السودان.. ارتفاع جنوني في أسعار الأدوية واختفاء أصناف منقذة للحياة

جهات سودانية تعكف حاليا على حزمة معالجات لتخفيف آثار تحرير سعر الصرف على قطاع الدواء (غيتي)

يرسم صيادلة ومختصون في الملف الصحي بالسودان صورة قاتمة للأوضاع خلال الأسابيع المقبلة مع الارتفاع الجنوني في أسعار الأدوية وانعدامها في أوقات غلائها.

وقال مسؤول حكومي رفيع للجزيرة نت إن الجهات ذات الصلة تعكف حاليا على حزمة معالجات لتخفيف آثار تحرير سعر الصرف على قطاع الدواء، وإن الإعلان عن هذه الخطوات سيتم خلال الـ48 ساعة المقبلة عبر مؤتمر صحفي.

وتقول سيدة خمسينية للجزيرة نت إنها تبحث منذ أيام عمن يعينها في الحصول على نحو 150 ألف جنيه (380 دولارا) هي كلفة جلسة علاج واحدة لابنتها، التي تعاني من السرطان بعد أن أعياهم الانتظار في المستشفى الحكومي الخاص بمعالجة الحالات الشبيهة مجانا.

وبلغت كلفة بعض حالات السرطان نحو 380 ألف جنيه (ألف دولار) كما يقول مرافق لمريض في مستشفى الأورام "الذرة" للجزيرة نت، مؤكدا أنهم باتوا عاجزين عن توفير هذا المبلغ بعدما كانت المستشفى توفر الدواء بالمجان في كثير من الأحيان، أو تطلب مبلغا رمزيا مقابله؛ لكن بعد قرار الحكومة بخفض قيمة العملة الوطنية ارتفع سعر الدواء لهذا الرقم الفلكي، ومع ذلك في أحيان كثيرة يصعب الحصول عليه.

وتعد هيئة الإمدادات الطبية (حكومية) هي الجهة المسؤولة عن توفير الأدوية في السودان، كما يناط بها توفير جرعات علاج السرطان بالمجان؛ لذلك تعتمد عليها المشافي الحكومية في استيرادها، وهو ما يتطلب وفقا لمسؤول في الهيئة الحصول على اعتمادات مالية بالنقد الأجنبي من الحكومة والبنك المركزي.

ويضيف المسؤول -الذي رفض الكشف عن اسمه- "ما لم نحصل على الأموال من الجهات الحكومية المسؤولة فلا يمكننا الاستيراد، والهيئة غير مسؤولة عما يحدث من ندرة في الأدوية أو حتى في ارتفاع الأسعار".

ارتفاع جنوني في أسعار الأدوية وانعدام أصناف منقذة للحياة
انعدام الدواء وإغلاق الشركات لعمليات البيع والشراء أدى إلى فجوه كبيرة (الجزيرة)

القادم أسوأ

أدى قرار الحكومة بتحرير سعر الصرف إلى زيادة كبيرة في أسعار الأدوية رغم أنها ارتفعت مسبقا قبل تطبيق قرار التحرير، وفقا للمتحدث باسم اللجنة التسييرية لأصحاب الصيدليات، أنس الحسين، الذي يشير إلى أن دولار الدواء كان مدعوما من الحكومة قبل قرار تحرير أسعار الصرف الشهر الماضي؛ ليكون بواقع 379 جنيها، وهو ما انعكس على الزيادات الكبيرة في أسعار الأدوية.

ومع ذلك يقول الحسين إن السائد في الأسواق حاليا غالبه دواء جرى تصنيعه محليا، وبالتالي لا يوجد مبرر للارتفاع الكبير في أسعاره.

ويشير المسؤول إلى أن القادم يبدو أسوأ بكثير في ظل عدم تحديد أسعار كثير من الأدوية المستوردة، ولا يستبعد أن تصل الزيادة المقبلة حال إعلان الأسعار الجديدة إلى 600%.

كما يشير الحسين إلى أن انعدام الدواء وإغلاق الشركات لعمليات البيع والشراء أدى إلى فجوه كبيرة، وأن تهالك وانعدام رأس مال الصيدليات دفع بمجموعة منها لتكون خارج الخدمة، متوقعا نسبة خروج أكبر في المستقبل.

التزام حكومي

في المقابل، تؤكد الأمينة العامة لمجلس الصيدلة والسموم، مناهل عبد الحليم، للجزيرة نت إن الحكومة ما زالت ملتزمة بتوفير علاج أمراض السرطان والمخ والأعصاب والقلب والكلى وعمليات الجهاز الهضمي، وعلاج الطوارئ وعلاج الأطفال دون الخامسة مجانا بكل المؤسسات الصحية والعلاجية الحكومية بالبلاد، كما يتلقى كل مرضى السرطان العلاج مجانا.

وتوضح أن علاج الأمراض المزمنة والأمراض النفسية والعصبية سيظل مدعوما من الدولة، ويتم توفيره بواسطة الإمدادات الطبية المدعومة من الحكومة.

ولتقليل آثار الارتفاع الجنوني في أسعار الخدمات العلاجية والدوائية، تقول مناهل إن توجه الدولة يمضي في اتجاه توسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل الجميع، حيث يغطي حاليا 80% من المواطنين، مع تقديم بطاقات علاج مجانية لحوالي 340 ألف أسرة فقيرة.

ويصف مالك صيدلية تحدث للجزيرة نت أوضاع ملف الدواء في السودان بالمأساوية ويقول إن ما لا يقل عن 60% من صيدليات العاصمة (الخرطوم) مرشحة للإغلاق بسبب صعوبات في الحصول على الترخيص، بعد ارتفاع قيمته إلى أرقام فلكية، كما يشير إلى أن حكومة الولاية وعدت قبل أكثر من أسبوع بالتدخل لمعالجة هذا الأمر بدون أن تتقدم خطوة، ويردف "يبدو أن المواطن هو آخر اهتمامات الحكومة".

ويشير إلى أن الحصول على أبسط الأدوية بات أمرا غاية في الصعوبة، ضاربا المثال على ذلك بمحلول "البانادول" (Panadol)، قائلا إن سعره وصل إلى 3 آلاف جنيه (نحو 8 دولارات)، ومع ذلك فهو شبه منعدم.

ارتفاع جنوني في أسعار الأدوية وانعدام أصناف منقذة للحياة
تهالك وانعدام رأس مال الصيدليات دفع بمجموعة منها لتكون خارج الخدمة (الجزيرة)

غلاء وندرة

بدوره، يُحمل محمد علي، وهو طبيب صيدلي، المسؤولية المباشرة لما يجري في ملف الدواء للشركات وهيئة الإمدادات الطبية، ويقول للجزيرة نت إن عددا من الشركات تعمل على إرسال منتجاتها للولايات طمعا في مكسب أعلى بنحو 10% بدلا عن بيعها في الخرطوم، وهو ما يفسر أن غالب صيدليات العاصمة خالية من الأدوية، كما تغيب منتجات دوائية لشركات كبرى، في حين تعمل في الوقت ذاته على توزيع وإنتاج المستحضرات التجميلية والفيتامينات باعتبار أن الضرائب على هذه المنتجات أقل من الدواء.

ويشير الطبيب إلى انعدام كافة المسكنات الخاصة بأمراض العظام رغم أنه يتم تصنيعها محليا، بينما تشهد أدوية السكر والضغط ارتفاعا كبيرا في الأسعار، كما ازداد سعر أمصال سيولة الدم إلى نحو 2100 جنيه مقارنة بـ295 جنيها قبل خفض قيمة العملة الوطنية.

ويؤكد محمد علي أن أغلب العقاقير الطبية، التي تختفي من أرفف الصيدليات، موجودة في مخازن عديد من شركات الأدوية؛ بل إن بعضها يعمد إلى وقف منتج ما لحين توزيع آخر يوشك على انتهاء الصلاحية، وهو ما يعتبره الطبيب تأكيدا على أن مافيا الدواء تعمل بشكل أقوى وسطوة أعلى من الجهات الحكومية النافذة في الدولة، أو أن لديها سلطات أعلى تجعلها تتحكم في عرض الدواء على هذا النحو.

كما يرى أهمية ردع ومحاسبة المتاجرين بالدواء من غير أصحاب الشأن والتخصص، لافتا إلى أن العديد من الأدوية غير المتوافرة في الصيدليات يمكن الحصول عليها في "مجموعات" على وسائل التواصل الاجتماعي بأسعار عالية جدا، ويضطر صاحب الحاجة لشرائها.

مبادرات خيرية

ولتخفيف الأوضاع المأزومة، نشطت مبادرات خيرية على وسائل التواصل الاجتماعي للمساعدة في توفير الأدوية، قادها شباب بوسائل دعم ذاتي، فبرزت على نحو قوي مجموعة "نحن معاك عشان يصلك دواك"، التي بدأت في العمل منذ العام 2016 على يد شاب رأى معاناة جاره في الحصول على عقار "فانتولين" لابنه، الذي يعاني من الربو، فأجرى اتصالات بسودانيين في الخارج ونجح في توفير العقار، لتبدأ المبادرة وتحظى بتفاعل كبير من سودانيي المهجر.

كما تنشط مجموعات باسم "وصف لي دواء" و"حلم" و"دواؤك عندنا" تعمل جميعها على مساعدة المحتاجين والمتعففين في توفير قيمة العلاج كما يبذل القائمون عليها مجهودات كبيرة في حالات الطوارئ لإنقاذ المحتاجين عبر إطلاق مناشدات تجد تجاوبا واسعا من الأعضاء.

المصدر : الجزيرة