روح متقلبة بين الجمهورية والقومية.. هل تظل فرنسا "رهينة" تاريخ استعمار الجزائر؟

Old engraved illustration of scene where French Foreign Legion storms Algiers in 1830 - stock photo
رسم أرشيفي يصور اقتحام "الفيلق الأجنبي الفرنسي" الجزائر عام 1830 (غيتي)

في فصل الصيف يشرق الخيال في فرنسا ويكتسب الظل تشكيلات مختلفة على أثر ضوء الشمس، لكن بعض الفرنسيين قد لا يرون سوى ظلالهم عندما تكون أيام الصيف طويلة وحارقة.

وبعد اليوم الصيفي الطويل تأتي الأمسيات الدافئة تحت السماء الزرقاء والصافية، وإذ يختفي الظل في المساء تبقى آثاره حاضرة لكن يظل من المحرمات التي يتحدث عنها القليل فقط.

الظل الفرنسي -بحسب وصف تقرير مجلة ذا كريتيك (The Critic) البريطانية- هو الجزائر وحرب غير معلنة وغير منقطعة وغير منتهية ربطت الفرنسيين لعقود بمكان لا يعرفه معظمهم، أعطت الحرب فرنسا الجمهورية الخامسة وإطار عمل حكومتها اليوم، وما لم تنته هذه الحرب لا يمكن للجمهورية أبدا المضي قدما، ونجاح رئاسة إيمانويل ماكرون يعتمد على ذلك، إذ تعود جذور دورة الاضطرابات الاجتماعية والانتخابات ذات الاستقطاب السياسي في فرنسا إلى حقبة استعمار الجزائر.

يقول جيمس نويز في التقرير إنه في مساء يوم إعادة انتخابه قال ماكرون "سأكون رئيسا لنا جميعا"، لكنه كان مدعوما بنسبة 38% فقط من الناخبين، مما يجعله أقل رئيس مدعوم في "الجمهورية الخامسة"، وجاءت الكثير من أصواته من المناطق الحضرية، فيما جاءت أصوات مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان من الريف، أيده ذوو الياقات البيضاء (الموظفون في المكاتب)، وأيدها ذوو الياقات الزرقاء (المشتغلون بالأعمال اليدوية)، وهو أمر نجد له أنماطا مماثلة في العديد من البلدان والسياقات السياسية الأخرى، وعكست الانتخابات التشريعية في يونيو/حزيران الماضي صدى هذه الانقسامات، حيث فاز التجمع الوطني بقيادة لوبان وتحالف الجناح اليساري بزعامة جان لوك ميلانشون بأصوات كافية لحرمان ماكرون من الأغلبية في الجمعية الوطنية.

هذه الانقسامات مألوفة بما يكفي لتصبح مبتذلة، ومع ذلك يختبئ في تفاهتها تاريخ سري فريد لكل سياق، وضمن ذلك التاريخ المحظورات والحقيقة التي تجعل كل "قبيلة" مختلفة عن الأخرى، وفق تعبير نويز.

"القبيلة" الفرنسية

يقول الكاتب إن فرنسا "قبيلة" مغلقة مرتبطة بمنطقها الداخلي الغامض، ولا يمكن اختراقها تماما بالنسبة إلى الغرباء، وغالبا ما تكون غامضة حتى بالنسبة للفرنسيين أنفسهم، يتحرك هذا المنطق في دورات بطيئة وموسمية، فخلال أشهر الصيف الطويلة تخيم فترة من الهدوء والرضا الظاهر على المدن المخدرة والريف المفعم بالحيوية، تليها أعمال عنف جماعية مفاجئة صادمة في الشتاء عندما أضرب المزارعون وأضرموا النار في أكوام الإطارات المطاطية على الطرق الرئيسية، وتظهر السترات الصفراء في باريس وتبدأ في سحب أحجار الأرصفة، تعرضوا للضرب من قبل الشرطة، وفي الضواحي أشعل الأطفال النار في السيارات، ثم انتهى كل ذلك فجأة ويأتي الربيع مرة أخرى.

تعتبر الانتخابات في فرنسا والطقوس المعتادة المتمثلة في إعطاء أصوات لليمين المتطرف استمرارا سياسيا لهذه الدورة، ويعتقد معظم الناس أن لوبان لن تكون رئيسة أبدا تماما، كما يعلمون أن السترات الصفراء لن تنجح أبدا في اقتحام قصر ماكرون وتحويله إلى سجن الباستيل الجديد، لكن في إطار المنطق الداخلي الفرنسي فإن هذه الاستحالة لا تهم، إن رمزية الانفجار كافية وضرورية لأشهر الصيف الهادئة.

العنف باستخدام كلمات المؤرخ الفرنسي رينيه جيرارد (1923-2015) هو فترة راحة، لحظة قصيرة من الانتهاك الشديد الذي يجمع القبيلة معا حول هدفها الذي لا يمكن فهمه، لكي يكون السلام ممكنا يجب تقديم التضحية، وهكذا أصبحت الجمهورية الفرنسية كبش فداء من أجل بقاء فرنسا، بحسب الكاتب.

هذا هو اللغز الكامن في قلب التناقض الفرنسي، إنه بلد ثوري ومحافظ للغاية في نفس الوقت، غير خاضع للحكم وتكنوقراطي على حد سواء، بلد لم تترسخ فيه الجمهورية حقا، وبالتالي كان عليه أن يحافظ على نفسه فيها، رمزية النظام الإداري، إنه بلد المساواة وليس الاندماج، بحسب الكاتب.

والنتيجة -كما يراها التقرير- هي كالتالي: في عام 2017 قال ماكرون إنه بحلول نهاية ولايته الأولى لن يكون هناك سبب آخر للتصويت للتطرف، لقد كان زعما سطحيا، فقد شهدت الانتخابات الأخيرة إعادة نفس المنافسة مع أحد أفراد عائلة لوبان والرئيس، وهو نفس ما رأيناه في 3 من الانتخابات الخمسة الماضية، ومن الممكن أن نرى نفس الشيء يحدث في غضون 5 سنوات بين خليفة ماكرون وماريون ماريشال لوبان (حفيدة جان ماري لوبان مؤسس الجبهة الوطنية وابنة شقيقة مارين لوبان)

من منظور التاريخ لا يمكن كسر دورة هذا الأداء والمفارقة هذه، لأن سببها لم يتم التعرف عليه حقا، إنه من المحرمات، وهو تاريخ سري للصراع الطويل على روح فرنسا بين الجمهورية والقومية الذي تميز بأكثر من قرن من المعالم القاتمة – قضية دريفوس وحكومة فيشي الفرنسية (الموالية للنازيين في زمن الحرب العالمية الثانية) ومعركة دين بيان فو (التي استسلمت فيها فرنسا لاتحاد تحرير فيتنام 1954) والتي وصلت إلى نهايتها في الجزائر.

الجزائر وفرنسا

عندما بدأت الحرب عام 1954 كانت الجزائر "جزءا لا يتجزأ من فرنسا"، وعلى عكس الأراضي المستعمرة في الهند الصينية وشمال أفريقيا كانت الجزائر -على حد تعبير الفيلسوفة الفرنسية الجزائرية سلوى لوست بولبينا- الاستثناء الذي أكد القاعدة "مستعمرة خاصة على وجه التحديد، لأنها لم تكن مندمجة في المستعمرات"، وهو مبدأ ردده فرانسوا ميتران عندما خاطب -بصفته وزيرا للداخلية- الجمعية الوطنية وقال إن" الجزائر هي فرنسا، ومن منكم -أيها السيدات والسادة- سيتردد في استخدام كل الوسائل المتاحة لكم من أجل الحفاظ على فرنسا؟".

كانت هذه "الجزائر فرنسا" للخيال وكذلك الإدارة الفرنسية زجاجة عصير "الأورانجينا" التي تراها على طاولة الشرفة خارج المقهى الباريسي المعتاد، وبجوارها كتاب للأديب ألبير كامو، مثل العديد من جبابرة الفلسفة الفرنسية، بمن في ذلك لويس ألتوسير وجاك دريدا وبرنارد هنري ليفي الذين ولدوا في الجزائر.

العديد من هذه الشخصيات لها جذور يهودية كما هو السياسي اليميني المتشدد إريك زمور "اليهودي العربي" (كما سماه المؤرخ بنيامين ستورا) الذي جاءت عائلته من سطيف (شرق الجزائر) مسرح المذابح الشائنة في عام 1945، والتي وصفها بعض المؤرخين بأنها البداية الحقيقية لثورة الجزائر من أجل الاستقلال.

وعلى ضفتي البحر الأبيض المتوسط ​​تقف مرسيليا والجزائر على الشواطئ المتقابلة، وتم تنفيذ الكثير من أعمال بناء الجزائر العاصمة تحت إشراف فريديريك تشاسريو المهندس الرئيسي السابق لمرسيليا، وتتوج كلتا المدينتين بالكاتدرائية المبنية في نفس الوقت بأسلوب بيزنطي جديد مماثل: نوتردام دي لا غارد في مرسيليا، ونوتردام أفريك في الجزائر العاصمة.

الحرب والاستقلال

كانت هاتان المدينتان أيضا توأما خلال الحرب، لقد كان صراعا مروعا، حيث تم تعريف القتال على الاستقلال والاحتلال من خلال الفظائع: تدمير المجتمعات، واغتصاب النساء، وإعدام دون محاكمة في الشوارع.

وفي فرنسا، جمعت الحرب فصائل مختلفة تحت راية واحدة، وعلى حد تعبير المؤرخ جيمس شيلدز أصبحت ساحة تجنيد، ليس فقط للجنود والمحاربين القدامى في الجيش ولكن أيضا للمستوطنين الاستعماريين ومناصري الكاثوليك والمعادين للشيوعية، بالإضافة إلى من يحنون إلى التسلسل الهرمي القديم المعادي للأجانب الخاص بحكومة فيشي ورئيس الدولة الفرنسية الفيشية (1940-1944) الماريشال بيتان.

ويقول الكاتب إن "التقليديين" اعتبروا عودة الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى السلطة حلا للمسألة الجزائرية لصالحهم، واعتبره الجيش واحدا منهم عندما وقف بزيه العسكري على شرفة بالجزائر العاصمة وأخبر الحشود التي ملأت الساحة "لقد فهمتكم، من الآن فصاعدا تعتبر فرنسا أن هناك نوعا واحدا فقط من السكان في جميع أنحاء الجزائر: لا يوجد سوى الفرنسيين، تحيا الجزائر الفرنسية"، ومع ذلك بعد 4 سنوات وقع ديغول على اتفاقات إيفيان وأعلن وقف إطلاق النار بين باريس وجبهة التحرير الوطني، مما مهد الطريق لإجراء استفتاء على استقلال الجزائر.

لم يعد هناك ما يزيد على قرن من عمر الجزائر الفرنسية، لقد ذهل التقليديون مما اعتبروها خيانة، أرسلت باريس قوات من البر الرئيسي إلى الجزائر لمراقبة السكان من أصل أوروبي، من "الأقدام السوداء" (المستوطنون الأوروبيون الذين سكنوا أو ولدوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، وارتكبت بعض منظماتهم جرائم بشعة بحق المدنيين الجزائريين رفضا لوقف إطلاق النار عام 1962)، الذين كان يُنظر إلى العديد منهم بشكل متزايد على أنهم متمردون ضد حكومتهم.

عندما سار جنود "الأقدام السوداء" في مظاهرة باتجاه مكتب البريد الرئيسي في الجزائر العاصمة في شارع ديسلي فتحت القوات المجندة من البر الرئيسي النار عليهم، وأطلق جنود فرنسيون النار على مواطنين فرنسيين في مدينة بشمال أفريقيا.

هذه القصة ضرورية لفهم الديناميكيات الداخلية للانتخابات الفرنسية اليوم، وإدراكا منهم أنهم واجهوا الاختيار بين إنقاذ حياتهم أو منازلهم (قالوا "الاختيار، الحقيبة فوق التابوت")، أُجبروا على النزوح الجماعي من الجزائر إلى جانب "الحركيين" العرب الذين قاتلوا من أجل الحكومة الفرنسية واعتبروا لاحقا خونة من قبل الجزائريين.

انتقل ما يقارب مليون شخص عبر البحر الأبيض المتوسط ​​خلال صيف عام 1962 لبدء حياة جديدة غير مؤكدة في فرنسا، هبطوا جميعهم تقريبا في مرسيليا، وانتهى الأمر بالعديد منهم في مجمعات قاتمة -مثل "كامب دو غراند أريناس"- في واد صخري جنوب المدينة.

ومن هذه المعسكرات انتشر مجتمع "الأقدام السوداء" في جميع أنحاء جنوب فرنسا، وكذلك فعل القادمون الجدد من المهاجرين العرب، وليس من قبيل المصادفة أن عدد الأصوات لصالح زمور هذا العام كان أعلى في جنوب فرنسا من أي منطقة أخرى من نواح كثيرة، فإن كوت دازور (إقليم جنوب فرنسا) هو آخر ساحة معركة في الحرب الجزائرية.

عندما فاز في إعادة انتخابه قال ماكرون للشعب "لقد فهمتك"، تماما كما فعل ديغول ذات مرة على شرفة الجزائر العاصمة، ولكن مثل ديغول فإن ماكرون لديه نفس الميل لإبراز هذا الفهم على المسرح الدولي بدلا من التركيز على الأمور العادية في الداخل، ماكرون أكثر ملاءمة لدور وزير خارجية على النمط الأميركي أكثر من دور رئيس دولة تميل إلى التحول إلى الداخل في أوقات الأزمات، ومع ذلك فإن الأجنبي والمحلي في فرنسا لا ينفصلان، بحسب الكاتب.

رهينة التاريخ

في عام 2017 عندما قام بزيارة رسمية إلى الجزائر قال ماكرون إنه لن يكون "رهينة التاريخ"، لكنه سيبقى رهينة، يقول الكاتب، فعندما ذكرت صحيفة لوموند (Le Monde) في عام 2021 أنه شكك في وجود الدولة الجزائرية قبل الحكم الاستعماري الفرنسي استدعت الجزائر سفيرها وحظرت على الرحلات الجوية العسكرية الفرنسية استخدام مجالها الجوي في العمليات ضد الجهاديين بمنطقة الساحل، وقال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن ماكرون أضر بكرامة الجزائريين، وبحسب دير شبيغل رفض تلقي مكالمات ماكرون.

وتتمثل طريقة ماكرون في تهدئة هذه الجراح في القيام بإيماءات رمزية للمصالحة، والاعتذار عن جرائم الماضي التي ارتكبتها الدولة الفرنسية ضد السود والحركيين ومقاتلي الاستقلال الجزائريين على حد سواء.

العديد من هذه الإيماءات مأخوذة من التوصيات الواردة في تقرير ستورا بتكليف من ماكرون والذي كتبه المؤرخ الفرنسي (الجزائري المولد) بنيامين ستورا لتعزيز "الذاكرة والحقيقة والمصالحة"، إنهم يأتون بوعود باستثمارات فرنسية أكبر في الجزائر، لكن ماذا عن الهياكل التي أدت إلى الحرب في المقام الأول والتي لا تزال دون حل حتى اليوم، ولا سيما الإطار الدستوري للجمهورية الخامسة التي أنشأها ديغول في عام 1958 ردا على الأزمة الجزائرية؟

يقول الكاتب إن كلا من مارين لوبان وابنة أختها ماريون ماريشال لوبان تعتقدان أن الإطار الدستوري غير مناسب للغرض الذي أنشئ من أجله، ويوافق على ذلك أيضا المرشح الاشتراكي الراديكالي للرئاسة جان لوك ميلانشون الذي يصف الجمهورية الخامسة بأنها "دستور مؤرخ صممه رجل واحد، الجنرال ديغول الذي توفي قبل 52 عاما، للظروف التي عفا عليها الزمن وبالنسبة لبلد مثل فرنسا عام 1958 فقد تغير كل شيء".

وعلى الرغم من كل اختلافاتهم الأخرى يدرك كل من هؤلاء السياسيين أن الحلقة اللانهائية من المفارقات التي حددت السياسة الفرنسية على مدار الـ20 عاما الماضية يجب أن تنتهي إذا أرادت بلادهم تجاوز ظلها.

وبعد أن فقد أغلبيته في يونيو/حزيران من هذا العام في الجمعية الوطنية يعرف ماكرون فقط ما إذا كان الآن شجاعا بما يكفي لطرح استمرار دستور عام 1958 لرأي الشعب.

وإذا استمر -بدلا من ذلك- في الاختباء وراء مجرد رمزية التغيير فستكون العلامات واضحة: قريبا سينتهي الصيف، وستتم إزالة الطاولات من المدرجات وستختفي طيور السنونو، وستأتي أمطار الخريف ثم سيعود الناس إلى الشوارع مرة أخرى للاحتجاج والصراخ والتكسير، ولكن لا يدركون تماما سبب قيامهم بذلك، يختم الكاتب.

المصدر : الصحافة البريطانية