أميركا والصين ومفارقة الإنتاجية

إن نمو الإنتاجية لا يتحقق بالعمل لساعات أطول بل بتوليد قدر أكبر من الناتج عن كل وحدة من مدخلات العمل

                                                                          ستيفن إس روتش     

                                                                      
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي دارت مناقشة حامية بشأن ما تسمى مفارقة الإنتاجية عندما لم تكن الاستثمارات الضخمة في تكنولوجيا المعلومات تسفر عن تحسينات قابلة للقياس في الإنتاجية، والآن عادت هذه المفارقة، وهي تفرض مشكلة على كل من الولايات المتحدة والصين، وربما تحتل مكانا بارزا في الحوار الإستراتيجي والاقتصادي السنوي بين البلدين.

تباطؤ نمو الإنتاجية
الصين وتحديات الدول المتقدمة

تباطؤ نمو الإنتاجية
في عام 1987 قال روبرت سولو الحائز على جائزة نوبل في تعليق ساخر شهير "يمكنك أن ترى عصر الحاسوب في كل مكان، ولكن ليس في إحصاءات الإنتاجية".

وفي التسعينيات بدا الأمر وكأن مفارقة الإنتاجية باتت محلولة عندما شهدت أميركا نهضة إنتاجية مذهل، فقد تسارع متوسط نمو الإنتاجية السنوي في قطاع الأعمال غير الزراعي إلى 2.5% في الفترة من 1991 إلى 2007 بعد أن كان الاتجاه المعتاد 1.5% في السنوات الـ15 السابقة، وأخيرا تجسدت فوائد عصر الإنترنت، واختفت المخاوف بشأن تلك المفارقة.

ولكن يبدو أن الاحتفال كان سابقا لأوانه، فعلى الرغم من اندلاع ثورة تكنولوجية أخرى عاد نمو الإنتاجية إلى التباطؤ مرة أخرى، وهذه المرة كان الانكماش على نطاق عالمي، وكان له أبلغ الأثر على الدولتين الأكبر اقتصادا في العالم، الولايات المتحدة والصين.

على مدى السنوات الخمس الماضية -من 2010 إلى 2014- هبط نمو الإنتاجية السنوي في الولايات المتحدة إلى 0.9% في المتوسط، بل إنه انحدر بمعدل 2.6% سنويا في الربعين الأخيرين (في أواخر 2014 وأوائل 2015)

وعلى مدى السنوات الخمس الماضية من 2010 إلى 2014 هبط نمو الإنتاجية السنوي في الولايات المتحدة إلى 0.9% في المتوسط، بل إنه انحدر بمعدل 2.6% سنويا في الربعين الأخيرين (في أواخر 2014 وأوائل 2015) وعلى الرغم من أنه لم يحدث تنقيح كبير للبيانات فإن نهضة الإنتاجية في أميركا صادفت متاعب ومشاكل خطيرة.

وتشهد الصين نمطا مماثلا، فعلى الرغم من أن الحكومة لا تنشر إحصاءات الإنتاجية بانتظام فإن المشكلة شديدة الوضوح، فقد كان إجمالي نمو العمالة الحضرية ثابتا عند مستوى 13,2 مليون عامل سنويا منذ عام 2013 وهو ما يتجاوز كثيرا معدل النمو الذي استهدفته الحكومة بنحو عشرة ملايين عامل، وعلاوة على ذلك يبدو أن التوظيف مستمر على هذه الوتيرة السريعة في أوائل 2015.

من ناحية أخرى، تباطأ نمو الناتج عن الاتجاه الذي بلغ 10% على مدى 33 عاما انتهت في عام 2011 إلى نحو 7% اليوم، ويشير هذا التباطؤ -في مقابل ثبات سرعة خلق فرص العمل- إلى تباطؤ لا لبس فيه بالإنتاجية.

وهنا تكمن أحدث المفارقات، ففي حين تدفع التكنولوجيات الآن إلى خلق أسواق جديدة (وسائل الإعلام الرقمية وأجهزة الحاسوب الصغيرة التي يمكن وضعها في ملابسنا)، وخدمات جديدة (إدارة الطاقة وتسلسل الحمض النووي)، ومنتجات جديدة (الهواتف الذكية والروبوتات)، وشركات جديدة في مجال التكنولوجيا "علي بابا وآبل"، فمن المؤكد أن نمو الإنتاجية يشهد ارتفاعا واضحا، وكما يقول سولو لو عاش في عصرنا هذا لأصبح "إنترنت الأشياء" في كل مكان باستثناء إحصاءات الإنتاجية.

ولكن هل هناك مفارقة حقا؟ يزعم روبرت غوردون -من جامعة نورث ويسترن- أن الإبداعات التي تقودها تكنولوجيا المعلومات والإنترنت مثل معالجة البيانات آليا بسرعة عالية والتجارة الإلكترونية تتضاءل إلى حد التقزم إذا قورنت باختراقات الثورة الصناعية، بما في ذلك المحرك البخاري والكهرباء.

وهو يؤكد أنه على الرغم من أن هذه الإبداعات أدت إلى تحولات هائلة في الاقتصادات المتقدمة الكبرى -مثل ارتفاع معدلات مشاركة النساء في قوة العمل، وزيادة سرعة النقل، والتوسع الحضري، وتطبيع التحكم في درجات الحرارة- فإن دفع هذه التغيرات إلى التكاثر سوف يكون أمرا بالغ الصعوبة.

وربما كان تباطؤ الإنتاجية في الصين أكثر اعتدالا، فهو ثمرة التحول البنيوي الناشئ في الاقتصاد الصيني من التصنيع الكثيف الاستخدام لرأس المال إلى الخدمات التي تستعين بالعمالة بكثافة.

وفي عام 2013 فقط حلت الخدمات محل التصنيع والبناء باعتبارها القطاع الأكبر في الاقتصاد، والآن بدأت الفجوة تتسع، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه، ومع احتياج قطاع الخدمات الصيني إلى 30% إضافية من العاملين لكل وحدة من الناتج مقارنة بالتصنيع والبناء مجتمعين فإن عملية إعادة التوازن البنيوي إلى الاقتصاد بدأت الآن تعمل على تحويل النمو إلى قطاع الخدمات الأقل إنتاجية في الصين.

الصين وتحديات الدول المتقدمة
ولا يزال الوقت متاحا في حالة الصين قبل أن يتحول الأمر إلى مشكلة، فكما لاحظ غوردون كانت هناك أرباح إنتاجية دائمة مرتبطة بالتوسع الحضري، وهو الاتجاه الذي ربما يستمر لعقد آخر من الزمان على الأقل في الصين، ولكن سوف يأتي وقت عندما تنحسر هذه الرياح المواتية وتبدأ الصين في الاقتراب من حدود الاقتصادات المتقدمة.

ربما كان تباطؤ الإنتاجية في الصين أكثر اعتدالا, فهو ثمرة التحول البنيوي الناشئ في الاقتصاد الصيني من التصنيع الكثيف الاستخدام لرأس المال إلى الخدمات التي تستعين بالعمالة بكثافة

عند هذه النقطة سوف تواجه الصين نفس تحديات الإنتاجية التي تواجه أميركا وغيرها من البلدان اليوم، ويبدو أن تركيز صناع السياسات الجديد في الصين على النمو الذي يقوده الإبداع يدرك هذا الخطر، ففي غياب الإبداع القوي سوف يكون دعم نمو الإنتاجية مهمة شديدة الصعوبة، والواقع أن تحول الصين مؤخرا إلى مسار أبطأ للإنتاجية يأتي بمثابة إنذار مبكر لما قد يكون واحدا من أكثر التحديات الاقتصادية التي تواجهها صعوبة.

لا مفر من الاعتراف بالدور الأساسي الذي يلعبه نمو الإنتاجية في الأداء الاقتصادي لأي بلد، ورغم هذا -في حالة الاقتصادات المتقدمة- كانت فترات نمو الإنتاجية السريع المستدام هي الاستثناء، وليست القاعدة.

وتؤكد علامات تباطؤ نمو الإنتاجية مؤخرا في الولايات المتحدة والصين هذه الحقيقة، وفي عالم يقترب من الركود المادي المزمن فإن هذا يشكل خبرا مثيرا للقلق والانزعاج في أقل تقدير.
ـــــــــــــــــــــــ
عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مؤسسة مورغان ستانلي آسيا، وهو مؤلف كتاب "انعدام التوازن: علاقة الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين"

المصدر : بروجيكت سينديكيت