عباس ومرحلة ما بعد موت "حل الدولتين"

عباس ومرحلة ما بعد موت "حل الدولتين . الكاتب : صالح النعامي

 undefined

هناك تداعيات إستراتيجية بالغة الخطورة للقرارات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية رداً على قرار قبول فلسطين كدولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأبرز هذه التداعيات تتجسد في إسدال الستار على مشروع حل الدولتين.

هذا المشروع سوقته آخر ثلاث إدارات أميركية -بدعم من الاتحاد الأوروبي- للفلسطينيين والعرب، والذي عبرت عنه العديد من الصيغ التي طرحت لحل الصراع، والتي كان آخرها خطة "خارطة الطريق" التي بلورتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، وهذا ما يفسر حالة الحرج التي أصابت الإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية التي وصلت إلى حد استدعاء سفراء إسرائيل في عواصم هذه الدول تعبيرا عن احتجاجها على الخطوة الإسرائيلية.

ماذا يعني إنجاز مشروع "إي1″؟
إن أحد أخطر الإجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية كان بلا شك قرار بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية في المنطقة الفاصلة بين مدينة القدس المحتلة ومستوطنة معاليه أدوميم التي تقع شمال شرق المدينة، وهي المنطقة التي يطلق عليها "إي1".

إنجاز مشروع إي1 الاستيطاني يعني تفريغ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير من مضمونه، لأنه يقوض أي إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية على أرض الواقع

ومن المعروف أنه في هذه المنطقة يمر الشارع الذي يربط شمال الضفة الغربية بجنوبها، ولا يوجد أي فضاء جغرافي -غير هذه المنطقة- يصلح لربط طرفي الضفة الغربية. من هنا، فإن تطبيق قرار الحكومة الإسرائيلية المتعلق بالبناء في هذه المنطقة، يعني القضاء على أهم مقوم من مقومات أي دولة فلسطينية يمكن أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن إقامتها في الضفة الغربية، وهو أن تقوم هذه الدولة على إقليم متصل جغرافياً.

إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان اللذين يرأسان تحالفاً يستعد لخوض الانتخابات التي ستجرى أواخر يناير/كانون الثاني القادم، يدركان مغزى هذا القرار وتداعياته، ويعيان أن هذه الخطوة ستلقى استحساناً لدى الجمهور الإسرائيلي الذي يتجه بقوة نحو اليمين. 

ومما يفاقم من خطورة القرار الإسرائيلي أن المتحدثين باسم الحكومة الإسرائيلية حرصوا على التأكيد أنه جاء ضمن مشروع "القدس الكبرى" الذي يهدف إلى رفع عدد اليهود في القدس المحتلة إلى مليون يهودي، مع كل ما يتطلبه الأمر من مواصلة السيطرة على الفضاء الجغرافي في محيط المدينة المقدسة.

من هنا، فإن حكومة نتنياهو قررت ضمن الخطوات العقابية التي اتخذتها توسيع البناء جنوب شرق القدس المحتلة، مع تأكيدها أن قرارات أخرى ستتخذ في قابل الأيام لتعزيز الطابع اليهودي للمدينة ومحيطها.

وواضح تماماً أن إنجاز مشروع "إي1" يعني قبل كل شيء تفريغ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير من مضمونه، حيث إن إسرائيل تبعث من خلال هذا المشروع برسالة إلى المجتمع الدولي، مفادها أنه لا قيمة فعلية للاعتراف بفلسطين في الجمعية العامة، على اعتبار أن إنجاز مشروع "إي1" يقوض أي إمكانية لقيام هذه الدولة على أرض الواقع.

معارضة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية
لم يكن من المستهجن أن تعترض المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على قرارات نتنياهو-ليبرمان العقابية ضد السلطة، لاسيما أنها اشتملت أيضاً على تجميد تحويل عوائد الضرائب التي تتقاضاها إسرائيل على البضائع التي يتم استيرادها إلى السلطة الفلسطينية عبر الموانئ الإسرائيلية، وهي العوائد التي تسهم في تمكين السلطة من دفع رواتب الموظفين في دوائرها المختلفة.

فبخلاف النخب السياسية الحاكمة التي تحركها الدوافع الانتخابية، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تعي أهمية الحفاظ على ماء وجه قيادة السلطة الفلسطينية، وعدم تقديم مزيد من الدلائل للفلسطينيين على بؤس الرهان على البرنامج السياسي للرئيس الفلسطيني محمود عباس.

ويعي جنرالات الجيش والمخابرات الإسرائيلية الدور الأمني الكبير الذي تقوم به أجهزة السلطة في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، عبر التعاون الوثيق مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على كل المستويات، وهو التعاون الذي أدى إلى تغيير البيئة الأمنية في الضفة الغربية بشكل جذري.

وقد قدم رئيس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلية (شاباك) يورام كوهين مثالاً يعكس مظاهر هذا التغيير، عندما قال إنه لم يعد هناك فلسطيني واحد في الضفة الغربية على قائمة المطلوبين, وذلك بفعل التعاون الأمني الذي تبديه أجهزة السلطة الفلسطينية.

وقد أبلغ وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك المشاركين في مؤتمر "هرتزليا" الأخير، بأنه حتى قادة المستوطنين في الضفة الغربية يدينون للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بالفضل في تحسين ظروفهم الأمنية بشكل غير مسبوق.

لقد كانت خيبة قادة الأجهزة الأمنية الصهيونية كبيرة عندما لم ينجحوا في ثني القيادة السياسية عن اتخاذ سلسلة القرارات الأخيرة، لأنهم يعون أن تهاوي آمال الفلسطينيين في أن تسفر عملية التسوية عن تحقيق أي إنجاز وطني لهم، يعني اندلاع انتفاضة ثالثة تفجر البيئة الأمنية ليس فقط في الضفة الغربية، بل في إسرائيل ذاتها، علاوة على أن هذا التطور سيكون مرتبطا بالضرورة بإنهاء دور قيادة منظمة التحرير الحالية، ويضفي مزيدا من الصدقية على خطاب القوى التي تتبنى خيار المقاومة.

يعي الأميركيون والأوروبيون أنه في أعقاب القرار الإسرائيلي بإنجاز مشروع إي1، سيكون من الصعوبة بمكان تسويق حل الدولتين، لأن هذا المشروع يضمن فقط تكريس وتوسع دولة واحدة هي إسرائيل

تهاوي مسوغات الحصار والانقسام
يعي الأميركيون والأوروبيون أنه في أعقاب القرار الإسرائيلي بإنجاز مشروع "إي1″، سيكون من الصعوبة بمكان تسويق حل الدولتين، لأن هذا المشروع يضمن فقط تكريس وتوسع دولة واحدة هي إسرائيل.

ويفقد القرار الإسرائيلي الأميركيين والأوروبيين القدرة على المناورة في مواجهة الفلسطينيين، عبر مواصلة طرح شروط اللجنة الرباعية التي تضفي "الشرعية" فقط على الأطراف الفلسطينية التي تعترف بوجود إسرائيل وتنبذ المقاومة بوصفها "إرهاباً"، في حين تعد الأطراف التي ترفض هذه الشروط منظمات إرهابية لا مجال للاعتراف بها والتحاور معها.

وبالمناسبة على أساس هذه الشروط، أيدت أوروبا وأميركا قرار إسرائيل فرض الحصار على قطاع غزة، وبسبب الخلاف الفلسطيني حولها تفجر الانقسام الداخلي. إن الأميركيين والأوروبيين الذين غذوا الانقسام الفلسطيني، وأجهضوا محاولات التقارب بين حركتي فتح وحماس، يعون الآن أن القرار الإسرائيلي ينسف مسوغات الانقسام.

فإذا كانت إسرائيل بعد 18 عاماً من المفاوضات تقوض مقومات الدولة الفلسطينية، فلم يعد ثمة مبرر لتواصل الخلاف بين القوى الفلسطينية بشأن مشاريع التسوية المتداولة. ومن نافلة القول إن القرار الإسرائيلي ينسف المسوغات الأخلاقية والسياسية لتأييد أوروبا وأميركا مواصلة فرض الحصار على غزة.

إن الأميركيين والأوروبيين الذين يدركون جيداً تداعيات القرار الإسرائيلي ردوا عبر خطوات دبلوماسية رمزية لم تؤثر على تصميم الحكومة الإسرائيلية على وضع قرارها موضع التنفيذ. ورغم أنه لم يكن واردا في الحسبان أن يقدم الأميركيون على خطوات جدية لإرغام تل أبيب على التراجع عن قرارها، فإن الأوروبيين لديهم أوراق مؤثرة جداً بإمكانهم توظيفها في الضغط على إسرائيل.

فيكفي أن نعلم أن بريطانيا ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل، وأن حجم الواردات البريطانية من إسرائيل تقدر بستة مليارات دولار سنوياً. ومن الواضح أن مجرد التلويح بهذه الورقة ستجعل الإسرائيليين يفكرون مجدداً في قرارهم.

لكن البريطانيين والأوروبيين بشكل عام معنيون بدفع ضريبة كلامية والإقدام على خطوات رمزية ضعيفة التأثير للاحتجاج على القرار الإسرائيلي، وهذا يعني أن إسرائيل ستواصل التشبث بتطبيق قراراتها العقابية.

عباس ولحظة الحقيقة
لا شك أن القرار الإسرائيلي وضع الرئيس محمود عباس في اختبار مصيري، فإن كان مقربو عباس قد أشاروا إلى أن قبول فلسطين كدولة مراقب يحسّن من قدرة السلطة على التفاوض مع إسرائيل، على اعتبار أن المفاوضات ستكون عندها بين دولتين، فإن البدء في تنفيذ مشروع  "إي1" يدلل على أن إسرائيل حسمت مصير المفاوضات بشكل نهائي، وأن من يبحث عن دولة فلسطينية على أرض الواقع لن يجدها في نهاية هذه المفاوضات.

إن الرئيس عباس بإمكانه توظيف القرار الإسرائيلي في إحداث نقلة تاريخية في سلوكه الوطني، بعدما أثارت خطواته ومواقفه الجدل والخلاف في الساحة الفلسطينية، خاصة بعدما أبدى استعداده للتنازل عن حق العودة الذي يعد أقدس الثوابت الوطنية الفلسطينية.

وإزاء السلوك الإسرائيلي والتواطؤ الأوروبي والأميركي، فإن عباس مطالب بالتالي:

أولاً- إعادة الاعتبار لخيار المقاومة بكل أشكالها، والتوقف عن وسم المقاومة المسلحة بأنها "عبثية"، لا سيما أن الفلسطينيين باتوا يشعرون بعوائد المقاومة الإيجابية أكبر بكثير من عوائد عقدين من المفاوضات، بعدما قدم الكيان الصهيوني الدليل تلو الدليل على أنه لا يفهم إلا لغة القوة. فمئات الأسرى الفلسطينيين الذين كانوا يقضون أحكاماً مدى الحياة تجبَر إسرائيل على إطلاق سراحهم مقابل جندي إسرائيلي أسير، في حين لم ينجح عباس في إقناع إسرائيل بإطلاق أسير فلسطيني واحد من الذين يقضون الأحكام المؤبدة.

التعاون الأمني وتبادل المعلومات مع الاحتلال وصمة عار في جبين كل من يتورط فيه، وعلى رأسهم عباس نفسه

وبعدما ظل المزارعون الفلسطينيون في قطاع غزة لسنين طويلة محرومين من فلاحة أراضيهم لقربها من الجدار الفاصل بين القطاع وإسرائيل، أجبرت المقاومة الفلسطينية إسرائيل في تفاهمات التهدئة الأخيرة على السماح لهم بفلاحة أراضيهم، حتى تلك التي تلتصق بالجدار الحدودي. وإن كان لا أحد يتوقع من عباس أن يحول سلطته إلى ذراع لمقاومة مسلحة، فإنه على الأقل مطالب بالدفاع عن حق شعبه في مقاومة الاحتلال بكافة أشكالها.

ثانياً- إيقاف كل أشكال التعاون الأمني وتبادل المعلومات مع الاحتلال، فهذا التعاون وصمة عار في جبين كل من يتورط فيه، وعلى رأسهم عباس نفسه. فهل يعقل أن يبدي عباس اعتراضه على المشاريع الاستيطانية، في حين يسمح بتوفير البيئة الأمنية التي تساعد على تعاظم المشروع الاستيطاني عبر التعاون الأمني الهادف إلى ضرب المقاومة؟

ثالثاً- إبداء كل المرونة المطلوبة لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني التي انتفت كل مسوغاتها ومبرراتها، والتوافق على برنامج قواسم مشتركة تجتمع عليه الفصائل الفلسطينية، برنامج يحمي الثوابت الوطنية ويسمح ببلورة توافق جامع حول آليات المقاومة ضد الاحتلال، بكل أشكالها.

ورغم أن عباس خيب في الماضي آمال كل أولئك الذين ظنوا أنه يمكن أن يعيد تقييم مواقفه بعد ثبوت فشلها بشكل قطعي، فإن الاختبار الحالي لا يدع مجالا أمام رئيس السلطة الفلسطينية، فما لم يستخلص العبر المطلوبة، فإن عليه على الأقل أن يحمل حقيبته وينصرف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.