تشريح خطاب مشعل ورسائله الأربع

تشريح خطاب مشعل ورسائله الأربعة



اليد الممدودة لأوباما 
الرسالة الثانية للنظام الرسمي العربي
الوضع الداخلي الفلسطيني ومصير الحوار
حماس مرونة خطاب سياسي أم استدارة

جاء الخطاب الأخير لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل يوم 25 يونيو/حزيران 2009 بعد جملة من التحولات التي اعتملت في المنطقة، وهي تحولات ما كان لها أن ترتسم على أرض الواقع لولا الصمود الكبير لقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وانسداد الآفاق أمام الطريق الذي ارتطمت به مسيرة التسوية خصوصاً مع صعود نتنياهو.

وكان من أهم علائم الارتسام على أرض الواقع ما جاء في خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة، وهو الخطاب الذي حمل تطوراً ولو محدوداً في اللغة السياسية الأميركية بالنسبة للتعاطي مع حركة حماس، وما تبعه من لقاءات تمت بين قيادات حركة حماس في دمشق وغزة بالرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي سلم قيادة حماس ورقة سياسية ليست بعيدة عن مصادر القرار في الإدارة الأميركية.

لكن بالمقابل فإن تطوراً سلبياً ارتسم خلال الفترة الأخيرة، وعبر عن ذاته من خلال الأحداث التي تلاحقت في الأراضي المحتلة والتي أحالت التفاؤل إلى تشاؤم بالنسبة لمسار الحوار الفلسطيني، وتحديداً بعد حادثتي قلقيلية وسقوط عدد من الضحايا من أبناء الشعب الفلسطيني.

كما جاء خطاب خالد مشعل قبيل أيام قليلة من انعقاد الجولة الحوارية السادسة بين حركتي فتح وحماس في القاهرة، ليثير مجموعة كبيرة من العناوين والقضايا، وليشير في الوقت نفسه إلى البراغماتية العالية التي بدأت تطل منذ فترة ليست بالقصيرة بين مفردات الخطاب السياسي لحركة حماس.

ففي القراءة الهادئة المختصرة لمضمون الخطاب نستطيع القول إن خالد مشعل أطلق رسائل أربعا في خطاب دمشق، أجاب فيها دفعة واحدة على مجموعة من الأسئلة ما برحت مثار جدل داخل الساحة الفلسطينية وحتى العربية. فما الجديد في خطاب مشعل وعلى أي تخوم رست الأمور في جديدها ومستجداتها؟

اليد الممدودة لأوباما

"
أعلن مشعل باسم حماس مد اليد للرئيس أوباما من أجل حوار حقيقي بين حماس والإدارة الأميركية، واستعداد حركته لحل دولة فلسطينية كاملة السيادة على أراضي 1967، مربوطاً مع حق العودة لستة ملايين لاجئ فلسطيني، وهو أمر يكشف بوضوح براغماتية لجهة التعاطي مع الفعل السياسي
"

إن الجديد في خطاب مشعل جاء في رسالته الأولى للولايات المتحدة وأوربا الغربية، وتضمنت بالفعل رؤية سياسية لحركة حماس لمسار الأحداث في المنطقة بعد خطاب أوباما، حيث أعلن مشعل أن حركة حماس تلمس تغييراً مرحباً به في النبرة والخطاب الأميركي تجاه المنطقة والعالم الإسلامي، لكنه طالب في المقابل بتغيير واقعي على الأرض يقفز عن سحر الخطابات ومفعولها العابر والمؤقت، نحو تغيير تستطيع الإدارة الأميركية عبره اتخاذ مواقف حازمة وحاسمة تقفز عن النوايا والوعود اللفظية وتنحو باتجاه كبح جماح نفوذ اللوبي الصهيوني كما فعل الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور عندما اتخذ قراراته الجدية بالضغط على إسرائيل لسحب قواتها من سيناء وقطاع غزة بعيد عدوان عام 1956.

ويلحظ في هذا السياق أن حديث خالد مشعل عن متغيرات الموقف الأميركي ترافق مع معلومات كانت قد تواترت خلال الفترات الماضية، وأشارت إلى حوارات ولقاءات جرت خلف الكواليس بين حركة حماس ووفود أوروبية غربية تمت في أكثر من عاصمة في المنطقة.

كما جاء حديثه عن متغيرات الموقف الأميركي مزوداً بإشارات أميركية إضافية نقلها الرئيس الأسبق جيمي كارتر أثناء لقاءاته قيادات حركة حماس في كل من دمشق وغزة، وفيها قدم رؤية أوباما بالنسبة لإمكانية الحوار مع حركة حماس.

وعليه أعلن خالد مشعل باسم حركة حماس مد اليد للرئيس أوباما من أجل حوار حقيقي وجاد بين حركة حماس والإدارة الأميركية، وأعلن أيضاً استعداد حماس لحل يقوم على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة فوق الأرض المحتلة عام 1967 مربوطاً مع حق العودة لستة ملايين لاجئ فلسطيني، وهو أمر يكشف بوضوح مرونة وبراغماتية عالية بدت تميز مواقف حركة حماس لجهة التعاطي مع الفعل السياسي اليومي.

الرسالة الثانية للنظام الرسمي العربي
أما الرسالة الثانية التي أطلقها خالد مشعل في خطابه فقد وجهها للنظام الرسمي العربي، وهي من الحالات القليلة أو النادرة التي توجهت فيها حركة حماس لمخاطبة النظام الرسمي العربي عبر الإعلام المفتوح، وتحمل الرسالة التي أطلقت على لسان مشعل في طياتها الجديد بالنسبة للواقع القائم، ويشتم منها موقف نقدي واضح يعبر عن عدم الرضا حيال الموقف العربي الرسمي المتهافت لجهة التعاطي مع مساعي التسوية الجارية، بما في ذلك مبادرة السلام العربية التي نسفها نتنياهو في مضمون خطابه الأخير.

"
عبر مشعل عن وجع وألم حيال الأداء العربي العام على صعيد الحركة السياسية في المنطقة، حيث سيادة منطق الارتهان والاتكال والعجز، خصوصاً بعد العدوان الفاشي الصهيوني على قطاع غزة واستمرار الحصار الظالم بما في ذلك استمرار إغلاق معبر رفح
"

ومن هنا فإن خالد مشعل يؤشر لمواقف باتت تتبناها حركة حماس، حيث ينطلق مطالباً بإستراتيجية عربية جديدة على المستوى الرسمي العربي تجمع بين السياسة والمقاومة، إستراتيجية لا تترك خياراً دون آخر، بل تفتح طريق الخيارات المختلفة وتستجمع أوراق القوة في الحالة العربية.

وهذا هو الجديد في الموقف المعلن لخالد مشعل في خطابه الأخير بالنسبة للحال العربية الرسمية، وهو موقف يعبر في أحد تجلياته عن وجع وألم حيال الأداء العربي العام على صعيد الحركة السياسية في المنطقة، حيث سيادة منطق الارتهان والاتكال والعجز، خصوصاً بعد العدوان الفاشي الصهيوني على قطاع غزة واستمرار الحصار الظالم بما في ذلك استمرار إغلاق معبر رفح.

أما في رسالته الثالثة فقد تناول مشعل بالتشريح خطاب نتنياهو الأخير، الذي طالما انتظره البعض، فإذا به يعيد تكرار الثوابت الصهيونية بلغة متخمة بالفجاجة والوقاحة. ومن هذا المنطلق فإن مشعل أعاد في خطابه نسف رواية نتنياهو، مشدداً على عناوين القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي القلب منها قضية حق العودة.

الوضع الداخلي الفلسطيني ومصير الحوار
وفي رسالته الرابعة تناول خالد مشعل الوضع الفلسطيني الداخلي ومسار العملية الحوارية الجارية منذ فبراير/شباط الماضي. مشيراً إلى أن نجاح الحوار الفلسطيني ووصوله إلى مراسي الاتفاق والتوافق كما تدفع مصر لتحقيق هذا الأمر خلال الشهر القادم، يتطلب تحقيق ثلاثة أمور بالتتابع والتتالي: أولها إنهاء ملف الاعتقال السياسي وتحريمه فوق الأرض الفلسطينية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وجميع كوادر المقاومة ووقف المساس بالمؤسسات والجمعيات. وثانيها تحييد الحوار الفلسطيني عما يسمى "الالتزامات مع إسرائيل والشروط الخارجية"، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال كما تطالب به جميع القوى الفلسطينية.

وثالثها تجاوز حلول "التقسيط بالمقطع" ملفاً ملفاً دون الربط الكامل والمحكم والمباشر بين جميع الملفات دفعة واحدة. لصالح حل "الرزمة الكاملة" بالنسبة لكل الملفات المطروحة وصولاً للوحدة الوطنية المنشودة، وهو ما يستوجب في رأي حركة حماس أن يستوفي الحوار كافة عناصره عبر "رزمة متكاملة تشمل كل النقاط، وألا يتفق على أي عنصر قبل إنجاز باقي البنود"، وهو ما يعطي الحوار درجة عالية من الحصانة التي تمنعه من الانهيار.

حماس مرونة خطاب سياسي أم استدارة
في هذا السياق، يخطئ من يعتقد أن حركة حماس -في خطاب مشعل- باتت تسير نحو إحداث انقلاب دراماتيكي في برنامجها وسلوكها وتوجهاتها وفي اشتقاقاتها البرنامجية، فالتحول المطلوب في رؤية المنظومات السياسية يحتاج دوماً لعملية إنضاج لا تقوم على التحليل والمماحكة النظرية فقط، بل تحتاج إلى التحليل المنطلق من التجربة المعاشة وإرهاصاتها المتتالية.

وعليه فتجربة الفترة الماضية، استطاعت أن تفعل فعلها، وأن تدفع الإسلام السياسي في فلسطين نحو الاستدارة المعقولة، بهدف استيعاب معطيات الواقع والبناء عليها لتوسيع فضاءات العمل أمام الحركة السياسية الفلسطينية، بالرغم من حملة الضغوط الأميركية الكبيرة والحملة الدولية التي قادتها واشنطن في حصار حكومة الوحدة الوطنية الائتلافية التي تشكلت عقب اتفاق مكة التوافقي وصولاً إلى الوقت الراهن.

وانطلاقاً من المعطى إياه، يمكن القول إن خطاب خالد مشعل الأخير جاء مليئاً بالرؤية والاشتقاقات البراغماتية لحركة حماس التي تعلمت بالميدان، وقد اختبرت واختمرت أفكارها ورؤاها، وباتت اليوم تقدم من حين لآخر اشتقاقات تؤشر على براغماتية ووطنية في النظرة إلى الصراع مع الدولة الصهيونية.

"
حركة حماس تقف اليوم أمام معالجة وطنية بامتياز لمعضلة اجتراح وصياغة تكتيكات وبرامج تسهم فيها بإعادة توليد التوافق الوطني الفلسطيني كخيار لابد منه في سياق الصراع مع الاحتلال الكولونيالي الصهيوني
"

وبالطبع ليس المعنى في ذلك أن حماس انسلخت أو هي في طور الانسلاخ عن ذاتها كما قد يقول بعض المتعجلين بالاستنتاج الذين يعتقدون أن حركة حماس تحاول أن تتقولب مع المعطيات الجديدة تحت وطأة الحصار على قطاع غزة وتكاليفه الباهظة، إضافة لوقوعها تحت ضغط المحاور الإقليمية التي تألف الضغط على الحالة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية في ظل معطيات إقليمية بالغة التعقيد مع صعود اليمين الإسرائيلي من جانب، وسعي الإدارة الأميركية الجديدة لإحداث اختراق جوهري ونوعي في عملية التسوية السياسية في الشرق الأوسط من جانب آخر.

فالجواب الواضح والحقيقي من خطاب خالد مشعل هو أن حركة حماس تقف اليوم أمام معالجة وطنية بامتياز لمعضلة اجتراح وصياغة تكتيكات وبرامج تسهم فيها بإعادة توليد التوافق الوطني الفلسطيني كخيار لابد منه في سياق الصراع مع الاحتلال الكولونيالي الصهيوني. ومن هنا أهمية الرؤية الثاقبة والصحيحة لمضمون خطاب مشعل الأخير، وتجنب التفسيرات المقطوعة وغير الموصولة مع السياقات التي تطورت فيها مواقف حركة حماس السياسية لجهة خطابها السياسي الموجه للعالم، وأدائها في هذا الميدان.

وعليه، فان نظرة موضوعية لخطاب خالد مشعل، تنطلق من اعتباره اشتقاقاً متقدماً لحماس في تقديم رؤية قائمة على مبادئ إنسانية وقيم عميقة تعيد تكريس عدالة القضية والحقوق الفلسطينية بنوع من الإبداع الذي يوفر على الفلسطينيين حرج الشعارات الكبرى في عالم يغص بفقدان (القيم والأخلاق، وتعدد المعايير والمكاييل) لصالح رؤية تكتيكية تقفز عن النصوص الصادمة، وتتمتع بدينامية حية، بحيث تكون رافعة لمشروعهم الوطني للتحرير وليست عبئاً عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.