تاريخ ظهور العلمانية.. "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّ"
عرفت كل الثقافات والحضارات على مر التاريخ تفاعلا وتعارضا بين المفاهيم البشرية النسبية والمفاهيم الدينية المطلقة والمقدسة، ونتيجة لهذا التفاعل ظهرت عدة مفاهيم وتوجهات، ومن بينها مفهوم "العلمانية".
ولفظة العلمانية هي ترجمة غير دقيقة للفظة الإنجليزية (secularism) واللفظة الفرنسية (sécularisme) وكذلك لفظتي (laicism) الإنجليزية و(laïcisme) الفرنسية، وكلتاهما مشتقة من الكلمة اللاتينية (laicus) التي تعني "الشخص العادي"، وهي بدورها مأخوذة عن اللفظ اليوناني ”laós – λαός” ومعناه "الشعب".
غير أن الاستعمال اللاتيني لهذه اللفظة قد تخصص في قسم من "الشعب"، وذلك في مقابل "الكاهن" (clerc)، وهو رجل المعرفة "العالِم" (عوضا عن معنى اللفظ اليوناني "clêros" بمعنى الحظ الموروث)، والمقصود رجل الدين (المسيحي) المنتظم في سلك الكهنوت الكنسي.
فصل الدين عن الدولة
والعلمانية تعني في جانبها السياسي اللادينية في الحكم وفصل الدين عن الدولة، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة "العلم" (SCIENCE) التي اشتُقَّت منها، ومعناها الأقرب إلى الصحة هو "الدنيوية" و"اللادينية"، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل، وحساب المصلحة بعيدا عن الدين.
ويبدو أن الأوائل الذين أدخلوا هذا المفهوم إلى اللغة العربية بدا لهم المصطلح صادما بحمولته هذه التي تلغي الدين من حياة الناس؛ فاختاروا ترجمة تقترب من العِلم وتُيسر انسيابية المفهوم إلى داخل المجتمعات المسلمة.
فمدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع، وإبقاءه حبيسا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه؛ فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسيم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما فقط.
ويستخدم في الفضاء الفرنكفوني مصطلح آخر؛ هو اللائيكية (Laïcité). وهو يحمل في طياته معنى خاصا مرتبطا بفرنسا تحديدا. وقد عرَّفَ المفكر الفرنسي "موريس باربييه" (Maurice Barbier) اللائكية في مفهومها الواسع بأنها "الفصل بين الدين والحقائق الدنيوية" (les réalités profanes).
استقلال عن اللاهوت
فهي تَفترض أن هذه الحقائق لا تخضع للدين ولا لتأثيره، سواء كان المقصود بالدين إيمانا أو جمعية أو سلطة دينية. وهكذا، نرى أن الفلسفة في الغرب استقلت عن اللاهوت، وأن مختلف العلوم تكونت خارج إطار المسيحية، بل ضدها في بعض الأحيان، وأن كل الحقائق الإنسانية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية وغير ذلك، قد استقلت عن الدين.
ولهذا السبب يمكن أن نصف مجتمعا ما أو فكرا ما باللائكية، إذا تخلص تماما من أي أثر ديني، ولم يطع إلا المبادئ الصرفة ضمن النظام العقلاني أو الطبيعي. وعليه يمكن تعريف العلمانية بأنها حركة اجتماعية تشكل اتجاها في الحياة يقوم على مبدأ استبعاد الاعتبارات الدينية من السياسة وتنمية النزعة الإنسانية وتأسيس نظام قِيَمي وسلوكي بعيدا عن الدين.
ويمكن أيضا القول إن اللائكية في الأصل لم تكن تعني اللادينية وإنما كانت تعني عدم الانتظام في سلك الكهنوت الكنسي. وإذا قلنا إن رجال الكنيسة -وقد كانوا أكثرية في القرون الوسطى- هم "الخاصة" فإن اللائكيين كانوا هم "العامة"ً.
النشأة والتأسيس
هناك من يرجع البدايات الأولى لظهور أفكار سوف تؤدي فيما بعد إلى العلمانية التي استقر عليها الأمر في الأخير؛ إلى بدايات احتكاك المسيحيين بالمسلمين في الأندلس. وذلك عندما لاحظوا أن المسلمين ليس بينهم وبين ربهم واسطة؛ على عكس حالهم مع رهبانهم الذين يتوسطون بينهم وبين الله بمقابل؛ ويفرضون عليهم الإتاوات ويبيعونهم صكوك الغفران، ويتواطؤون عليهم مع ملوكهم الخاضعين بأنفسهم لسطوة الكنيسة.
فأخذ الكثير من المسيحيين يتحركون مطالبين بنفس ما يتميز به المسلمون من إمكانية التواصل مباشرة مع الله دون وسيط. وتطور الأمر على مدى السنين إلى أن وصل إلى شعار رفعته الثورة الفرنسية "اِشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّ".
تطور مفهوم اللائكية الفرنسية
ظهر استعمال اللائكية في أوروبا وشاع في القرون الوسطى عندما أضفت الكنيسة على نفسها صبغة القداسة، فالأفراد الذين يطلق عليهم لفظ لائكي (laic) كانوا يعتبرون مسيحيين بالتمام والكمال، أي أنهم أعضاء كاملو العضوية في "شعب الله"، يؤمنون بالمسيح وهم أتباع خُلَّص له، إلا أنهم ليسوا أعضاء في التنظيم الكهنوتي الذي تتشكل منه الإمبراطورية البابوية.
وأما اللائكية الفرنسية فليست مجرد آلية لمعالجة قضية الانقسام الديني أو الطائفي، بل هي أشبه ما تكون بالعقيدة الشمولية والصارمة التي تراهن على الحلول محل الأديان والعقائد بعد امتصاص الكثير من مظاهرها وتعبيراتها في قالب علماني. ودليل ذلك ما تحاط به اللائكية الفرنسية من تقديس ومحرمات، ما يجعل المرء عرضة للتجريح والإدانة بمجرد الاعتراض على بعض التصورات اللائكية.
تعمل اللائكية الفرنسية عبر ذراعين متكاملين ومتعاضدين: أولا؛ عبر آلية الرقابة والضبط العقابي للدولة، أي الجمهورية اللائكية التي تقوم على حراسة قيم الدولة والمجتمع وضبط المباح والممنوع من منظورها. وثانيا؛ عبر أدوات التوجيه الثقافي والأيديولوجي التي تتم بمقتضاها صياغة الشخصية الفردية، وزرع القيم العلمانية في الفضاء العام، وعلى رأسه المؤسسات التعليمية والمناهج التربوية والدراسية.
فاللائكية الفرنسية لا تكتفي بتحرير السياسي من سيطرة الكنيسة، وإنما تراهن على مقارعة الدين عامة وطرده من الفضاء العام لتحل محله القيم اللائكية، ولتحل المدرسة بدورها محل الكنيسة في إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي.
وهكذا فاللائكية الفرنسية تقوم على دعامة نظرية مفادها اعتبار الدولة اللائكية ضامنة للوحدة الاجتماعية والسياسية، وحارسة للهوية العامة، ومنحها القدرة على تجاوز الانقسامات الاجتماعية والقيمية التي تنخر الجسم السياسي. وهذا كله يجعل من اللائكية عمليا "دينا رسميا للدولة"؛ وإن ادعت أنها تفصل الدين عن السياسة.
مواجهة تغول الكنيسة
وأما العلمانية بمفهومها الحالي المنتشر على أنه معاكس للدين فقد نشأت في عصر التنوير والنهضة الأوروبية لمواجهة الكنيسة ومعارضة وقوفها في وجه التطور العلمي وسيطرتها على المجتمع ومؤسساته، وذلك بسبب مبالغة رجال الكنيسة في طغيانهم الذي تجاوز كل الحدود.
إذ تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار "الإكليروس" و"الرهبانية" و"العشاء الرباني" وبيع "صكوك الغفران"، وكذلك بسبب وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهامها العلماء بالهرطقة.
ومن بين الأمثلة على ذلك ما تعرض له العالم والفيلسوف والفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، الذي نشر سنة 1543م كتابا عن حركات الأجرام السماوية فمنعته الكنيسة، وتبنى أفكارا مماثلة بعده الفلكي والعالم الإيطالي غاليليو غاليلي وطوّرها إلى أن قال بأن الأرض كروية الشكل، فهاجمته الكنيسة وحاكمته ومنعت كتاباته.
وقد كان الانتشار الفعلي للدعوة العلمانية في أوروبا مع الثورة الفرنسية، ثم عمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي. وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة الفرنسية سنة 1789 وبعدها إلى الانتشار الواسع لمفهوم العلمانية وتبلور منهجها وأفكارها. ونتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م.
علاقة الثورة الفرنسية بالعلمانية
نتيجة للصراع بين الكنيسة من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م، وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب. وهناك من يرى أن الماسونيين استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم.
وقد كان الكونت "ميرابو" -الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية- خطيبا مفوها جعل الجموع الغوغائية تسير مستلبة مذهولة لهدم سجن الباستيل في باريس وشعارها "الخبز"، ثم سرعان ما تمكن الموجهون من تحويل شعار الثورة إلى "الحرية والمساواة والإخاء"، كما رُفع شعار و"لتسقط الرجعية"، وهي كلمة للتورية تعني في عمقها الدين، وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية، وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.
أهم منظِّري العلمانية وأهم مدارسها
الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا: وهو يهودي، ويعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجا للحياة والسلوك، وله رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو صاحب مدرسة النقد التاريخي، وقد توفي بمرض صدري يرجح أنه السل.
العالم والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: الذي أصدر سنة 1778 كتاب "العقد الاجتماعي"، الذي يعد "إنجيل" الثورة الفرنسية.
الفيلسوف الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو": وخاصة في كتابه "روح القوانين"، وهو صاحب نظرية الفصل بين السلطات، التي أصبحت أحد المبادئ الأساسية في الممارسات السياسية.
الأديب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه فولتير: صاحب مفهوم "القانون الطبيعي"، كما أنه من الجيل المعروف بـ"فلاسفة الأنوار"، ومن بين ما ألف وكتب فيه علاقة الدين بالعقل، وحدود التداخل بينهما.
الفيلسوف والمفكر الألماني فريدريك نيتشه: والذي بنى فلسفته التي تزعم بأن "الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله".
الفيلسوف والمفكر الألماني كارل ماركس: وهو يهودي عرف بنظريته عن التفسير المادي للتاريخ، واشتهر بعبارته "الدين أفيون الشعوب"، ويعد أكبر داعية إلى الشيوعية ومؤسسها الأول.
الفيلسوف والمفكر الفرنسي جان بول سارتر: وهو الذي صاغ نظرية "الوجودية"، وحقق نجاحا مبهرا وشهرة كبيرة بوصفه زعيما للحركة الوجودية.
أهم النظريات المؤثرة في العلمانية
نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع لـ"تشارلز دارون" سنة 1859، وركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعل الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، واعتبر أن القرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد.
نظرية الإنسان الإله: وذلك بظهور نيتشه وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.
نظرية الإنسان الحيوان: التي صاغها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم، وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، وقد جمع في نظريته بين حيوانية الإنسان وماديته ونظرية العقل الجمعي.
نظرية الإنسان-الحيوان الجنسي: التي اعتمدها الطبيب والمفكر النمساوي سيغموند فرويد، وهو يهودي، ويعتبر الدافع الجنسي مفسرا لكل الظواهر؛ ويرى أن الإنسان "حيوان جنسي".
النظرية الماركسية: التي صاغها الفيلسوف الألماني كارل ماركس وبناها على سماه "التفسير المادي للتاريخ"؛ والذي يؤمن بالتطور الحتمي.
النظرية الوجودية: لصاحبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، والتي بثها في كتبه التنظيرية، وخصوصا في كتابيه "الوجود والعدم (1943)" و"الوجودية مذهب إنساني (1946)".
مفهوم العلمانية خارج السياق الفرنسي
في التقليد الأنجلوسكسوني، لا نجد مصطلح "لائكية"، بل على عكس المسار الفرنسي، نجد كلمة علمنة (secularisation) وكلمة علمانية (secularism) وكذلك كلمة علماني (secularist)، وذلك لأن المسار التاريخي الإنجليزي لم يكن مسارا صداميا يفرض القطع الجذري مع الدين كما كان الحال في فرنسا.
فلم تشهد بريطانيا ذلك الجدل الفرنسي بين اللائكيين، خاصة من المفكرين ومن رجال التعليم، وبين رجال الدين؛ بل كانت العلمنة كمسار تطوري هي العامل الحاسم؛ خاصة وقد تمثلت في موقف سياسي ونظرة فكرية للواقع. نفس هذا التطور شهدته اليابان حيث تعد العلمانية موقفا سياسيا وفكريا.
يعرف قاموس أكسفورد (Oxford) العلمانية بأنها: "العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة (الدنيا)، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى (الآخرة)".
أما العلمانية في الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا، فكانت تفهم كحركة تصبو إلى حماية المجتمع المدني من تدخل الدولة في مجاله.
تاريخ بداية ظهور الأفكار العلمانية ببعض دول العالم العربي والإسلامي
مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابارت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه (الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها) بعبارات تدور حول معنى العلمانية، وإن لم يذكر اللفظة صراحة.
أما أول من استخدم هذا المصطلح (العلمانية) فهو نصراني يدعى إلياس بقطر، في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان مفتونا بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.
الهند: حتى سنة 1791 كانت الأحكام في الهند وفق الشريعة الإسلامية (فالإسلام حكم الهند وظل دين دولتها الرسمي 8 قرون، إلى أن ألغاه الاستعمار الإنجليزي بالهندوسية والبوذية وغيرها من الديانات الوثنية)، ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز، وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر.
الجزائر: تم إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.
تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.
المغرب: أدخل القانون الفرنسي في البلاد سنة 1913 واستمر العمل بازدواجية المحاكم؛ إسلامية ووضعية مع التدرج في إلغاء الشريعة وتعويضها بالقوانين الوضعية الفرنسية.
تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.
العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية، وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.