الخميس الأسود بتونس.. مأساة تأبى النسيان

الموسوعة - حشد من المتظاهرين أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل اثناء احداث 26 جانفي 1978 copy.jpg
متظاهرون أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل خلال أحداث الخميس الأسود (الصحافة التونسية)

"الخميس الأسود" أحداث دامية شهدت إطلاق قوات الجيش والأمن في تونس النار على آلاف النقابيين المحتجين على تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية؛ مما أدى إلى مقتل وإصابة المئات منهم، واعتقال وتعذيب مئات آخرين.

ويرى مؤرخون أن هذه الأحداث كانت نقطة فاصلة في تاريخ البلاد الحديث، باعتبارها أول انفجار شعبي قوبل بأول نزول للجيش التونسي إلى الشوارع لمواجهته.

جذور الأزمة
تعود جذور الأزمة إلى رفض الاتحاد العام التونسي للشغل سياسة نظام الرئيس الحبيب بورقيبة ووزيره الأول الهادي نويرة للانفتاح الاقتصادي وتكريس الرأسمالية مما ساهم في "تعمق الفوارق الاجتماعية".

وبحسب المؤرخ التونسي عبد اللطيف الحناشي، فقد تأزمت الأوضاع أكثر نتيجة الصراع القائم حينها بين اتحاد الشغل ونظام حكم بورقيبة خاصة مع انخراط الآلاف من المعلمين الابتدائيين والثانويين، وبروز نقابات للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي -أغلبهم من اليسار- مما ضخ دماء جديدة في اتحاد الشغل الذي أصبح يطالب بالحرية والحقوق العمالية.

وتزامن ذلك مع بروز صراعات داخل أجنحة السلطة لخلافة الحبيب بورقيبة، ودخول الحبيب عاشور أمين عام اتحاد الشغل بوصفه شخصية وطنية كطرف في ذلك الصراع؛ مما جعل علاقة اتحاد الشغل تتأزم مع بورقيبة، بحسب تصريح الحناشي.

ومن أهم الأحداث التي وترت علاقة اتحاد الشغل بالحزب الدستوري الحاكم، قمع بعض الإضرابات العمالية في مدينة قصر هلال (جنوب) ذات البعد الرمزي للبورقيبيين بوصفها كانت مساندة له.

اندلاع الشرارة
في يوم الخميس 26 يناير/كانون الثاني عام 1978 خرج آلاف النقابيين التونسيين من مختلف القطاعات في مسيرات احتجاج على الأوضاع المتردية، سبقها وصاحبها إضراب عام دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يطالب ببسط الحريات والحقوق العمالية، ويرفض توجهات نظام الرئيس الحبيب بورقيبة السياسية والاقتصادية، والقاضية بالانفتاح الاقتصادي.

وفرضت قوات الجيش والأمن -مجهزة بآلياتها الثقيلة- حصارا أمنيا وعسكريا على مناطق الاحتجاج وطوقت الشوارع ومقرات اتحاد الشغل. ثم فتحت نيرانها -بأمر كتابي من رئيس الجمهورية، حسبما صرح به مدير الأمن والمخابرات التونسي الأسبق أحمد بنّور لقناة الجزيرة– على المحتجين، فكانت حصيلة ذلك "الخميس الأسود" سقوط ما بين 250-500 ضحية بين قتيل وجريح، على تفاوت في التقديرات تبعا لمصدرها.

سقطت البلاد في حالة من الفوضى والارتباك، وبدت تونس العاصمة وبقية المدن من الشمال إلى الجنوب وكأنها ساحة حرب حقيقية تعمها الحرائق والدماء ومسيرات تشييع الجنائز. وهو مشهد لم يعرفه ذلك الجيل الذي ولد أبناؤه في أحضان دولة الاستقلال، وكانوا يحلمون بالتغيير فإذا بهم يسقطون ضحايا رصاص السلطة.

ألقي القبض على قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل برئاسة الحبيب عاشورالذي كانت علاقته سيئة برئيس الوزراء آنذاك الهادي نويرة وتعرض بسبب مواقفه لتهديدات بالقتل؛ فأدخِلوا السجون حيث خضعوا لـ"تعذيب وحشي"، وحوكموا أمام محكمة أمن الدولة بتهم التخريب والقتل، فقضت عليهم بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة.

انتهت المعركة في مساء نفس اليوم لصالح الحزب الحاكم والجيش والأجهزة الأمنية، أما الخاسرون فقد كان في مقدمتهم رئيس الجمهورية الذي تشوهت صورته كزعيم كبير للبلاد، وكذلك النقابات وجماهير الشعب الغاضبة. وعينت الحكومة قيادة جديدة للاتحاد أسندت منصب الأمين العام فيها إلى عضو مكتبه التنفيذي السابق التيجاني عبيد، نظرا لدوره المناهض للإضراب العام والاحتجاجات.

وُجهت أصابع الاتهام بالمسؤولية عن إطلاق النار على المحتجين إلى مجموعة من النافذين في الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، قيل إنها شجعت رئيس الوزراء نويرة على قطع العلاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل.

ومن بين هذه المجموعة وزير الدفاع عبد الله فرحات، ووزير الداخلية الضاوي حنابلية، وزين العابدين بن علي الذي كان يتولى آنذاك منصب مدير الأمن العام. ومدير الحزب الحاكم محمد الصياح (كان أيضا وزيرا معتمدا لدى رئيس الوزراء) الذي يُتهم بأنه استعمل مليشيا مسلحة تابعة للحزب الحاكم لقمع معارضيه.

شهادات الناجين
في 26 يناير/كانون الثاني 2017؛ اختارت هيئة الحقيقة والكرامة -المشرفة على مسار العدالة الانتقالية في تونس بمقتضى "قانون العدالة الانتقالية"- مناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لأحداث "الخميس الأسود" لعقد جلسة استماع إلى نقابيين من اتحاد الشغل عاشوا تلك الأحداث وناجين من هولها، فأماطت بشهاداتهم اللثام عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام بورقيبة بحق النقابيين جراء وحشية المعالجة الأمنية لمطالبهم.

ومن بين الضحايا الذين أدلوا بشهاداتهم النقابي السابق محمد شقرون (73 عاما) الذي التحق بالعمل النقابي عام 1971 عندما كان يشتغل في معمل للمسابك بالعاصمة، لكن نشاطه مع اتحاد الشغل كلفه ثمنا باهظا، إذ تعرض للاعتقال أمام زوجته وأطفاله بعد مداهمة منزله.

وأضاف شقرون أنه اقتيد إلى جهاز أمن الدولة حيث خضع للتعذيب الوحشي بشتى أنواع التنكيل من تعليق بالسلاسل وضرب بالهري وصعق بالكهرباء، إضافة إلى أنواع أخرى من الإهانة رفض الإفصاح عنها لبشاعتها.

كما تحدث في الجلسة المصور الفوتوغرافي السابق زهير بلخيرية (61 عاما) -الذي كان حينها شابا يصور المظاهرات التي دعا إليها اتحاد الشغل في مدينة سوسة وأنشطة الإضراب العام- عن حالة القمع والاستبداد التي كان يعيش تحتها التونسيون في فترة حكم بورقيبة؛ وقال إنه اعتقِل وتعرض "لأنواع التعذيب والإهانة والتهديد بالقتل وتلفيق التهم الكيدية".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية