السياسة الصناعية
جملة التدابير والإجراءات التي تتخذها الحكومات لتشجيع الأنشطة الإنتاجية الصناعية داخل البلد، وإحلال المنتجات المصنَّعة محليا مكان تلك المستوردة من الخارج (سياسة إحلال الواردات)، أو حماية الصناعات الناشئة من المنافسة الأجنبية، أو توجيه الاستثمارات إلى قطاعات معينة نظرا لأهميتها الإستراتيجية أو لعوائدها المرتفعة، أو لأي اعتبار آخر تراه الحكومة.
وتتراوح الأدوات التي تتخذها الحكومات لتحقيق أهداف سياستها الصناعية بين فرض الرسوم الجمركية المرتفعة و/أو وضع القيود غير الضريبية (معايير تقنية أو صحية مثلا) على بعض الواردات للحد منها، وتقديم الدعم والمساعدات المالية للمقاولات الصناعية، وتوفير الطاقة والسلع الأولية لها بأسعار تفضيلية.
كما تعمل الحكومات على تدريب العمالة المحلية وتأهيلها، وتشجيع البحث العلمي والابتكار في الجامعات والمعاهد، وعقد شراكات مع حكومات أو شركات أجنبية لاستقدام التكنولوجيات الحديثة… إلخ.
لمحة تاريخية
ارتبطت السياسة الصناعية تاريخيا في الغرب برغبة الحكومات في حماية الصناعات الوطنية الناشئة من المنتجات القادمة من الخارج، والتي كانت في معظم الأوقات أكثر تنافسية بسبب أسبقيتها في التمرس واكتساب التجربة في المجال الصناعي، ودورهما في خفض التكاليف والتأهل للمنافسة.
وفي هذا السياق، يؤكد المؤرخ الاقتصادي بول بيروك -في كتابه المعنون "أساطير وتناقضات التاريخ الاقتصادي"- أن البلدان الغربية (خاصة أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك اليابان) طورت صناعاتها في ظل السياسة الحمائية، وليس في كنف التجارة الحرة على عكس ما هو شائع.
أما البلدان النامية فقد حرصت بدورها ومنذ استقلالها على تشجيع التصنيع، وآمنت به كأقصر الطرق نحو تحقيق التنمية الاقتصادية والالتحاق بالغرب.
وعملت الحكومات في هذه البلدان على تبني سياسات لإحلال الواردات، وذلك بإنشاء صناعات محلية تقوم بإنتاج السلع التي كانت تستورد في السابق، وإقامة حواجز جمركية أمام السلع المستوردة لجعل السلع المحلية أكثر تنافسية.
زمن العولمة
أدت أزمة الدين التي عرفتها أغلبية البلدان النامية في ثمانينيات القرن العشرين إلى إنهاء حلم التصنيع عبر سياسات إحلال الواردات.
واضطرت هذه البلدان -مرغمة تحت إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي– إلى انتهاج سياسات انفتاح اقتصادي تنسجم مع مقتضيات الاتفاقية العامة الخاصة بالتعرفات الجمركية والتجارة (اتفاقية الغات)، ومع الدينامية الجديدة التي قادت إلى عولمة الاقتصاد.
وانعكس هذا التوجه الجديد على أرض الواقع في خفض جذري للرسوم الجمركية، وإلغاءٍ لجميع الحواجز والقيود التي كانت تحد من قدرة السلع الأجنبية على الولوج إلى الأسواق الداخلية.
كما تم إلغاء كثير من أشكال الدعم المقدم للصناعات المحلية سابقا لخرقها لمبدأيْ المنافسة الحرة والمعاملة الوطنية (عدم التمييز بين المنتجات الوطنية والأجنبية) اللذين أقرتهما "اتفاقية الغات".
وفي هذا السياق، أصبح تنفيذ سياسات التصنيع بإحلال الواردات أمرا محفوفا بالصعوبات بسبب اشتداد المنافسة الأجنبية، وعدم قدرة الصناعات المحلية على الصمود أمام منافسة الشركات العالمية، نظرا لكونها أكثر خبرة وأرسخ قدما في مجالها.
كما أن حجم هذه الشركات العملاقة -التي تسوق منتجاتها في العالم- يسمح لها بالاقتصاد في تكاليفها (وُفورات الحجم) والبيع بأسعار تنافسية.
وأمام هذه التحديات، لم تجد البلدان النامية بدًّا من التنافس في استقطاب الاستثمارات الأجنبية لتكوين قاعدة صناعية محلية تستغل إمكانات السوق الداخلية، ولكن تبقى في الوقت ذاته موجهة نحو التصدير إلى الخارج.
وقد شجعت المؤسسات المالية الدولية -علاوة على الحكومات الغربية- هذا التوجه، ولا تنفك تدعو إلى المضي في هذا الطريق الذي يضمن -وفقا لزعمها- النمو الاقتصادي للجميع عبر الصادرات.
وتعد كوريا الجنوبية والصين من النماذج التي تكللت مساعيها في هذا المجال بالنجاح، نظرا لتوفرها على يد عاملة ماهرة وغير مكلِّفة (مقارنة بالبلدان الغربية)، بالإضافة إلى انتهاجها لسياسات حكومية محفزة للاستثمار، تمثلت في مشاريع البنى التحتية وتجهيز المناطق الصناعية وتشجيع البحث العلمي والابتكار.
لكن المتخصصين في الاقتصاد السياسي الدولي يرون أن الاعتبارات السياسية أيضا لعبت دورا مهما في هذه النجاحات، بفضل الدعم الأميركي الذي وجه الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى هذه البلدان وأعانها تكنولوجياً، في إطار تحالفات الولايات المتحدة الرامية إلى حفظ مصالحها الإستراتيجية في العالم.
وأمام حالات النجاح المعدودة والمتفاوتة في العالم، لا تزال الغالبية العظمى من البلدان النامية خارج سلسلة القيمة الصناعية بالرغم من انفتاحها، وتكتفي بتصدير مواردها الطبيعية في حالتها الخامية دون أي تثمين، أو بالتخصص في الأنشطة الزراعية أو الخدمية كقطاع السياحة.
ونادرا ما توفق هذه البلدان في جلب استثمارات صناعية إلا ما كان من بعض الصناعات التحويلية الخفيفة، مثل بعض الصناعات الغذائية أو المنسوجات.