توماس سانكارا.. "تشي غيفارا الأفريقي" الذي تحدى فرنسا وأيد القضية الفلسطينية

توماس سانكارا بدأ نشاطه السياسي في الأوساط اليسارية سرا عام 1974 (غيتي)

توماس سانكارا، قائد عسكري وزعيم سياسي أفريقي من بوركينا فاسو، حكم بلاده 4 سنوات وأجرى فيها تغييرات اقتصادية واجتماعية وأكسبها حضورا على المستوى الدولي في دعم قضايا التحرر. اغتيل عام 1987 في انقلاب عسكري أطاح بحكمه، وتحولت شخصيته إلى أيقونة لدى أجيال من الأفارقة، وبات يُعرف بـ "تشي غيفارا الأفريقي".

النشأة والتكوين

ولد توماس إيسيدور نويل سانكارا في 21 ديسمبر/كانون الأول 1949 في بلدة ياكو في بوركينا فاسو التي كانت تسمى حينها "فولتا العليا" في عائلة كاثوليكية من الطبقات الدنيا في المجتمع.

وكان والده من قومية الفلان وقد قاتل في الحرب العالمية الأولى، أما والدته فكانت من قومية موسي، وكان الثالث في الترتيب بين 11 من الإخوة والأخوات.

الدراسة والتكوين العلمي

بعد أن أكمل الدراسة الابتدائية والإعدادية في واغادوغو، التحق بالثانوية العسكرية التحضيرية في المدينة خلافا لطموحات عائلته التي كانت ترشحه ليتلقى تكوينا دينيا ليصبح كاهنا، وقد برز في هذه المرحلة بتفوقه الدراسي ومهاراته الرياضية العالية.

وسافر في العشرينيات من عمره في بعثات دراسية ضمن تكوينه العسكري إلى كل من مدغشقر والكاميرون، وعايش في مدغشقر أحداث ثورة للعمال والطلاب أطاحت بالحكومة.

وأوائل السبعينيات التحق بمركز تدريب المظليين في فرنسا، واستغل وجوده هناك لبدء اتصالات مع منظمات أفريقية وطلاب أفارقة ذوي توجهات ثورية ماركسية.

التجربة العسكرية والسياسية

ابتداء من عام 1974 بدأ سانكارا ينشط سرا في الأوساط اليسارية المعارضة بما في ذلك النقابات، بالتوازي مع الترقي تدريجيا في صفوف الجيش وتولي مسؤوليات عسكرية، حيث برز اسمه في مواجهة عسكرية قصيرة مع الجارة مالي بعد نزاع حدودي بين البلدين، وبدأ يكتسب صورة البطل القومي، ثم تولى عام 1976 قيادة المركز الوطني لتدريب المغاوير.

وأقام بين يناير/كانون الثاني ومايو/أيار 1978 في المغرب ضمن تكوين عسكري بمركز تكوين المظليين، وكان فيه إلى جانب رفيقه بليز كومباوري (الذي سينقلب عليه لاحقا) وقد أسسا إلى جانب ضباط آخرين "مجموعة الضباط الشيوعيين".

وكانت الأوضاع السياسية والاقتصادية في هذا البلد الفقير آخذة في التدهور مع إرساء نظام الحزب الواحد في البلاد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وانتشار الفساد والاضطراب السياسي والانقلابات.

وفي فبراير/شباط 1981 رُقي إلى رتبة نقيب وعُين قائدا لشعبة العمليات في قيادة الأركان، والعام نفسه دخل الحكومة كاتب دولة مكلفا بالاتصال، لكنه ما لبث أن استقال مع تصاعد الغضب من الطبيعة القمعية لنظام الرئيس سايي زربو، وألقي به مع بعض رفاقه في السجن.

وشهدت البلاد في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1982 انقلابا جديدا أطاح بالعقيد زربو ليترأس بعده جان باتيست ودراغو، وعُين سانكارا رئيسا للوزراء في يناير/كانون الثاني 1983.

ومكنه هذا المنصب من اكتساب علاقات دولية ضمن زعماء حركة عدم الانحياز، وكان له بشكل خاص اتصالات مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، لكن موقف سانكارا ضد الإمبريالية والدعم الشعبي الذي كان يحظى به وتأييده للقطيعة في العلاقة مع فرنسا (القوة الاستعمارية التي كانت تسيطر على البلاد) كلها عوامل أثارت خلافات مع الجبهة الأكثر محافظة من ضباط الجيش وعلى رأسها الرئيس ودراغو، وهكذا أقيل سانكارا واعتُقل من جديد.

رئيس بوركينا فاسو توماس سانكارا (يمين) ونظيره الفرنسي فرانسوا ميتران عام 1986 في واغادوغو (غيتي)

الثورة الوطنية

استمر الاضطراب في البلاد مع انقسام الجيش وشهدت حركات تمرد، وأسفرت الأوضاع في 4 أغسطس/آب 1983 عن إسقاط النظام ودخول قوات بليز كومباوري العاصمة واغادوغو على وقع مظاهرات جماهيرية مؤيدة للانقلاب، ونُصب سانكارا على رأس السلطة في البلاد.

وأعلن سانكارا الثورة مدعوما في ذلك برفاقه من الضباط ومجموعات يسارية، وأسس "المجلس الوطني الثوري" وباشر الحرب على الطبقات التقليدية النافذة فور وصوله إلى الحكم، وفي هذا الإطار أنشأ لجنة الدفاع عن الثورة التي أرادها بديلا عن الزعامات التقليدية، كما عهد إليها بمسؤوليات تتعلق بالأمن والعمل السياسي والإنتاج المحلي.

واتخذ نظام سانكارا عددا من الخطوات الرمزية أبرزها التخلي عن اسم البلاد "فولتا العليا" الموروث عن الاستعمار وتغيير اسم الدولة إلى "بوركينا فاسو" أي "أرض الأنقياء" باللغة المحلية، إضافة إلى تغيير العلم والنشيد الوطنيين.

وأمام اعتماد الاقتصاد في البلاد على الدعم الخارجي بشكل كبير، باشر إجراءات لترشيد الإنفاق ومحاربة الفساد وتشجيع الإنتاج المحلي، وألزم المسؤولين بارتداء الألبسة المحلية، وشملت الإجراءات تقليص امتيازات المسؤولين حتى إنه (كما يروي أحد وزرائه) أراد أن يكون لكل وزيرين سيارة واحدة قبل أن يتراجع في النهاية عن ذلك الإجراء.

سانكارا اغتيل على يد زميله بليز كومباوري الذي انقلب عليه وحكم البلاد بعده (غيتي)

في مواجهة "الإمبريالية"

على الصعيد الخارجي أكسب بلاده حضورا دوليا وبرز مؤيدا لقضايا الشعوب المظلومة والوحدة الإفريقية وتصفية الاستعمار. ولم يتردد في اتخاذ مواقف حادة جلبت له المتاعب والاتهام بـ"المثالية" وهكذا قاطعت بوركينا فاسو الألعاب الأولمبية في لوس أنجلوس عام 1984 احتجاجا على الدعم الأميركي للاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وكان في خطاباته مدافعا عن العالم الثالث منتقدا "الاستقلال الشكلي" الذي ابتكرته دول "العالم الآخر" لكي تضمن الاستلاب الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي في مستعمراتها، معتبرا إياه "خدعة تاريخية هائلة" ومعبرا عن رفضه أن تكون بلاده "ذيلا للغرب المتخم".

وجلب خطابه الجريء وسياساته الجذرية متاعب خارجية، فتدهورت العلاقات مع ساحل العاج، وتعطلت اتفاقيات التعاون مع فرنسا التي ظل ينتقد علنا نمط علاقاتها بمستعمراتها السابقة القائمة على استمرار التبعية والاستغلال.

وقاطع سانكارا القمة الفرنسية الأفريقية المنعقدة في بوغمبورا في ديسمبر/كانون الأول 1984، لكنه زار باريس في فبراير/شباط 1986 مشاركا في قمة البلدان الناطقة بالفرنسية في فرساي والتقى الرئيس فرانسوا ميتران، ومع ذلك استمرت خلافاته مع باريس وازدادت عمقا.

رئيس بوركينا فاسو سانكارا في جنازة الرئيس الموزمبيقي سامورا ماشيل (غيتي)

وفي ديسمبر/كانون الأول 1986 أثار غضبا شديدا في باريس بتأييد قرار الجمعية العامة رقم "41/41" المتضمن حق كاليدونيا الجديدة (أحد أقاليم ما وراء البحار الفرنسية) في تقرير المصير، وردت فرنسا بإجراءات اقتصادية على الخطوة التي وصفها جاك شيراك، رئيس الوزراء حينها، في رسالة إلى وزير التعاون الفرنسي قائلا "لقد طفح الكيل".

ومقابل تدهور العلاقات مع فرنسا والأنظمة الموالية لها، حرص سانكارا على توطيد العلاقات مع البلدان الماركسية مثل كوبا وأنغولا ونيكاراغوا، كما كانت له علاقة مميزة بنظام العقيد معمر القذافي في ليبيا زادت انزعاج الفرنسيين الذين كانوا يدعمون تشاد في حربها مع ليبيا ويرون في النظام الليبي عامل اضطراب في منطقة نفوذهم.

ومثلت مشكلة الديون على البلدان الفقيرة واحدا من أهم مضامين خطابه، وقد دعا صراحة الدول الفقيرة إلى التخلف جماعيا عن سداد الديون قائلا لنظرائه الأفارقة "إذا امتنعت بوركينا فاسو وحدها فلن أكون معكم في القمة القادمة" في إشارة إلى احتمال الإطاحة به.

وكان سانكارا دائم الانتقاد لأدوار البنك وصندوق النقد الدوليين والتبعية الاقتصادية التي تعاني منها البلدان الفقيرة، والتي كان يراها أحد وجوه "الإمبريالية" قائلا "يسألني البعض أين هي الإمبريالية؟ انظروا في صحونكم.. لا داعي للذهاب بعيدا".

الخلافات الداخلية

تميز عام 1987 (آخر أعوام حكمه) باضطرابات وشكوك في محاولات انقلاب وخلافات داخلية عصفت بالجيش الذي يمثل عصب النظام، وواجه اتهامات من بعض رفاقه باتباع سياسات مرتجلة واتخاذ قرارات دون النظر في العواقب، وعلى وقع تلك الخلافات بدأ الدعم الشعبي لحكومته يتراجع تدريجيا وتزايدت الأزمات الداخلية.

ورغم عدد من الخطوات المهمة التي اتخذها، ولاسيما على مستوى التعليم وتمكين المرأة، فقد تزايدت الأصوات المعارضة له، مع نفور الأوساط التقليدية من بعض سياساته الاجتماعية التي اعتُبرت تقدمية، إضافة إلى المشكلات الاقتصادية الهيكلية في بلد فقير وسياق مضطرب.

وألغى سانكارا في عامه الأخير زيارات خارجية وحاول التركيز على إعادة بناء النظام من خلال إنشاء هيئات جديدة، لكن هذه الإجراءات عمقت الأزمة وأبعدت الشق بينه وبين خصومه في الجيش.

وتلقت الحكومة تقارير عن تحضير رفيقه بليز كومباوري لانقلاب عليه "وكانت المؤامرة على كل لسان ولكنه لم يكن يريد حتى الاستماع لذلك، رغم تقارير المخابرات والشرطة والجيش" كما يقول إرنست ودراغو أحد مساعديه.

سانكارا قام بالعديد من التغييرات لدحض آثار الاستعمار في بلاده أحدها تغيير اسمها من "فولتا العليا" إلى "بوركينا فاسو" (غيتي)

أبرز الإنجازات

تمكن سانكارا من تنفيذ برامج صحية واجتماعية وتعليمية أسهمت في خفض كبير في وفيات الأطفال عبر حملات تطعيم واسعة، وفي رفع نسبة النفاذ إلى التعليم وتقليص نسبة الأمية في البلاد، كما زاد حضور النساء في المناصب الرسمية. ودشن مشروعا لمكافحة التصحر مكن من غرس 10 ملايين شجرة وإصلاح زراعي انتزع الأراضي من الملاك الإقطاعيين وأعاد توزيعها على السكان.

وتمكنت حكومته من بناء عدد كبير من المدارس الجديدة في إطار إصلاح سعى إلى صياغة تعليم يدعم الإنتاج ويتجنب سلبيات التعليم الموروث عن الاستعمار، إضافة إلى تشييد مشروعات طرق ومستشفيات ونقاط مياه دون دعم خارجي، وزيادة إنتاج البلاد من الحبوب بـ 75%.

وظلت الجوانب الرمزية عاملا حاسما جعله واحدا من أبرز القادة السياسيين في أفريقيا بعد الاستقلال، حيث كان أسلوبه الشخصي البسيط، وخطابه الحماسي الصريح والقريب من الناس، وملابسات اغتياله العنيفة عوامل حولته إلى أيقونة للشباب في بلاده وأفريقيا بشكل عام، مع ما تتضمنه الصورة التي رُسمت له من مثالية.

الاغتيال

قُتل سانكارا مع 12 من مساعديه بالرصاص في العاصمة واغادوغو بينما كان بصدد اجتماع رسمي في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1987، وأعلنت السلطات وفاته في ظروف طبيعية وتكتمت على ظروف مقتله.

وقد أسفرت أشهر من الاضطراب في البلاد عن اغتياله، وتولى الحكم بعده بليز كومباوري الذي حكم البلاد طوال 27 عاما إلى أن أطيح به بعد هبة شعبية في أكتوبر/تشرين الأول 2014.

ووُجهت أصابع الاتهام -في دعم الانقلاب عليه واغتياله- إلى فرنسا وشبكات نفوذها في مستعمراتها السابقة رغم نفيها الرسمي، ووعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2017 برفع السرية عن وثائق متعلقة بالحادثة، لكن بعض الوثائق الأرشيفية التي سلمتها باريس إلى القضاء في بوركينا فاسو لم تتضمن معلومات جديدة.

وبعد سقوط نظام الرئيس كومباوري أعيد فتح الملف، وفي أبريل/نيسان 2021 أدين كل من كومباوري والضابطين المقربين منه جلبير ديندريه وهياسينتو كافاندو بالسجن المؤبد بتهمة المسؤولية عن الاغتيال.

المصدر : مواقع إلكترونية