثل اليمين المتطرف، معني بأن يتم التعاطي مع الصراع بشكل لا يؤثر على مكانة إسرائيل الدولية

لكن لبيد، وبخلاف الأحزاب التي تمثل اليمين المتطرف، معني بأن يتم التعاطي مع الصراع بشكل لا يؤثر على مكانة إسرائيل الدولية. لذا فهو يرفض إقامة مستوطنات جديدة، ويبدي حساسية إزاء حدوث تدهور في العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية الموقف من المستوطنات.

من هنا، فإنه يؤيد استئناف المفاوضات مع السلطة، بناءً على مواقف حزبه المعلنة، وينتقد نتنياهو بسبب قرارات البناء الاستعراضية في المستوطنات، التي استفزت المجتمع الدولي مؤخراً.

إن لبيد معني بالمفاوضات كعملية "prosess"، وبهدف عدم إحداث مزيد من التدهور في مكانة إسرائيل الدولية؛ مع أنه يدرك أنه يستحيل التوصل لتسوية سياسية بناء على مواقفه من الصراع. من هنا، فهو يطالب بمنصب وزير الخارجية في الحكومة الجديدة؛ بزعم أن بإمكانه تحسين مكانة إسرائيل الدولية، التي تراجعت عندما كان أفيغدور ليبرمان يتولى هذا المنصب.

تراجع الملف الإيراني
إن الاستنتاج الأبرز الذي يمكن استخلاصه من نتائج الانتخابات الإسرائيلية وصعود حزب "ييش عتيد" أن الناخب الإسرائيلي بات معنياً بمواجهة التحديات الداخلية وليس مهتماً بمواجهة خطر البرنامج النووي، الذي حاول نتنياهو توظيفه إلى أبعد حد كبير، من خلال تضخيمه، وإبراز نفسه كالقائد الذي وجد من أجل مواجهة هذا الهدف، تماماً كما تولى تشرشل مواجهة النازية في أربعينات القرن الماضي.

لقد اتضح بشكل لا يقبل التأويل أن الناخب الإسرائيلي قبل وجهات نظر قادة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية الذين حذروا علناً من مغبة قيام إسرائيل بأي عمل هجومي ضد إسرائيل. والأكثر من ذلك أن بعض هؤلاء القادة شككوا في قدرات نتنياهو القيادية وأهليته لمواجهة مثل هذه التحديات أصلاً، كما فعل ذلك بإصرار يوفال ديسكين الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك".

ويمكن الافتراض أنه نظراً للأجندة التي سيحاول لبيد فرضها على الحكومة القادمة، والتي تتطلب توظيف الكثير من إمكانيات الدولة المادية لصالح تحسين أوضاع الطبقة الوسطى، فإن الملف الإيراني سيتراجع، ولن يكون أولوية؛ على الرغم من أن نتنياهو سيواصل من ناحية إعلامية التعرض له.

ومن نافلة القول إن توجهات الرئيس الأميركي باراك أوباما في ولايته الثانية لا تسمح لواشنطن بتغطية أي تحرك هجومي إسرائيلي ضد إيران.

عدم استقرار النظام السياسي
إن فرص صمود الحكومة الإسرائيلية القادمة حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية القادمة في شتاء 2017 تؤول إلى الصفر؛ بل إن هناك من يرى أن هذه الحكومة لن تصمد أكثر من بضعة أشهر. فسيجد نتنياهو صعوبة كبيرة في إدارة شؤون هذه الحكومة، بسبب ضعف تحالف "الليكود – إسرائيل بيتنا"، الذي يرأسه، وبسبب اضطراره لضم أحزاب ذات مركبات أيديولوجية متعارضة جداً.

وستكون خيارات نتنياهو بالغة الصعوبة، حيث إنه سيكون مضطراً لضم حزب "البيت اليهودي"، بزعامة نفتالي بنت، الذي يمثل أقصى اليمين الديني المتطرف، والذي لن يقبل بأن يفرض لبيد سلم أولوياته على الحكومة، ولن يقبل بواقع لا يسمح فيه بتواصل تدفق الموازنات على المستوطنات اليهودية كما هو حاصل حالياً، وسيرفض أن يكون حل مشاكل الطبقة الوسطى على حساب مشاريع تهويد الضفة الغربية والقدس.

من ناحية ثانية، فإنه في حال ضم نتنياهو الأحزاب الحريدية إلى جانب حزب "ييش عتيد"، فإنها لن تسمح للحكومة باتخاذ أي قرار يوقف إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية.
في الوقت ذاته، فإن تعهد يحموفيتش بعدم انضمام حزب العمل لحكومة برئاسة نتنياهو يمنع من تشكيل حكومة جميع مركباتها علمانية. بالإضافة إلى ذلك، هناك إمكانية أن يتفكك تحالف "الليكود – إسرائيل بيتنا" حتى قبل تشكيل الحكومة، وهذا يعني أن حزب الليكود سيتحول إلى حزب لا يتجاوز عدد نوابه 21 نائبا.

أكبر إنجاز يمكن أن تحققه الحكومة الإسرائيلية الجديدة هو التوافق على تغيير قانون الانتخابات، بحيث يصبح رئيس الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد هو الذي يشكل الحكومة

لكن مشاكل ائتلاف نتنياهو لا تقف عند هذا الحد، فالكتلة النيابية لليكود مكونة من عدد من غلاة المتطرفين، الذين سيحرصون على منع نتنياهو أيضاً من الاستجابة لمطالب لبيد. وهكذا، فإن عمر الحكومة القادمة سيكون قصيرا.

وأكبر إنجاز يمكن أن تحققه هذه الحكومة هو التوافق على تغيير قانون الانتخابات، بحيث يتم إدخال تعديل ينص على أن رئيس الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد هو الذي سيشكل الحكومة.
للأسف الشديد، لقد سارعت وسائل الإعلام العربية إلى تبني قاموس المصطلحات الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالتصنيف الأيديولوجي للأحزاب الصهيونية، ووسمت حزب "لبيد" بأنه يمثل "الوسط"، وكأنه يتنبى عملياً مواقف أيديولوجية تختلف عن اليمين.

مع العلم أنه حتى شيلي يحموفيتش، زعيمة حزب العمل، الذي وصف يوماً بأنه "معسكر السلام الإسرائيلي" حاولت خلال الحملة الانتخابية بإصرار إنكار أهمية حل الصراع مع الفلسطينيين، لدرجة أن الأديب الإسرائيلي البارز عاموس عوز وصفها بأنه "أسوأ من سلفها إيهود باراك، لأن باراك اعتبر أن الصراع غير قابل للحل، بينما هي أنكرت مجرد وجود الصراع".

قصارى القول، إن نتائج الانتخابات تدلل على أن إسرائيل اختارت الانطواء والتفرغ –ولو مؤقتا– لمواجهة مشاكلها الداخلية، والناخب الإسرائيلي قال بوضوح إنه غير معني بحل الصراع العربي، ولم تنطل عليه فزاعة النووي الإيراني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.