القطاع الخاص الفلسطيني وتقلبات سوق العمل

تصميم مقال الكاتب - بكر ياسين اشتية

 بكر ياسين اشتية

خلل هيكلي عميق
التنموي والتشغيلي
تكلفة فرصة العمل
دور القطاعات الإنتاجية
الحل في المقاطعة
تقصير رسمي واضح

منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وسوق العمل الفلسطيني يشهد تقلبات واضحة من حيث قدرته على استيعاب القوى العاملة. والمتتبع لهذا السوق يلاحظ الدور البارز الذي تتصدره أجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية بشقيها المدني والعسكري من جهة، وسوق العمل الإسرائيلي من جهة أخرى في امتصاص الجزء الأكبر من الأزمة.

فلا شك أن السلطة الفلسطينية، ومن خلال هيكل الإنفاق العام، تميل إلى كونها سلطة نفقات تشغيلية إغاثية، أكثر من كونها سلطة نفقات تنموية تمكينية، ولا شك أيضا أن الجانب الإسرائيلي كان -وما زال- يربط استيعابه العمالة الفلسطينية بالمواقف والمعطيات الفلسطينية على الأرض.

السلطة الفلسطينية ومن خلال هيكل الإنفاق العام تميل إلى كونها سلطة نفقات تشغيلية إغاثية، أكثر من كونها سلطة نفقات تنموية تمكينية، في الوقت نفسه كان الجانب الإسرائيلي -وما زال- يربط استيعابه العمالة الفلسطينية بالمواقف والمعطيات الفلسطينية على الأرض

من هنا، يبرز الخلل الهيكلي لسوق العمل الفلسطيني، والمتمثل في ضعف قدرة القطاع الخاص على استيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، وانحسار الطاقة الاستيعابية لأجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية، وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة فيها، خاصة الأجهزة الأمنية منها، إضافة إلى التذبذب الواضح في نسب العمالة الفلسطينية لدى الجانب الإسرائيلي، الذي بات يستخدم هذه الورقة كوسيلة ضغط تفاوضي مع الجانب الفلسطيني.

ونظرا لشحّ البيانات الإحصائية الصادرة عن قطاع غزة وتدني جودتها، سيتم التركيز هنا على سبل علاج تراجع الطاقة الاستيعابية لسوق العمل الفلسطيني في الضفة الغربية، من خلال قراءة وتحليل البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

خلل هيكلي عميق
حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن أعداد الداخلين الجدد لسوق العمل في الضفة الغربية ضمن تصنيفات القوى العاملة لعام 2013 بلغ 16000 داخل جديد، وهو ذات العدد الذي وفره السوق من حيث فرص العمل، وبذلك تكون القدرة الاستيعابية للاقتصاد الفلسطيني اقتربت من 100%، وبالتالي الاحتفاظ بنفس معدل البطالة السائد في عام 2012 والبالغ 19% تقريبا.

ومع تأجيل الحديث عن الارتفاع الواضح في معدل البطالة، قد تبدو تلك الأرقام مريحة في ظاهرها، لكنها تنطوي على خلل هيكلي عميق في تركيبة سوق العمل الفلسطيني، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

أولا- سوق العمل الإسرائيلي: فبالرغم من أن تصنيفات العمالة تُعنى بإحصاء عدد فرص العمل التي خلقها اقتصاد البلد خلال العام، فإنه يتم تصنيف العمالة الفلسطينية في إسرائيل كعمالة فلسطينية نظرا لانطباق شرط الإقامة عليهم من جهة، ولخصوصية حالة علاقة الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي من جهة أخرى. لكن إذا قمنا بإزالة الأثر الإسرائيلي، فإن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية خلال عام 2013 ستنخفض إلى (34%)، أي (34) فرصة عمل لكل مائة داخل جديد لسوق العمل. فلسوق العمل الإسرائيلي الفضل في خلق 49% من فرص العمل للضفة الغربية، حيث بلغت نسبة العمالة الفلسطينية من الضفة الغربية في إسرائيل (16%) من مجموع القوى العاملة هناك، علما أن تلك النسبة تنخفض إلى (0%) في قطاع غزة.

ثانيا- ضعف القدرة الاستيعابية للقطاع الخاص: فقد تراجعت قدرة القطاع الخاص على استحداث فرص عمل مدفوعة الأجر بنسبة (2%)، وذلك نظرا لتراجع حجم الاستثمار، بينما أسهم القطاع العام الحكومي في (23%) من الوظائف الجديدة مدفوعة الأجر في مناطق الضفة الغربية. الأمر الذي يعكس ويكرس الدور التشغيلي الذي تقوم به السلطة الفلسطينية، في ما يمكن اعتباره حلا عقيما لأزمة البطالة بأزمة أكثر وأشد ضراوة على مؤشرات الاقتصاد الفلسطيني، ألا وهي أزمة المديونية الناجمة عن ارتفاع فاتورة الإنفاق العام على فاتورة الرواتب والأجور.

التنموي والتشغيلي
وخلال الفترة 1996-2013، نما معدل الإنفاق العام للموازنة العامة الفلسطينية على بند الرواتب والأجور بنسبة (350%)، وعلى البنود التشغيلية الجارية الأخرى بنسبة (210%)، في حين بلغ معدل نمو السكان في ذات الفترة (61%). أما معدل النمو في النفقات التطويرية، فلم يتجاوز (46%). أي أن الدور التشغيلي الذي تلعبه مؤسسات السلطة الفلسطينية قد حدّ من قدرتها على الإنفاق التنموي بسبب ثقل فاتورة الرواتب والأجور على بنود الموازنة العامة.

خلال الفترة 1996-2013، نما معدل الإنفاق العام للموازنة العامة الفلسطينية على بند الرواتب والأجور بنسبة (350%)، وعلى البنود التشغيلية الجارية الأخرى بنسبة (210%)، في حين بلغ معدل نمو السكان في ذات الفترة (61%)

من هنا تبرز أهمية دور القطاع الخاص في تخفيف العبء عن كاهل الحكومة من خلال خلق فرص عمل جديدة في حال تمكنا من قراءة معطيات ومحددات الطاقة الاستيعابية للقطاع الخاص الفلسطيني، حيث إن معدلات البطالة للمناطق الفلسطينية كانت قد تجاوزت (27%) منتصف عام 2014. ونظرا لعدم جهوزية البيانات التفصيلية لسوق العمل ومتغيرات الحسابات القومية لعام 2014، سيتم تحليل بيانات عام 2013 للضفة الغربية، علما بأن كافة المؤشرات تشير إلى تراجع عام طفيف في أداء الاقتصاد الفلسطيني لعام 2014 مقارنة بعام 2013.

تكلفة فرصة العمل
يمكن حساب حجم الاستثمارات المطلوبة لخلق فرصة عمل واحدة (تكلفة فرصة العمل) في أي قطاع اقتصادي من خلال قسمة حاصل جمع القيمة السوقية لأصول القطاع الاقتصادي نهاية العام مع رأسمال التشغيل التي تشمل المخزون السلعي بكافة مراحله، على مجموع عدد العاملين في ذلك القطاع.

وبتجميع ومعالجة بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للأعوام بين 2007 و2013، نجد أن متوسط تكلفة فرص العمل لقطاعات الصناعة والتجارة والإنشاءات والخدمات والاتصالات في الضفة الغربية ارتفعت من (9500) دولار لعام 2007 إلى (21520) لعام 2013. وإذا ما علمنا أن معدل البطالة في الضفة الغربية بلغ (18.6%) للعام ذاته بعدد (141000) عاطل عن العمل، فإننا بحاجة لخلق (65000) فرصة عمل للعودة بمعدلات البطالة إلى نسبة (10%)، (وهي أفضل نسبة حققها الاقتصاد الفلسطيني منذ الفترة ما بعد أوسلو)، أي حجم استثمارات تصل بالمتوسط إلى (1.4) مليار دولار أميركي.

ومن الملاحظ هنا أن كلفة فرصة العمل لقطاع الصناعة منفردا تصل إلى (20500) دولار، في حين ينخفض الرقم إلى (13800) دولار لأنشطة تجارة الجملة والتجزئة.

أما الاستثمارات الزراعية، فقد تعذر احتساب كلفة فرصة العمل فيها بسبب شحّ البيانات الإحصائية المفصلة لرأسمال التأسيس من أصول ورأسمال تشغيل والمخزون السلعي.

دور القطاعات الإنتاجية
لا بد هنا من التركيز على دور القطاع الصناعي كرافعة تنموية قادرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية من جهة، وتحفيز الاستثمارات المحلية من جهة أخرى. ومع الأخذ بالاعتبار أن (91%) من الصناعات الفلسطينية تندرج تحت مفهوم الصناعات الصغيرة، وبما أن الصناعات الصغيرة تعتبر ذات كثافة عالية في استخدام عنصر العمل، فإن تلك الصناعات الصغيرة تحتاج إلى استثمارات أقل لخلق فرص عمل أكبر.

مخطئ من يعتقد أن إنجاح جهود مقاطعة المنتجات الإسرائيلية مسؤولية فردية ومدنية بامتياز، فالجهد الشعبي المبذول فلسطينيا في هذا الاتجاه لا يمكن أن تكتمل أركانه بمعزل عن الدور المؤسساتي الرسمي للسلطة الفلسطينية

وإذا قمنا بتحويل حسابات الاستثمار إلى حسابات إنتاج، (وذلك من خلال تتبع الإنتاج النهائي لقطاع الصناعة في الضفة الغربية وتوزيعه على العاملين في القطاع)، فإننا سنصل لنتيجة مفادها أن كل فرصة عمل صناعي تتطلب إنتاج بقيمة (34470) دولارا. أي ما مجموعه (2.24) مليار دولار إنتاج صناعي لتخفيض معدلات البطالة في الضفة الغربية إلى (10%).

أما قطاع الزراعة، فقد أمكن عمل مقاربة مع الحالة الأردنية المشابهة لحالة الضفة الغربية للوصول لتقديرات علاقة الإنتاج بفرص العمل، وتبين أن فرصة العمل الزراعي تتطلب (24100) دولار إنتاج زراعي، وبأخذ متوسط قطاعي الصناعة والزراعة، نكون بحاجة لما يقارب (29250) دولار إنتاج مقابل كل فرصة عمل. أي (1.9) مليار دولار إنتاج للتخلص من مشكلة البطالة.

الحل في المقاطعة
لا شك أن الاحتلال الإسرائيلي تاريخيا فرض حالة مفرطة من تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي في أسواق العمل والإنتاج والتجارة. وعليه، فإن فرصة نجاح أي إستراتيجية وطنية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية تبقى مرهونة بتحديد الأولويات، وخلق البدائل.

وفي هذا الإطار، لا بد أولا من تقدير حجم الاستهلاك الفلسطيني من المنتجين الصناعي والزراعي اللذين يمثلان الأولوية الملحة في المقاطعة، ومن ثم قياس قدرة معطيات الاقتصاد الفلسطيني على خلق البديل الجيد، وصولا لتقدير عدد فرص العمل التي قد تخلقها استثمارات القطاع الخاص في تلك القطاعات.

وبالعودة لإحصاءات التجارة الخارجية الفلسطينية، يتضح أن حجم الواردات الفلسطينية السلعية (الصناعية والزراعية) من الجانب الإسرائيلي لعام 2013 بلغ (3.7) مليارات دولار.

ومع استثناء بعض المنتجات غير القابلة للمقاطعة بسبب صعوبة توفير القاعدة الإنتاجية لها على المديين القصير والمتوسط (كالمحروقات ومنتجات الحديد والإسمنت والكهرباء وبعض المعدات والمنتجات الأخرى)، يبقى من هيكل وارداتنا مع إسرائيل (1.15) مليار دولار منتجات صناعية وزراعية قابلة للإنتاج المحلي ضمن سياسة إنتاجية قصيرة ومتوسطة المدى.

وبالعودة للحسابات السابقة، وبالإشارة إلى أن هيكل الواردات الفلسطينية من الجانب الإسرائيلي للضفة الغربية يشكل (91%) من إجمالي هيكل الواردات، فإن الاستعاضة الكاملة عن تلك المنتجات الإسرائيلية الواردة للضفة الغربية بأخرى محلية المنشأ ستعمل على خلق (35700) فرصة عمل، أي تخفيض معدلات البطالة في الضفة الغربية من (18.6%) إلى (13.8%)، هذا إضافة إلى الموارد المالية الضريبية التي ستجنيها السلطة الفلسطينية ضمن هيكل الضرائب على الإنتاج والأرباح.

تقصير رسمي واضح
مخطئ من يعتقد أن إنجاح جهود مقاطعة المنتجات الإسرائيلية مسؤولية فردية ومدنية بامتياز؛ فالجهد الشعبي المبذول فلسطينيا في هذا الاتجاه لا يمكن أن تكتمل أركانه بمعزل عن الدور المؤسساتي الرسمي للسلطة الفلسطينية، وليس المطلوب هنا أن ترفع الحكومة الفلسطينية شعار المقاطعة الذي قد يضعها في حرج أمام الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة مع الجانب الإسرائيلي، بقدر ما أن المطلوب منها هو تبني خيارات وسياسات اقتصادية تمكن مؤسسات المجتمع المدني من إنجاز جهد المقاطعة.

ولعل أبرز السياسات المطلوبة ضمن هذا الإطار ما يلي:

1- تفعيل دور مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية بما يضمن رفع جودة المنتج الوطني، وبالتالي رفع درجة ثقة المستهلك الفلسطيني في المنتج المحلي كبديل جيد للمنتج الإسرائيلي.

2- إعادة صياغة هيكل الإنفاق العام الذي لم يخصص لوزارة الزراعة سوى (0.7%) من موازنة السلطة الفلسطينية، والذي اختفت فيه أي مخصصات للبحث والتطوير الصناعي أو الزراعي.

إن إشكالية انخفاض الطاقة الاستيعابية لسوق العمل الفلسطيني ليست سوى قصور رسمي في تقدير وتفعيل دور القطاع الخاص من جهة، وتبعية مفرطة للجانب الإسرائيلي نملك مفاتيح فكها من جهة أخرى

3- تعديل بنود قانون تشجيع الاستثمار بما ينسجم مع فكرة إعفاءات وحوافز أكبر للاستثمارات الصناعية والزراعية ذات الهامش الربحي الأقل فلسطينيا، وإعفاءات أقل للاستثمارات الخدمية ذات الهامش الربحي الأكبر.

4- رفع إنتاجية العامل الفلسطيني في قطاعي الصناعة والزراعة من خلال رصد مخصصات حكومية لتدريب وتأهيل العاملين في الأنشطة المستهدفة، يتم ربطها ببرامج التدريب والتأهيل الممولة من المانحين، والتي دائما ما تحول لموظفي القطاع العام، دون أن تصل بهم للحد الأدنى المطلوب من القيمة المضافة.

5- تفعيل الدور المساند لغرف التجارة والصناعة، بما يضمن تقديم كافة أنواع الدعم والإسناد الفني والإجرائي والتسويقي.

6- إنشاء حاضنات للأعمال الصناعية والزراعية، تعمل على تبني ودعم وتمويل المشاريع الإنتاجية، ضمن هامش مخاطرة أقل.

من كل ما سبق يتضح أن إشكالية انخفاض الطاقة الاستيعابية لسوق العمل الفلسطيني ليست سوى قصور رسمي في تقدير وتفعيل دور القطاع الخاص من جهة، وتبعية مفرطة للجانب الإسرائيلي نملك مفاتيح فكها من جهة أخرى، لكن يبقى السؤال التقليدي قائما: من سيعلق الجرس؟
ــــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس قسم الاقتصاد سابقا، ومحاضر بقسم الاقتصاد جامعة النجاح الوطنية – نابلس – فلسطين.

المصدر : الجزيرة