السلطان محمد الفاتح

A portrait of Sultan Mehmed II by Gentile Bellinii.
بورتريه يصوّر السلطان محمد الفاتح للفنان جينتيلي بيليني رُسم عام 1480 (جينتيلي بيليني)

السلطان محمد الفاتح سابع سلاطين الدولة العثمانية، وُلد عام 1429، عُرف عند المسلمين باسم "الفاتح" وأَطلق عليه الأوروبيون لقب "السيد العظيم" فتح مدينة القسطنطينية وقضى على الدولة البيزنطية. حكم نحو 30 عاما، وطد فيها السيادة العثمانية في أوروبا، وبدد أحلاف الصليبية، ودانت له فيها آسيا الصغرى وبلاد اليونان والقرم ومعظم شبه جزيرة البلقان. بلغت فتوحاته إيطاليا.

عزز القوات العسكرية البرية والبحرية، وأعاد تنظيم الجيش وتدريبه، واهتم بإصلاح النظام الداخلي والإداري وعمل على تطوير القضاء والتعليم، ودعم الازدهار العمراني، وشجع التجارة والصناعة، وأرسى قواعد الأمن والعدالة. وتوفي عام 1481. 

المولد والنشأة

ولد محمد الثاني بن السلطان مراد الثاني في مدينة أدرنة التركية عاصمة الخلافة العثمانية آنذاك. ويلقبه شعبه بأبي الخيرات، واختُلف في تاريخ مولده، فذهب بعض المؤرخين إلى أنه ولد يوم 20 أبريل/نيسان 1429، وقال آخرون إنه ولد يوم 30 مارس/آذار 1432.

وقد كان الابن الرابع للسلطان مراد واختُلف في تعيين والدته، فذكر مؤرخون أنها كانت أميرة نصرانية، أما المؤرخ أحمد آق كوندز فأكد أنها كانت مسلمة تدعى هما خاتون بنت عبد الله، وأن ضريحها ما زال موجودا في الجهة الشرقية من جامع مرادية تحت اسم "ضريح خاتونية".

وقد نشأ السلطان محمد الثاني في القصور الملكية بأدرنة بجوار والده وتحت رعايته، إذ اهتم بتنشئته وتربيته جسميا وعقليا ودينيا ليكون قادرا على الاضطلاع بأمور الحكم، فدربه على ركوب الخيل والرمي بالقوس والضرب بالسيف، وحرص على تأهيله علميا وعمليا إلى جانب ما ورثه عن أبيه من الجَلَد والشجاعة وشدة المراس والصبر على المكاره وعدم اليأس.

كان لطبيعة الحقبة التي عاصرها أثر جليّ في بناء شخصيته وتوجهاته، إذ عاش في جو ساد فيه العالم التوتر والقسوة، واشتد فيه التعصب الديني بين الإسلام والنصرانية، واحتدم الصراع بين الفريقين إلى درجة تلاشى معها العطف والعفو، لذا ظهر في بعض حروب الفاتح الشدة والبأس.

UNSPECIFIED - JANUARY 14: Portrait of Mehmed II or Sultan Mehmed the Conqueror (1432-1481), Sultan of the Ottoman Empire, Ottoman painting. Istanbul, Topkapi Sarayi Muzesi Kutuphanesi (Library) (Photo by DeAgostini/Getty Images)
رسم تعبيري لصورة محمد الثاني بن مراد (غيتي)

وتزوج السلطان محمد الفاتح عدة مرات، وفي ما يلي أسماء زوجاته:

  • غلبهار خاتون بنت عبد الله، وكانت جارية اعتنقت الإسلام.
  • ستي مكرمة خاتون ابنة الأمير سليمان بك بن محمد حاكم إمارة ذي القدر.
  • جيجك خاتون والدة جم بن محمد الفاتح.
  • كل شاه خاتون انضمت إلى الحرملك عندما كان محمد الفاتح حاكما على مدينة مانيسا.
  • حنة خاتون ابنة إمبراطور طرابزون داود كومنين.
  • هيلانة خاتون ابنة حاكم المورة دمتريوس.
  • خديجة خاتون ابنة زاغنوس محمد باشا.

وكان له من الأولاد:

  • جوهر خان خاتون ابنة غلبهار خاتون، وتزوجت أغورلو محمد بن السلطان حسن.
  • بايزيد الثاني ابن غلبهار خاتون، وقد تولى الحكم بعد وفاة أبيه وكان ثامن سلاطين الإمبراطورية العثمانية.
  • مصطفى ابن كل شاه خاتون، وكان حاكما على مدينة قونية، وتوفي في حياة والده عام 1474.
  • جم ابن جيجك خاتون، وكان حاكما على القرمان، ونازع شقيقه بايزيد على العرش.

التكوين العلمي

حرص السلطان مراد الثاني على جلب خيرة الأساتذة لتدريس ابنه محمد العلوم الأساسية، فحفظ القرآن الكريم وقرأ الحديث الشريف وتعلم الفقه في سن صغيرة وكان أول معلم له الملا أحمد بن إسماعيل الكوراني، وكان عالما فقيها ماهرا في النحو والمعاني والبيان واستطاع أن يحبب الفاتح بالعلم.

وممن تتلمذ له من الشيوخ والفقهاء أيضا الشيخ ابن التمجيد وكان شاعرا حسن النظم بالعربية والفارسية، ومنهم الشيخ خير الدين والشيخ سراج الدين الحلبي والمعلم زاده مصلح الدين وملا إلياس وملا عبد القادر، وكان الشيخ آق شمس الدين ضمن العلماء الذين أشرفوا على تعليمه عندما تولى إمارة مانيسا (الواقعة غرب تركيا)، وهو من أثر فيه تأثيرا بالغا لا سيما في تشجيعه على فتح القسطنطينية، حتى أنه عدّ الفاتح المعنوي للقسطنطينية.

TURKEY - FEBRUARY 14: Theodosian walls, Istanbul, Turkey. Roman civilisation, 5th century. (Photo by DeAgostini/Getty Images)
المتبقي من الأسوار التي كانت تحيط بمدينة القسطنطينية (غيتي)

وبالإضافة إلى العلوم الدينية واللغوية، أراد السلطان أن يتعلم ابنه العلوم الدنيوية فأحضر له معلمين في الرياضيات والجغرافيا والفلك.

وعلاوة على ذلك، فقد اهتم محمد الثاني بدراسة التاريخ وقراءة سير العظماء والأبطال، واستوعب تاريخ الإسلام، وكان على دراية بقضايا فلسفة الدين، كما دأب منذ حداثة سنه على مراسلة العلماء والشعراء في فارس والهند وتركستان ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية.

وقد ألمّ بجملة من اللغات إلى جانب اللغة التركية، فكان يعرف العربية والفارسية والإغريقية والسلافية ويفهم الإيطالية، وكان واسع الاطلاع في آداب هذه اللغات وتذوقها.

وكذلك كان مغرما بالفنون فكان يجيد الرسم والعزف على الآلات الموسيقية وحفظ الشعر ونظمه، وكان يكتب أشعاره تحت اسم "عونى"، وذلك على طريقة الإيرانيين في اختيار اسم شعري لهم، وله ديوان شعر محفوظ في 22 ورقة.

وكان منفتحا على الثقافة الغربية والدين المسيحي، فقد نمّى اطلاعه على الثقافة الغربية، عندما كان أميرا على قصر مانيسا وكان في بلاطه "شيرياكو دان كونا" (Ciriaco d’Ancona) عالم إنساني إيطالي وكذلك إيطاليون آخرون، وكانوا يقرؤون له التاريخ الروماني والغربي.

التجربة السياسية والعسكرية

دخل محمد الفاتح معترك الحكم والحياة السياسية في سن يافعة، وقد كان والده حريصا على إعداده وتدريبه للقيام بمهام الحكم وقيادة الجيوش، فأوكل إليه المهام واصطحبه بين حين وآخر إلى المعارك، ليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عمليا فأخذ عن والده مهارة إدارة الدولة والبراعة في أمور الحرب ووضع الخطط وحصار المدن وقيادات العمليات العسكرية.

وقد نُصّب سلطانا على الدولة مرتين المرة الأولى في حداثة سنه حين تنازل له والده عن العرش، فبعد صراعات وحروب طويلة خاضها السلطان مراد الثاني أبرم معاهدة صلح مع المجر لمدة 10 سنوات في يوليو/تموز 1444 ميلادي، وما أن فرغ من أمور الهدنة حتى فُجع بموت ابنه الأكبر الأمير علاء، واشتد حزنه عليه وزهده في الدنيا والملك إلى درجة تركه الحكم لابنه محمد الذي كان صبيا يافعا لا يتعدى الـ14 من عمره.

EDIRNE, TURKEY - MAY 26, 2018: Monument of Ottoman Sultan Mehmed II in city of Edirne, East Thrace, Turkey; Shutterstock ID 1486215464; purchase_order: ajnet; job: ; client: ; other:
نصب تذكاري للسلطان العثماني محمد الثاني في مدينة أدرنة (شترستوك)

ولصغر سنه، أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من رجال دولته، ثم ذهب إلى مانيسا في آسيا الصغرى ليقضي بقية حياته في عزلة وطمأنينة، ولكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى خرق جنود بلاد المجر الهدنة وأغاروا على بلاد البلغار وبدأت الاستعدادات لحملة صليبية، والذي شجعهم على ذلك أن العرش العثماني قد تُرك لصبي لا خبرة له ولا خطر منه.

ولما بلغ السلطان مراد الخبر خرج بجيشه لمحاربة جنود المجر، فوجدهم قد حاصروا مدينة فارنا الواقعة على البحر الأسود، واشتبك الجيشان وانتصر العثمانيون انتصارا ساحقا وقُتل ملك المجر وتفرق الجند، وفي اليوم التالي هاجم العثمانيون معسكر المجر واحتلوه.

وبعد تمام النصر، رجع السلطان إلى عزلته مرة أخرى، ولم يلبث طويلا حتى اندلعت حركة شغب، ولكن هذه المرة من داخل البلاد إذ تمرد عساكر الإنكشارية الذين ازدروا السلطان الفتى، ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة فقَدِم السلطان مراد الثاني إلى أدرنة وقام بإخماد فتنتهم وإخضاعهم أوائل عام 1445 ميلادي، ثم أرسل ابنه محمد إلى مانيسا حاكما عليها.

وبقي السلطان مراد الثاني على العرش إلى أن توفي، فعاد محمد الفاتح إلى العاصمة لتولي الحكم واعتلى العرش العثماني للمرة الثانية يوم 18 فبراير/شباط1451م، وكان عمره حينها 19 أو 22 سنة -حسب الاختلاف في تاريخ مولده- وأصبح سابع سلاطين السلالة العثمانية.

وكانت السنوات الخمس التي قضاها في مانيسا أنضجته، فبمجرد توليه الحكم أعاد تنظيم إدارات الدولة المختلفة وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، فأقر بعض الولاة على أقاليمهم، بينما عزل آخرين ظهر منهم التقصير أو الإهمال أو عدم الموالاة.

واهتم كثيرا بالأمور المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف على نحو يمنع الإسراف والبذخ أو الترف، وأجرى تغييرات كبيرة في التعريفات الجمركية وزيادة الضريبة وتغيير العملات، وفرَض قانون مسح الأراضي، وهذه التغييرات ونحوها ساعدت على إدخال زيادات كبيرة إلى عائدات الدولة.

ومن جانب آخر، طوّر البلاط السلطاني وأمده بالخبرات الإدارية والعسكرية المتينة، وركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة.

Breech-loading rifled field-howitzer, inspected by General Asif Pasha and his staff, Turkish artillery experiments with dynamite shells at the Dardanelles, Turkey, engraving after an illustration by Richard Caton Woodville Jr (1856-1927), from The Illustrated London News, No 2542, January 7, 1888.
السلطان محمد الفاتح اعتنى بتصنيع عدد من المدافع الضخمة على رأسها "المدفع السلطاني" (غيتي)

وقد حرص على تعزيز القوة البحرية، حتى كانت للأسطول العثماني السيطرة على البحرين الأسود والأبيض، وأنشأ دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية.

وكان الفاتح أشد سلاطين الدولة العثمانية حزما وعزما، وخلال حكمه الذي استمر لنحو 30 عاما، وسّع فتوحاته حتى دانت له آسيا الصغرى وبلاد اليونان ومعظم شبه جزيرة البلقان، وأصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية بعد استيلائه على القرم، كما سيطر على الجزر الأيونية الواقعة بين إيطاليا واليونان، وأخضع مدينة تارنتو وهدد إيطاليا والبابوية وأوروبا بأسرها، وكان من أكبر إنجازاته القضاء على الدولة البيزنطية وفتح مدينة القسطنطينية.

لذلك اعتبر السلطان محورا مهما في السياسة الدولية، وشملت علاقاته السياسية والحربية أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويعد موطّد السيادة العثمانية في أوروبا، ومبدد الأحلاف الصليبية، وهو أول سلطان عثماني اشتهر عند الأوروبيين، حتى إنهم أطلقوا عليه لقب "السيد العظيم" وكان مجرد سماع اسمه يثير الرعب والهلع في قلوب أعدائه، حتى إن البابوية أقامت في روما الاحتفالات والمهرجانات الصاخبة ابتهاجا بموته.

فتح القسطنطينية

بمجرد اعتلاء السلطان محمد الثاني العرش تطلع إلى إكمال الطريق الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، وكان مركز اهتمامه مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فعمل بجد من أجل فتحها وكانت المعقل الإستراتيجي المهم للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي.

بالإضافة إلى ذلك تحتل القسطنطينية مكانة خاصة لدى المسلمين، إذ تنافس الخلفاء والقادة على فتحها عبر العصور المتعاقبة لنيل شرف البشارة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".

فقام السلطان أولا بتحصين مضيق البوسفور فبنى قلعة "روملي" على الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور في أضيق نقطة منه، مقابل القلعة التي أُسست في عهد السلطان بايزيد على الجانب الآسيوي، لمنع الإمدادات العسكرية القادمة من مملكة طرابزون وغيرها.

كما زاد عدد أفراد الجيش وأمر بتدريبهم على فنون القتال المختلفة واعتنى بتصنيع عدد من المدافع الضخمة على رأسها "المدفع السلطاني" المشهور (مدفع الدردنيل)، وحرص على تقوية الأسطول الحربي والقوة البحرية.

One of the towers of Rumeli Fortress overlooks the Bosphorus Strait in Istanbul, Turkey.; Shutterstock ID 210885865; purchase_order: ajnet; job: ; client: ; other:
أحد أبراج قلعة روملي المطلة على مضيق البوسفور في إسطنبول (شترستوك)

وإلى جانب ذلك، صالح الإمارات المجاورة، فعقد معاهدات مع إمارة غلطة والمجد والبندقية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية، لكن بعض تلك المعاهدات لم تصمد مع بدء الهجوم الفعلي.

وكانت المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصينا، لما بها من الأسوار والقلاع والحصون، إضافة إلى التحصينات الطبيعية فكان من الصعب اختراقها، لذلك استعصت على عشرات المحاولات العسكرية، منها 11 محاولة إسلامية سابقة.

وقد بدأ محمد الثاني حصار القسطنطينية في الخامس أبريل/نيسان 1453، وكانت القوات البرية قد أحكمت الطوق حول مختلف الجهات ونصبت المدافع أمام الأسوار، وانتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول إلى "القرن الذهبي" بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله وكذلك الأسطول البيزنطي الراسي في الميناء.

ولما استمر الحصار من دون جدوى فكر السلطان في جرّ السفن من المضيق عبر البر، بحيث تُسحب على أخشاب مدهونة بالزيت مسافة 3 أميال ثم يتمّ إنزالها في القرن الذهبي، وقد تمكنوا من سحب أكثر من 70 سفينة وإنزالها على حين غفلة من العدو، وكانت أجزاء من السور في تلك الجهة مهدمة وغير منيعة يسهل اختراقها.

وكذلك أمر بحفر أنفاق لاختراق المدينة من أسفلها ولكن هذه الأنفاق قد أودت بحياة كثيرين، إذ ماتوا اختناقا واحتراقا في باطن الأرض بفعل النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة التي صبّها عليهم الروم، كما وقع بعضهم في أسر الروم، فقطعت رؤوسهم وقذف بها إلى معسكر العثمانيين.

وبعد حصار مرير ومواجهات عنيفة دامت أكثر من 50 يوما، استطاع الجيش العثماني اقتحام الأسوار وفتح المدينة يوم 29 مايو/أيار 1453، وقتل الإمبراطور قسطنطين، وحمل السلطان محمد الثاني بهذا الفتح العظيم لقب "الفاتح"، وسميت المدينة بعد ذلك "إسلامبول" أي مدينة الإسلام وأصبحت عاصمة الدولة العثمانية.

وقد مثّل سقوط القسطنطينية نقطة تحول في تاريخ المنطقة والعالم بأسره، فقد انتهى بفتحها حقبة تاريخية بارزة، إذ سقطت الإمبراطورية البيزنطية التي استمرت نحو 11 قرنا، وزال بذلك منافس شديد للإمبراطورية الرومانية الغربية، وفي الوقت ذاته كان وقع الخبر مدويا وأليما على الغرب إذ عدوا الحدث بداية خطر كبير يهدد كيان أوروبا وأمنها.

واستطاع العثمانيون بهذا الفتح امتلاك موقع إستراتيجي جديد وحلقة وصل مهمة بين الشرق والغرب.

Memorial of Sultan Mehmed II the Conqueror, Fatih Park, Istanbul. Equestrian statue of Fatih Sultan Mehmet, turkish monuments of the history of Constantinople. Fatih Sultan Mehmet An?t?, Fatih An?t?; Shutterstock ID 713071972; purchase_order: ajnet; job: ; client: ; other:
نصب تذكاري للسلطان محمد الثاني الفاتح، في حديقة الفاتح بإسطنبول (شترستوك)

فتح شبه الجزيرة اليونانية

بعد تحصين القسطنطينية وترميم ما تهدم من أسوارها وإرساء قواعد الحكم والإدارة فيها، بدأ الفاتح بتجهيز جيوشه للانطلاق من جديد فقد كان عليه أن يقوم بإزالة آثار وبقايا الدولة البيزنطية في البلقان وشبه الجزيرة اليونانية عموما.

وكانت إمارة أثينا من أكبر الإمارات اليونانية وأكثرها فوضى، فأرسل السلطان عمر بن طرخان الذي استولى عليها وأعاد لها الأمان والنظام.

كما فُتحت بلاد مورة جنوب اليونان سنة 1458، وكذلك مدينة كورنثة وما جاورها من بلاد اليونان، وجزيرتا تاسوس وبروس وغيرهما من جزر بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط)، وما أن حل عام 1460 حتى كانت شبه جزيرة اليونان كلها تحت سيطرة العثمانيين.

الفتوحات في البلقان

ضمت منطقة البلقان كثيرا من الإمارات والدوقيات التي تقع تحت سيطرة أطراف متنازعة وكان يعمها الفوضى، مما خلّف عددا من الحروب والثورات والنزاعات الداخلية بين الإسبان والإيطاليين والفرنسيين، كما كثرت فيها حالات الهجرة وحلول جنسيات مكان أخرى، فظهر الألبانيون والأفلافيون في جاليات قوية واستقروا في معظم أجزاء البلقان.

وكان السلطان عقب فتح القسطنطينية قد أبرم صلحا مقابل الجزية مع أمير الصرب عام 1454، ولكن السلطان قرر إنهاء المعاهدة وإخضاع بلاد الصرب نهائيا وضمها إلى الدولة، فحمل عليها بجيشه عام 1455 ومر من جنوبها إلى شمالها، ولم يلق مقاومة حتى وصل مدينة بلغراد عاصمة الصرب، فأحكم عليها الحصار، ولكنه لم يتمكن من فتحها مما دفعه لرفع الحصار، وبعد بضع سنوات عاود الكرّة فأرسل الصدر الأعظم محمود باشا الذي فتحها بين عامي 1458 و1460.

ثم هاجم بلاد الأفلاق (رومانيا) وقد كان أميرها الملقب باسم "دراكولا" -أي الشيطان- قد ارتكب من الفظائع مع أهالي بلاده وتعدى على التجار العثمانيين ونقض عهده مع السلطان وامتنع عن دفع الجزية وتحالف مع المجر ضد العثمانيين وأغار على بلغاريا التابعة للدولة العثمانية. فقام محمد الثاني بفتح مدينة بوخارست عاصمة الأفلاق عام 1462، بعد أن هزم الأمير وفرّق جيوشه وأصبحت كامل بلاده تابعة للدولة العثمانية.

ولم تستطع البوسنة الصمود طويلا بعد سقوط الصرب، فقامت فيها عدة نزاعات على العرش ونشبت الحروب الأهلية وعمتها الفوضى، ولما رفض ملكها دفع الجزية للدولة العثمانية وقرر الفاتح الهجوم عليها عام 1463، فخرج على رأس جيشه وأخذهم على حين غرة واستطاع فتحها من دون مشقة، ثم سقطت الهرسك بعد ذلك مباشرة.

أما الألبان فقد انقسموا بعد سقوط الصرب إلى قبائل متنازعة، ثم انضموا تحت لواء الألباني جورج كاستريونس الذي كان قد أسلم وتسمى باسم إسكندر بك وخدم في الجيش العثماني ثم ارتد وهرب، واستطاع أن يلف حوله الزعماء الألبان وبدأ بحرب شرسة وكان قائدا صلبا استطاع أن يصمد أمام العثمانيين، وطال الصراع وتأخر فتح ألبانيا، وقد أدت وفاة إسكندر بك عام 1468 إلى ترك فراغ كبير، مما ساعد الفاتح على إخضاع كامل ألبانيا وضمها للدولة العثمانية.

الفتوحات في آسيا الصغرى

قضى السلطان بعد فتح اليونان على بقايا الإغريق في آسيا الصغرى فبعث إلى اسفنديار أمير مدينة سينوب يطلب منه تسليم بلده، فخضع الأمير له.

ثم قصد الفاتح بنفسه مدينة طرابزون ودخلها بدون مقاومة تذكر عام 1461، وبسقوطها تلاشت الدولة الإغريقية تماما من آسيا الصغرى وأصبحت الأناضول بالكامل تحت السيطرة العثمانية.

وبحلول عام 1471، عمل على ضم إمارة قرمان بدل الاكتفاء بدفع الجزية، وبهذا انتهى بقايا النظام السلجوقي القديم.

فتح جمهورية جنوة

ساءت العلاقات بين العثمانيين وجمهورية جنوة بعد فتح القسطنطينية على إثر طلب السلطان منهم دفع الجزية، لذلك أرسل لهم السلطان حملة إلى شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة للجمهورية، وتحديدا "كافا" التي كانت مدينة قوية وغنية، لكنها لم تستطع الوقوف أمام قوة السلطان فاستسلمت له بعد حصار لم يدم سوى بضعة أيام.

ثم تلا كافا سقوط المناطق التابعة لجمهورية جنوة، وأضحت شواطئ القرم تابعة للدولة العثمانية، وغدا بذلك للعثمانيين نفوذ تام على بحر مرمرة وبحر الأرخبيل والبحر الأسود.

فتح جمهورية البندقية

أغار السلطان على جمهورية البندقية عام 1477، ووصل إلى إقليم الفريول فخاف البنادقة وأبرموا معه صلحا ولكنه طلب منهم التخلي عن مدينة أشقودرة، فلما رفضوا حاصرها 6 أسابيع متتالية، ولم يقدر عليها فرفع الحصار وفتح ما كان حولها من المناطق والقلاع التابعة للبندقية حتى صارت أشقودرة منعزلة بشكل كليّ ولم تتمكن الإمدادات من الوصول إليها، مما أرغم البنادقة على إبرام صلح جديد والتنازل عن أشقودرة مقابل بعض الامتيازات التجارية وتمت المعاهدة في يناير/كانون الثاني 1479.

وعام 1480 اصطدم العثمانيون بقوات البندقية على سواحل بلاد الإغريق وجزر بحر الأرخبيل وحدثت مناوشات بينهما، مما دفع السلطان للاستيلاء على الجزر الأيونية، كما حاول فتح جزيرة رودس فحاصرها 3 أشهر ولكنه لم يستطع دخولها.

وفي الوقت ذاته، وجه السلطان حملة نحو تارنتو التي كانت مفتاح جنوب إيطاليا، ولم تستطع المدينة الصمود، فاستسلمت في أغسطس/آب 1480، وبهذا وضع الفاتح قدمه في إيطاليا وتمكن من ضم ميناء صالحة، ولكنه لم يستطع إتمام توغله في إيطاليا بسبب وفاته.

(Original Caption) Engraving of Mohammed II (1430-1481), called "The Conqueror" and "The Great." He was Sultan of Turkey from 1444-1446 and 1451-1481. The illustration depicts the sultan as an older man with a well-groomed beard, wearing a turban and holding both a sword and a scepter while seated. Undated illustration.
السلطان محمد الفاتح دام حكمه 30 عاما (غيتي)

 

الإنجازات المدنية والحضارية

كانت كفاءة السلطان في الأعمال المدنية والحضرية لا تقل عن مهارته في الشؤون الحربية، فقد اهتم بإصلاح النظام الداخلي وتطوير مناحي الحياة المختلفة وإرساء قواعد العدل والأمن في أرجاء دولته المترامية الأطراف، التي تضم عددا من الأعراق والأجناس واللغات والأديان.

وقد وضع محمد الثاني الدستور العثماني المسمى بـ"قانون نامه" وجعله أساسا لحكم دولته، وكان هذا القانون مكونا من 3 أبواب ويتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية ويقرر العقوبات والغرامات.

وعني الفاتح بالقضاء واهتم برجاله وتحديد وظائفهم ومناصبهم، واستحدث منصب شيخ الإسلام الذي يطلق على المفتي، فأصبح فيما بعد من أهم مناصب الدولة، واتخذ الكفاءة وحدها أساسا في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.

وحرص على إصلاح النظام المالي ووضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم مما كان يضيع على الدولة ثروات هائلة.

وفي مجال التعليم، بذل جهودا كبيرة فعمل على نشر العلم وإنشاء المدارس المعاهد وجعل التعليم في مدارس الدولة كافة مجانا، وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها وكانت المناهج تتضمن نظام التخصص، فكان هناك قسم للعلوم النقلية والنظرية وآخر للعلوم التطبيقية.

ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل، وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة ووضع لها نظام الامتحانات، وألحق بالمدارس مساكن ومطاعم خيرية ومكتبات، كما خُصصت للطلبة منح مالية شهرية.

كما قرّب إليه العلماء والشعراء والفلاسفة والفنانين ورفع قدرهم، وشجعهم على العمل والإنتاج ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا وشجع حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه، وأمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية.

واعتنى بالجانب العمراني فأكثر من إنشاء المباني والطرق والجسور وخص مدينة القسطنطينية بأعظم قسط من عنايته واهتمامه فبنى فيها المساجد والمعاهد العلمية والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات العامة والأسواق والحدائق وأدخل المياه عبر القناطر، وشجع على عمران المدينة حتى أصبحت 3 أضعاف ما كانت عليه أيام الحكم البيزنطي.

وكذلك دعم التجارة والصناعة، وعمل على إنعاشهما بجميع الأساليب والوسائل، وطوّر عددا من الصناعات كصناعة القطن والحرير والألبسة وكان للطرق والجسور التي قام بإنشائها دور مهم في تسهيل حركة التجارة في جميع أنحاء الدولة.

الوفاة

توفي الفاتح يوم الخميس الثالث من مايو/أيار 1481 جرّاء مرض النقرس الذي عانى منه لزمن طويل، وكان على رأس جيشه في الجانب الآسيوي من إسطنبول في طريقه لأحد الفتوحات التي لم يعلن عنها، ودفن في إسطنبول في المدفن المخصص له إلى جوار المسجد الذي بناه والمسمى باسمه.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية