في يومها العالمي.. لا هوية لنا بغير العربية

اللغة العربية
اللغة العربية تؤثر في واقع الإنسان الفكري والسلوكي (شترستوك)

لا تزال الهوية من القضايا التي تؤرق المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمعات العربية، ولئن كانت الهوية في اللغة مصدرا صناعيا مشتقا من الضمير المنفصل "هو"؛ الضمير الذي يدل على حقيقة الذات وتميزها من غيرها، فإنها في الاصطلاح لم تبعد كثيرا عن المعنى اللغوي، غير أن ذلك لم يعفها من الوقوع في التشابك والتعقيد، فالدكتور عبد الكريم بكار يعرف الهوية في كتابه (تجديد الخطاب الإسلامي) بأنها "مجموعة من السمات والخصائص والرموز والذكريات المحفوظة من التاريخ المشترك، بالإضافة إلى الطموحات والتطلعات الموحدة والمترجمة للشعور بوحدة الهدف والمصير".

وهذا التميز في الخصائص يشبه بصمة الإنسان التي لا يشاركه فيها أحد، بهذا التعبير الجميل شبه الدكتور محمد عمارة الهوية في كتابه (مخاطر العولمة على الهوية الثقافية)، إذ قال إن "هوية الشيء ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها من غيره، وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس، إنها الشيفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي يتعرف إليه الآخرون بوساطتها باعتباره منتميا لتلك الجماعة".

وذهب عامة الباحثين في قضية الهوية إلى أن هوية أي مجتمع من المجتمعات ترتكز إلى ركائز عدة، أهمها: الاعتقاد، واللغة، والثقافة، والتراث، والتاريخ المشترك.

وعلى الرغم من الوضوح الظاهر في التعريفات، فإن الهوية تبقى مسألة مركبة وحركية دينامية، فالإنسان يمكن أن ينتمي إلى كثير من الدوائر الهوية المتداخلة المتشابكة، فعلى سبيل المثال: إذا أردنا أن نذكر دوائر هوية شخص ما من سورية، فيمكننا أن نقول إنه: سوري، وآسيوي، عربي أو كردي، وهو مسلم أو مسيحي، وغير ذلك من الدوائر الهوية الأخرى، أضف إلى ذلك تراجع الانتماء الهوياتي -إذا جاز التعبير- أو تقدمه في دائرة ما أكثر من غيرها بشكل ثابت دائم، أو في مرحلة زمنية معينة وفقا للظروف المختلفة المحيطة به.

اللغة من النظام المغلق إلى النظام المفتوح وتشكيل الهوية 

لا يشك أحد في أهمية اللغة للإنسان في مجالات الحياة جميعها، إذ تؤثر في واقعه الفكري والسلوكي طولا وعرضا، لكن هذا الأمر واجه كثيرا من الإشكالات المنهجية التي دامت ردحا من الزمن، فدراسة اللغة -أي لغة- ينطوي حصرا تحت مظلة "علم اللغة" الذي بقي يرتكز عبر قرون عدة على مبنى اللغة الذي يقوم عند الحديث عن اللغة العربية على الأصوات والنحو والصرف والبلاغة، وبهذا التصور الحصري يمكننا اعتبار اللغة "نظاما مغلقا" (closed system)، أي أن السياق الاجتماعي لم تكن له أهمية حقيقية في دراسة اللغة، وكأنها كائن ثابت وجد في آن ما، وتحنط عبر العصور وتقولب.

ولكن تغيرا جذريا طرأ في العقود الستة الأخيرة على التعامل مع مفهوم اللغة ووظائفها، وسبب هذا التغير كان ظهور "علم اللغة الاجتماعي" "sociolinguistics" أو ما يعرف أيضا بعلم اللسانيات الاجتماعية أو اللغويات الاجتماعية، فهو يهتم بدراسة تأثير جوانب المجتمع كلها في اللغة، ويتضمن ذلك المعايير الثقافية والتوقعات الصريحة والخفية والبيئة وطريقة استخدام اللغة والآثار المترتبة على استخدامها في المجتمع، كما برز "علم اجتماع اللغة"، وتختلف اللسانيات الاجتماعية عن علم اجتماع اللغة في نقطة رئيسة؛ وهي أن اللسانيات الاجتماعية  تركز على تأثير المجتمع في اللغة، بينما يركز علم اجتماع اللغة على تأثير اللغة في المجتمع.

ومع ظهور علم اللغة الاجتماعي أصبح التعامل مع اللغة بوصفها "نظاما مفتوحا" "open system" تؤثر وتتأثر بما حولها من الظواهر الاجتماعية ميدانا رحبا. ووفقا لهذا المفهوم صار السياق الاجتماعي جوهريا في فهم اللغة ودراستها.

وعن هذا المعنى يقول الدكتور فيصل الحفيان في بحثه المعنون (اللغة والهوية، إشكالية المفاهيم وجدلية العلاقات) "اللغة نظام اجتماعي مستقل، أما الكلام فهو تحقق هذا الكلام في صورة رموز، بعبارة أخرى: اللغة طرائق تفكير في عقل الإنسان، أو عقل الجماعة البشرية، أما الكلام واللسان فهو صورة الأصوات، أو الرموز الكتابية التي نسمعها، أو نراها لتحقق لنا التعبير، والتواصل؛ التعبير عن النفس، والتواصل مع الآخرين، هذه التفرقة مهمة، فاللغة مرتبطة بالهوية؛ هي هناك في العقل عقل الإنسان لا على لسانه".

العربية مرتكز لهوية الإنسان العربي والمسلم 

عندما نتحدث عن اللغة العربية، فإننا نتحدث عن واحد من أهم مرتكزات صناعة الهوية، ليس للإنسان العربي فحسب، بل للإنسان المسلم ولو كان غير عربي، لأن اللغة العربية هي طريقة التفكير التي يعتمدها المسلم في حياته اليومية في تعامله مع مرجعيته وثوابته وموجهاته في الحياة.

والعربية لغة الوحي الذي نزل بلسان عربي مبين، فهي إذن طريقة التفكير والقالب العقلي للفرد والجماعة، وهي السبيل الذي يفهمون من خلاله النص الشرعي الذي يحمل اعتقاد الفرد والمجتمع ويصوغه.

إن هذا الاعتقاد يعد المرتكز الأول في تشكيل هوية المجتمع المسلم، فبغير اللغة العربية لا يمكن للعقل المسلم أن يفهم مصادر الهداية والرشاد التي تحدد هويته وتصنع ذاته.

وقد ربط البيان الإلهي اللغة العربية ربطا مباشرا بالوحي الذي نزل على قلب الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم- في دلالة واضحة على أن العربية هي لغة الوحي التي بها نزل وبها يفسر وبها يفهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك تحققا حقيقيا بغير العربية على الإطلاق.

ومن ذلك قوله تعالى في سورة يوسف "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"، ففي قوله تعالى دلالة واضحة على أن العربية التي نزل بها الوحي هي بوابة تشكيل العقل المسلم.

وكذلك قوله تعالى في سورة طه "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا" ففيه دلالة على أن اللسان العربي يعد وسيلتهم للتعامل الراشد مع القرآن الكريم الذي يصنع ذكرهم ومكانتهم، فبغير العربية التي يتعاملون بها مع القرآن الكريم لن تكون لهم هذه المكانة، ولن يكون لهم ما يرجون من الذكر والشرف.

ولننظر إلى قوله تعالى في سورة الشورى "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ۚ فريق في الجنة وفريق في السعير"، إذ فيه دلالة واضحة على أن العربية هي لغة حمل الرسالة وهي لغة المحاججة الموصلة إلى الهداية والرشاد.

وكذلك قوله تعالى في سورة النحل "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ۗ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين"، فيه دلالة على أن الإبانة والتوضيح للوحي إنما يكون باللسان العربي، فهو الجسر إلى فهم الرسالة والإفصاح عن حقيقتها ومكنوناتها.

العربية بين عالمية الحضور واتساع المسؤولية 

وبهذا أصبحت اللغة العربية هي اللغة العالمية التي تتجاوز الأعراق والأنساب والجغرافيات المحدودة، ولا يجد غير العرب أي غضاضة في أن تكون بوابتهم للانتماء الحقيقي لهويتهم الإسلامية، فالمسلم اليوم لا يمكنه أن يكون مصطبغا بالهوية الإسلامية من غير اللغة العربية، والعربي لا يمكنه أن يكون حاملا رسالة الإسلام الحضارية على البشرية، دون أن تكون العربية جزءا أصيلا من هويته التي يحيا بها بين الناس ويتحرك بها بين أمم الأرض.

وبالمقابل، فإن التمسك باللغة العربية وإتقانها هو دعوة ضمنية لحفاظ المرء على هويته الإسلامية، فالعربية هي البوابة لحفظ الإسلام ونشره، والتمسك بالإسلام ووحيه هو البوابة الرئيسة للحفاظ على العربية، فالعربية أداة نشر الهوية الإسلامية، والإسلام وسيلة الحفاظ على العربية.

يقول الدكتور فيصل الحفيان في بحثه (اللغة والهوية، إشكالية المفهوم والعلاقة) "والعربية أيضا محفوظة، تعهد الله بأن تبقى ما بقيت الحياة، لأنها أيضا لغة القرآن الكريم "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 9)، ولذلك فإنه لا يخشى عليها من الزوال، ولا تعصف بها رياح الزمن والبلى، وهذا ما يفسر لنا بقاءها، واستمرارها حتى اليوم دون أن تتحول إلى لغات كما حدث مع اللاتينية مثلا، فلا يزال العرب اليوم يقرؤون القرآن، وتلك اللغة التي دونت بها الكتب قبل 15 قرنا، ويفهمون ما يقرؤون، ولا يمكن أن يدخل على ذلك أن ثمة ألفاظا وتراكيب لم تعد مفهومة للعامة، فتلك ألفاظ وتراكيب محدودة، تسكن حركتها داخل جسد اللغة، تتروى، تتخلف خطوات عن الحياة على الألسنة، لكن الجسد لم يتغير وجهه وملامحه هي هي، إن حفظ اللغة من حفظ القرآن الكريم، وحفظ القرآن من عقيدة المسلم".

إن فهم هذا الارتباط العضوي بين اللغة العربية والهوية يقتضي إعلان الاستنفار في الأوساط المرجعية العربية والإسلامية من حكومات ومؤسسات في مسألة الهوية اللغوية التي يجب أن ترفع إلى مرتبة القضايا السياسية والثقافية والفكرية والإستراتيجية للأمة العربية والإسلامية، وأن تعد قضية حكومات ومؤسسات ومجتمعات أهلية، ولا يجوز بقاؤها قضية مهتمين ومتخصصين فحسب، فهي قضية الأمة والدولة والمجتمع، فلا هوية حقيقية للأمة ولا للدول العربية والإسلامية ولا لمجتمعاتنا بغير العربية، وكذلك حال الفرد العربي والمسلم، فهو بدون العربية محض إنسان يعيش على أنقاض هويات الآخرين، ومن تخلى عن العربية، فقد قطع جذوره ومات في حاضره، وصار مستقبله محض هشيم تذروه الرياح.

وها نحن ككل عام نحتفي بعربيتنا، ونفخر بها في عيدها الذي يوافق اليوم 18 ديسمبر/كانون الأول ونذكر أنفسنا ونجدد العهد معها، فاللغة العربية هويتنا حبا وإيمانا وعملا.

وما أبدع قول الشاعر الدرباس متحدثا عن حبه للغة العربية، مترجما شيئا مما نحمله في قلوبنا:

بك تاج فخري وانطلاق لساني

ومرور أيامي ودفء مكاني

قف في رحاب الضاد تكسب رفعة

فمجالها بحر بلا شطآن

الله أكرمها وبارك نطقها

فأرادها لتنزل القرآن

المصدر : الجزيرة