تقنية مذهلة استخدمت في صنع لقاحات كورونا يمكن أن تنقذنا من مرض يقتل الملايين

يراهن صانعو اللقاحات على أن تقنية لقاح "الحمض النووي الريبوزي المرسال" (mRNA) المسماة اختصارا لقاح "الرنا" والمعتمدة في تصنيع اثنين من لقاحات فيروس كورونا، سوف تسهم أيضا في الحد من أعداد الوفيات الكارثية في كل سنة جراء الإنفلونزا الموسمية.

ويقول الكاتب كارل زيمر، في التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) الأميركية، إن الإنفلونزا لم تعد تحظى بالاهتمام اللازم، في ظل تواصل معركة العالم ضد فيروس كوفيد-19.

ولكن هذا لا ينفي التأثير المدمر لهذه الإنفلونزا على الصعيد العالمي، حيث تسبب سنويا ما بين 3 و5 ملايين إصابة خطيرة، ونحو 650 ألف وفاة. ومرة خلال بضعة عقود من الزمن تنتقل إحدى سلالات الإنفلونزا من الحيوانات إلى الإنسان، وتتسبب في ظهور وباء.

أرقام صادمة

ويؤكد الكاتب أن أعداد ضحايا الإنفلونزا تعتبر صادمة، إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود لقاحات ضدها تم الشروع في تصنيعها قبل 8 عقود. إلا أن تأثير هذه اللقاحات يبقى متواضعا، إذ إن مفعول الحقنة الواحدة لا يستمر لأكثر من موسم، كما أن فاعليتها عادة ما تكون بين 40 و60%، وفي بعض السنوات تنخفض إلى 10%.

ولكن اليوم يمكن أن نشهد ظهور جيل جديد من لقاحات الإنفلونزا عالية الفاعلية، خلال السنوات القليلة القادمة، بناء على تقنية الرنا أو لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال، التي كان لها الفضل في حماية مئات الملايين من الناس ضد فيروس كورونا.

وبينما يتم تطوير لقاحات الإنفلونزا التقليدية داخل بيض الدجاج، في عملية تستغرق أشهرا طويلة، فإن تقنية الرنا الجديدة تمتاز بالسرعة واليسر، وهو ما يمكن العلماء من تصنيع اللقاح خلال فترة زمنية قريبة جدا من بداية موسم الإنفلونزا، كما أنها تحقق استجابة مناعية أقوى من اللقاحات العادية.

ويشير الكاتب إلى أن شركتي "مودرنا" (Moderna) الأميركية و"سانوفي" (Sanofi) الفرنسية شرعتا في إجراء تجارب على تقنية لقاح الرنا منذ الصيف المنقضي لتصنيع لقاحات الإنفلونزا.

إضافة إلى ذلك، فإن شركتي "فايزر" (Pfizer) الأميركية و"بيونتك" (BioNTech) الألمانية، اللتان تمكنتا أيضا من إنتاج لقاحات كورونا باستخدام هذه التقنية، شرعتا في القيام بتجارب مخبرية خلال الشهر الماضي. ويشار إلى أن شركة "سيكيروس" (Seqirus) المنتجة للقاحات في إنجلترا تخطط لاختبار لقاح الرنا الموجه للإنفلونزا بداية العام المقبل.

ويرى الكاتب أنه يصعب -في الوقت الحالي- التأكد من النتائج التي تحققها هذه اللقاحات ضد الإنفلونزا الموسمية، إلا أن أغلب الخبراء في هذا المجال يعبرون عن تفاؤلهم؛ خاصة أن تقنية اللقاح الحمضي الريبوزي المرسال يمكن تسخيرها لصنع تطعيم صالح لعدة سنوات ضد سلالات متنوعة من الإنفلونزا.

ولذلك تقول أخصائية المناعة في جامعة كونيتيكت الأميركية، الدكتورة جينا بارتلي، "أنا متحمسة جدا لمستقبل لقاح الإنفلونزا".

ويشير الكاتب إلى أن فيروس الإنفلونزا يتصف بالخبث والقدرة على التحور والتأقلم بشكل متواصل، ولذلك فإن صانعي اللقاحات لجؤوا إلى فكرة دمج 4 سلالات في تركيبة اللقاح الموسمي في كل سنة. ولكن لأن هذا اللقاح يتم إنتاجه بالاعتماد على بيض الدجاج، فإن العملية تكون بطيئة، والعلماء مضطرون لاختيار السلالات التي سيتم تضمينها قبل أشهر من بداية موسم الإنفلونزا، وهو ما يؤدي أحيانا إلى خطأ في هذه التخمينات.

تأثير كبير

وخلال الفترة بين 2004 و2019، تراوحت فاعلية لقاحات الإنفلونزا بين 60% و10%. مع العلم أن أي تغيير في هذه النسبة، يكون له تأثير كبير على مصير البشر، باعتبار العدد الهائل من المصابين بالإنفلونزا في كل سنة. إذ إن اللقاح لا يؤدي إلى خفض احتمالات الإصابة بالعدوى فقط، بل إلى خفض مخاطر تدهور الحالة الصحية والحاجة إلى دخول المستشفى أيضا.

وتشير تقديرات العلماء إلى أنه في موسم 2018-2019 مكنت لقاحات الإنفلونزا -التي بلغت فاعليتها 29% فقط- من حماية 4.4 ملايين أميركي من المرض، و58 ألف شخص من دخول المستشفى، و3500 وفاة.

ولكن رغم هذه الأرقام، يرى عالم الفيروسات في جامعة ديوك الأميركية، الدكتور نيكولاس هيتون أن "لقاحات الإنفلونزا الموجودة حتى الآن ليست بالجودة الكافية، وفي حال النجاح في تطويرها يمكن إنقاذ الآلاف من الأرواح".

مصنع اللقاح

ويوضح الكاتب أن فكرة تقنية لقاح الرنا أو الحمض النووي الريبوزي المرسال تختلف كليا عن طريقة بيض الدجاج، إذ إنها تجعل من خلايا الإنسان مصنعا للقاح.

ويقوم العلماء بإنشاء جزيئات الحمض النووي الريبوزي المرسال مع تعليمات بصنع بروتين الإنفلونزا ثم إيصاله إلى الخلايا. ومن ثمّ، هذه الخلايا ستصنع بعد ذلك نسخا من بروتين الفيروس الذي سوف يصعد إلى سطحها. وعندما تمر الخلايا المناعية فإنها تتفطن إلى وجوده، وتقوم بدورها في القضاء على الفيروس.

وخلال عام 2020، صنعت شركة مودرنا لقاح فيروس كورونا باستخدام هذه التقنية، وقامت باختباره بسرعة قياسية. وقد جاءت النتيجة مذهلة، حيث بلغت نسبة فاعليته 95%، على غرار النسبة التي حققتها الشركة المنافسة "فايزر-بيونتك" (Pfizer-BioNTech).

ويشير الكاتب إلى أن نجاح هذه التقنية سمح للشركتين بتحقيق أرباح مالية هائلة. ولقاح فايزر -يبدو الآن- في طريقه ليصبح أكثر دواء يباع في التاريخ. كما أن القيمة السوقية لشركة مودرنا تضاعفت 19 مرة منذ بداية الوباء.

والآن تسعى هاتان الشركتان -إلى جانب سانوفي وسيكيروس- إلى استثمار هذا النجاح من أجل التصدي للإنفلونزا الموسمية.

ورغم الحذر الذي يبديه بعض العلماء، فإن الدراسات تبشر بأن هذا النوع من اللقاحات قد يكون أكثر فاعلية من تلك التقليدية. وقد بينت تجارب سابقة على الحيوانات أن لقاحات الرنا توفر حصانة أفضل ضد فيروسات الإنفلونزا، حيث إنها تنشط الجهاز المناعي لدى الحيوان لصنع الأجسام المضادة، كما أنها تدرب الخلايا المناعية لمهاجمة الخلايا المصابة.

ويشير الكاتب إلى أن هذه التقنية الواعدة حتى لو حققت النجاح المأمول، فإنها سوف تستغرق سنوات عديدة قبل أن تحظى بالموافقة الرسمية. كما أن تجارب لقاحات الإنفلونزا بهذه التقنية لن تحظى بنفس الدعم الحكومي والمالي الذي حظيت به لقاحات فيروس كورونا، ومن غير المحتمل أن تتحصل على موافقة طارئة من قبل الجهات الصحية الرسمية.

المصدر : نيويورك تايمز