الفقر في عاصمة الصناعة الأميركية

مواطن أميركي يحمل متاعه على عربة تسوق وتنقل به
مواطن أميركي يحمل متاعه على عربة تسوق وتنقل به (الجزيرة)

طارق عبد الواحد-ديترويت

"لقد انتهى الحال بي هنا ولم يعد بوسعي أن أفعل أي شيء"، هذا ما تقوله ليندا جونسون التي خرجت للتشمس على مقعد في الحديقة العامة بعد ليلة مطيرة قضتها نائمة على كرسي بـ"مركز تومياني" المختص بمساعدة المشردين والفقراء بمدينة ديترويت الأميركية.

وتنهي جونسون حديثها مع الجزيرة نت بالقول، "إنني عالقة.. حالي حال المئات وربما الآلاف من الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم وأعمالهم ليجدوا أنفسهم في الشارع".

في قصة هذه المرأة التي تشارف على الستين من عمرها الكثير من ملامح المدينة التي ولدت ونشأت فيها، ديترويت المعروفة بـ"عاصمة صناعة السيارات" في الولايات المتحدة، والتي كانت ضمن قائمة المدن الأميركية الأكثر نموا وازدهارا اقتصاديا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

هذا كل ما يملكه من متاع بعد أن فقد عمله وسكنه (الجزيرة)
هذا كل ما يملكه من متاع بعد أن فقد عمله وسكنه (الجزيرة)

ولدت جونسون لعائلة سوداء متوسطة الحال، وتعلمت فن الطبخ في مطعم صغير تمتلكه وتديره والدتها، وشهدت في ريعان شبابها ما يعرف بـ"أحداث عام 1967″ التي قادت مدينة ديترويت نحو منزلق خطير من التأزمات الاقتصادية والتشققات الاجتماعية، إثر إغلاق عشرات آلاف الأعمال الصغيرة وتقلص الاستثمارات الاقتصادية والمالية على خلفية أحداث شغب واحتكاكات عرقية دفعت عشرات الآلاف من الأميركيين البيض إلى هجرة المدينة.

تعاونت جونسون مع زوجها لتأمين متطلبات عائلتهما المكونة من خمسة أبناء، وتنقلت بعد إغلاق المطعم الذي تمتلكه والدتها، على مدى سنوات، بين عدة أعمال ووظائف تخللتها فترات بطالة ومشاكل أسرية انتهت بانفصالها عن زوجها.

وازدادت الأمور سوءا حين أتى -قبل سبع سنوات- حريق على منزلها غير المسجل لدى شركات التأمين، لتجد جونسون نفسها في الشارع ملتجئة إلى مراكز ومنظمات الرعاية الاجتماعية التي تقدم للفقراء والمحتاجين وجبات يومية وألبسة مستعملة وفحوصات طبية دورية.

وفي الأثناء كانت مدينة ديترويت تنحدر أكثر فأكثر نحو الفقر والبطالة والجريمة لينتهي بها الأمر مع حلول الأزمة الاقتصادية التي أخذت تعصف بالولايات المتحدة منذ عام 2007 إلى انتكاسة حادة دفعت المسؤولين الرسميين إلى إعلان إفلاس المدينة بعجز في الميزانية يزيد على 16 مليار دولار، فاتحين بذلك الباب أمام عشرات المدن الأميركية نحو هذه الخطوة.

كثير من البيوت هجرها أصحابها لعجزهم عن الوفاء باستحقاقاتها المالية (الجزيرة)
كثير من البيوت هجرها أصحابها لعجزهم عن الوفاء باستحقاقاتها المالية (الجزيرة)

وترى المرشدة تيريزا بارو العاملة لدى "مركز تومياني" أن برامج المساعدة والرعاية وإعادة التأهيل برغم تنوعها ليست كافية لحل المشاكل المستفحلة، في ظل غياب السياسات الحكومية الجادة والفاعلة لخلق الوظائف وإعادة هيكلة أنظمة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية الرسمية.

وحول أعداد المستفيدين من برامج المركز قالت بارو، "لدينا المئات منهم يوميا، ولكن الأخطر هو الزيادة الملحوظة في أعداد الشبان الذين يعيشون دون مأوى، والكثيرون منهم مدمنون على تعاطي المخدرات والكحول، وبعضهم لديه ميول عدوانية".

ولدى الاستماع إلى قصص بعض المتجمعين في محيط مبنى المركز بانتظار الحصول على وجبة الغذاء اليومية، يمكن للمرء أن يلمس الهشاشة البنيوية في النظامين الاجتماعي والاقتصادي التي تتبدى عبر مظاهر ومفارقات مرعبة للنظام الرأسمالي.

ففي الوقت الذي لا يخلو فيه شارع من المشردين والمتسولين تنتشر في المدينة عشرات آلاف المنازل المهجورة التي تشكل إحدى العقبات الكأداء أمام بلدية المدينة، لا سيما أنها تحولت إلى أوكار لتعاطي المخدرات والاتجار بها.

ويمكن تلمس المزيد من مفارقات النظام الرأسمالي في أميركا حين نعلم أن ديترويت التي تحل على رأس قائمة المدن الأميركية الفقيرة والخطيرة، حيث تسجل فيها نسب عالية للبطالة (10% لعام 2014) والجريمة التي توزاي نسبة الجريمة في مدينة نيويورك الأضخم بـ11 مرة من مدينة ديترويت، وفي الوقت ذاته تنافس ديترويت على قائمة المدن أكثر جذبا للطامحين والحالمين بالثروة، إذ سجلت الإحصاءات خلال الأعوام الماضية أن "منطقة ديترويت" (مترو ديترويت) البالغ عددها سكانها حوالي 4.3 ملايين نسمة تضم ما يزيد على تسعين ألف مليونير.

كثير من الأميركيين يستفيدون مما يلقى في حاويات القمامة (الجزيرة)
كثير من الأميركيين يستفيدون مما يلقى في حاويات القمامة (الجزيرة)

ولا يقتصر انتشار العوز والفاقة على مجتمعات الأفارقة الأميركيين، بل يتعداه إلى باقي المجتمعات الأخرى، بما فيها مجتمع البيض، فـ"سارا ريد" (23 عاما) تعيش على حدود خط الفقر المحدد رسميا بما يزيد قليلا على 12 ألف دولار للشخص الواحد، وقد فشلت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة في الحصول على عمل دائم براتب يكفيها لتدبير أمور معيشتها.

وعلى خلفية ضبطها مخمورة للمرة الثانية وهي تقود سيارتها، تمَّ سحب رخصة القيادة منها وإخضاعها لبرنامج مراقبة وخدمة مدنية، الأمر الذي حدّ من إمكانية حركتها واقتصارها بالتالي على عمل بدوام جزئي في حانة قريبة من الشقة التي تعيش فيها مع صديقتها. وقد عانت خلال الشهور الستة الأخيرة من أزمة مالية وصفتها بـ"الخانقة" دفعتها إلى العودة "المذلة" للعيش في منزل والديها.

وهذه الحال تشكل إحدى ملامح الضائقة الاقتصادية التي يعيشها الشباب الأميركي، حيث سجلت الإحصاءات الرسمية ازدياد أعداد الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18-31 عاما الذين يعودون للعيش مع ذويهم، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة خلال العقود الأربعة الماضية.

المصدر : الجزيرة