"خربة الشيخ أحمد".. رواية مجتمع "الشوايا" في شمال شرق سوريا

في روايته الأولى "خربة الشيخ أحمد" يناقش الكاتب السوري عيسى الشيخ حسن تفاصيل لم يتطرق إليها أحد بهذا القرب من قبيل: المواسم وعادات الزواج و"الحيار" (قطع وعد زواج الفتاة لابن عمها منذ طفولتها) والثأر والأنساب

رواية خربة الشيخ احمد
رواية "خربة الشيخ أحمد" لكاتبها عيسى الشيخ حسن صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر (الجزيرة)

في شمال شرق سوريا على تخوم الحدود مع العراق وتركيا، ترصد رواية جديدة أحداثا وقعت في ثمانينيات القرن الماضي بقرية "الصفرة"، لا سيما مجتمعات البدو نصف الرحل أو القبائل الريفية (من أصول عربية بدوية) الذين يطلق عليهم "الشوايا" لرعايتهم الشياه (الأغنام والماعز والخيل) أكثر من الإبل التي يرعاها البدو.

في روايته الأولى "خربة الشيخ أحمد" يناقش الكاتب السوري عيسى الشيخ حسن تفاصيل لم يتطرق إليها أحد بهذا القرب من قبيل: المواسم وعادات الزواج و"الحيار" (قطع وعد زواج الفتاة لابن عمها منذ طفولتها) والثأر والأنساب وأخبار القبيلة والقرية ومشاهد ولائم الطعام وطقوس الصوفية والمشيخة وصراعاتها، وغير ذلك مما يدور داخل المجتمع السوري في منطقة شرق الفرات.

توثيق للشفاهيات

ويوثق الشيخ حسن في روايته الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، (إسطنبول 2021) حياة الأشخاص وأمزجتهم وأفكارهم وينقلك بقلمه الرشيق وكلماته الآسرة لتعيش في ذواتهم وحيواتهم.

ويقول المؤلف إن أحداث هذه الرواية توثيق للشفاهيات التي أمست في مهب النسيان. ولا أظن أن "خربة الشيخ أحمد" كتاب تاريخ ولكنها تستفيد من التاريخ المعاصر القريب "ثمانينيات القرن الماضي".

الروائي عيسى الشيخ حسن (التواصل)
الكاتب عيسى الشيخ حسن: الرواية توثيق للشفاهيات التي أمست في مهب النسيان (مواقع التواصل)

ويتابع الشيخ حسن للجزيرة نت "كتبت هذه الرواية في حالة حنين واضحة إلى أيام الطفولة والشباب، وقد أججت هذا الحنين حالة الحرب في البلاد. لقد كان باعث الكتابة، الخوف على البلاد التي تعيش قلق الزمان والمكان والتشتت الديمغرافي الرهيب بعد توالي موجات الهجرة التي لم تنقطع منذ الرصاصة الأولى".

خراب البصرة وطاعون المغول

وتعد "خربة الشيخ أحمد" تجربة روائية جديدة تصور أدق التفاصيل في حياة أبناء المنطقة الشرقية من "الشوايا"، ولم يكن أهل الصفرة غريبين عن "خربة الشيخ أحمد" فهم أقرباء من أرومة واحدة، انحشرت مصائرهم في قريتين متجاورتين كما كانت أيام الترحال البعيدة. وهذه الأيام الغابرة لم تحصها وثائق مكتوبة ولكنها ظلت مدونة في قصائد و"سوالف" أشبه بالأساطير.

كتب الشيخ حسن في الرواية "ضربت القبائل في الشرق والغرب، وتجمعت بعد (خراب البصرة) وطاعون المغول، واستقرت في الجزيرة الشامية والموصل وحمص وحماة، ثم وصلت الرها (أورفا)، بين جرحين أبديين وسمتهما الجغرافيا، ظلا يدران ماء دجلة والفرات. يسميهم أهل المدن (الشوايا) ويحملون لغة أضمرت في كلماتها مفردات (الأولين) وإن تصرفت في معانيها أحيانا".

يقول الروائي السوري إبراهيم اليوسف المقيم في ألمانيا عن الرواية "كانت الأعمال التي تناولت هذه البيئة (الشاوية) بحسب وصف الروائي، جد قليلة إلا إنني أعد هذا العمل رياديا وجريئا في طرح القضايا من حيث المكاشفة والمقاربة من حيوات ذويه، ويومياتهم وأحلامهم ومعاناتهم وحبهم وحزنهم ليكون لهم معجمهم المعيشي، كمعجمهم الحياتي الذي راح الروائي يحلل مفرداته".

ويضيف اليوسف "يتجلى وضوح المؤلف في إطلاق صفة (الشاوية) على بيئته، أيا كان الأصل المعجمي والدلالي لذلك، ليقول: أولاء نحن، ومن دون أن يكون ذلك انغلاقا على الذات".

ويبين اليوسف في -حديثه للجزيرة نت- "استطاعت الرواية كحال العديد من الأعمال التي صدرت في ظل سنوات الحرب في البلاد أن تدفع القارئ إلى استحضار الذاكرة في محاولة لإعادة خلقها في شكل إبداعي كأحد أشكال العمل لأجل الحفاظ على الذات".

الروائي عيسى الشيخ حسن يوقع روايته في معرض الدوحة للكتاب 2021م
عيسى الشيخ حسن يوقع روايته في معرض الدوحة للكتاب 2021 (الجزيرة)

تقاليد صارمة

واتجه الروائي إلى تحليل شخصياته من خلال ظروفها الحياتية بلغة تراوحت بين العامية والفصيحة.

وتكشف أحداث الرواية تعمّق كاتبها بالجوانب النفسية والفكرية والاجتماعية لشخصيات الرواية، وتقوم حكاية الرواية على ذهاب المعلم عبد العليم ياسين إلى قرية نائية (الصفرة) للتدريس في مدرستها الوحيدة، وهناك تزوج من صالحة وأنجبا بعد 3 سنوات "ياسين"، ولما بلغ ياسين السنة الأولى من عمره مات والداه في حادث سير لتتبنى أسرة الحاج عبد اللطيف الطفل اليتيم.

كبر الطفل ليصير معلما في إحدى قرى الجنوب البعيدة. وجمعت بينه وبين "حسنة الفواز" قصة حب. تقدم ياسين لخطبة "حسنة" إلا أن أسرتها رفضت هذا الزواج لأن المعلم "ياسين" يتيم الأبوين وأصوله القبلية غامضة كون أبيه من خارج المنطقة.

يبدأ ياسين رحلته الشاقة في البحث عن أهله حتى يجدهم في نهاية الرواية ويذهب مع أقربائه لخطبة الفتاة التي أحبها مع عشيرته وهنا يصطدم بالعادات والتقاليد المتأصلة في القبائل والتي تتحكم في هذا المجتمع فيما يخص العلاقات الاجتماعية والأسرية، إذ أصر ابن عمها "جاسم الصايل" على أن "حسنة" من حقه، ولن يسمح لأحد أن يقترب منها وذلك من خلال فرض زواج ابن العم على ابنة العم. تحت ستار "الحيار" الذي يقض مضاجع النساء في المنطقة حتى اليوم.

"لما كان ظرفنا مليان"

كأن هذا العنوان الثانوي "لما كان ظرفنا مليان" الذي تصدر الرواية ليس إلا دليلا على ماض يحن إليه المؤلف.

يتكئ الشيخ حسن على موروث ومفردات قرى الريف السوري الشرقي في البناء السردي للرواية، معتمدا على حوارات باللهجة "الشاوية"، التي تتضمن الأمثال وأهازيج الحصاد.

ويكتب في الرواية "تمشي شمس سبتمبر/أيلول على قدمين من قلق وانكسار تدفعها إلى عشها الأبدي غيوم رمادية كابية مزقتها الريح مزقا صغيرة وحولتها أشعة الشمس الواهنة إلى حطام مرآة كبيرة. يغالب ماء الفضة اللألاء طلاء الرصاص الكتيم. وعند التلة الصغيرة تناثرت أغنام القريتين في الأراضي البور وتجمع الرعاة فوق التلة يتبارون في الرمي".

يصف عواد جاسم الجدي الرواية بأنها "سيمفونية رائعة من خلال العزف على اللهجة المحلية العذبة ليتذوقها من يفهمها، وربما يحتاج كثير من القراء حتى في سوريا لشرح بعض مفردات الموروث الشعبي من (سويحلي) و(عتابا) و(نايل)، التي أوردها الكاتب في بداية فصوله الروائية، وإن لم تتطابق أحيانا مع مضمون الفصل".

الناقد عواد جاسم الجدي(الجزيرة)
الناقد عواد جاسم الجدي: الرواية سيمفونية رائعة تعزف على اللهجة المحلية العذبة (الجزيرة)

اللغة الشعرية

يبين المؤلف في حديثه "كنت حريصا على الابتعاد عن أدوات الشاعر ولكن الشعر وجع عربي مزمن".

في المقابل، يرى الكاتب السوداني محمد الربيع محمد صالح المقيم بالدوحة أن "الكاتب وظّف معرفته بأسرار اللغة والشعر ليضيء أعماق أبطاله ويكشف إيقاع أرواحهم وعواطفهم وهموهم بسرد تتخلله جمل فاتنة مثل: وأحست حسنة بغبطة خضراء حين قال ياسين: أهلي".

ويضيف أن "أبطال الرواية ثلة من فلاحي الجزيرة وحوض الفرات في البطحاء السورية وعلى أطراف العراق. أسلوب حياتهم ولغة تواصلهم وملابسهم وطعامهم وإيقاع وجودهم يختزل سردية ذات لون ومذاق وطعم وأفق مختلف، فالشوايا نغم مختلف في لحن الوجود السوري الكبير".

ويؤكد صالح للجزيرة نت أن "عيسى الشيخ حسن في روايته لا يقدم مراجعة فكرية لقضية الهوية لكنه يرينا بمحبة ولطف وحذق كيف يكون السرد سادنا لأرشيف الألفة".

قالوا عن الرواية

من جهته، يقول الناقد الروائي جاسم الجدي المقيم في ألمانيا للجزيرة نت، إن "لرواية عيسى الشيخ حسن خصوصيتين بارزتين، تأخذان القارئ بشغف لتتبع حبكتها ذات الخلفية الاجتماعية من خلال أحداث وشخصيات متشابكة لعل أولها لغة السرد الروائي الماتع باللهجة المحلية، فبدت كباقة برية جمعت من لهجات ريف القامشلي تخالطها لهجة مدينة دير الزور وريفها مرورا بريف إدلب ولم تنته عند شرق حماة بل مازجتها الماردلية واللغة الكردية".

ومن خلال رؤية الروائي الفنية، نشعر بشخوصه وكأنهم وجدوا حقيقة ومارسوا فعل الوجود حيث تناول الكاتب الواقع الحياتي لشخصيات الرواية عبر رؤية فريدة غير مألوفة.

ويرى الكاتب السوداني صالح أن "هذه الرواية تحتفل بهذا الاختلاف في هذه المنطقة من العالم، حيث منح الكاتب الشخصيات مطلق حريتها في أن تعبّر عن نفسها كما هي بلغتها (لغة المكان) وإيقاعها الخاص في الزمان".

ويشرح أن "هذه طريقة في الكتابة دافعها المحبة والانحياز العادل لأسلوب الحياة هذا، بعيدا عن عقدة النقص ومركباته التي جعلت منهم ومن لغة تواصلهم وأسلوب حياتهم هامشا في دفتر الوجود الجديد في المدن".

الكاتب السوداني المقيم بالدوحة محمد الربيع محمد صالح(الجزيرة)
الكاتب السوداني محمد الربيع محمد صالح: الرواية تحتفل بالاختلاف في هذه المنطقة من العالم (الجزيرة)

إعادة اعتبار للمهمشين

وعن سر الاهتمام بروايته من قبل النقاد والقراء، يقول عيسى الشيخ حسن "كانت الرواية محظوظة نسبيا ربما لاعتماد أسلوب الحوار العامي الشاوي أو الموضوع الذي يعيد الاعتبار لبيئة مهمشة، ومرحلة تاريخية تستثير حنين جيل الكبار الذين أدركوا تلك المرحلة ونظرت إليها من نقطة "غير متعالية" ولكن الخربة جذبت إليها شريحة جديدة من القراء".

الشيخ حسن شاعر وكاتب سوري يقيم في قطر ولد في قرية أم الفرسان بريف مدينة القامشلي السورية عام 1965، حاصل على إجازة في اللغة العربية ونشر الكثير من النصوص والمقالات الأدبية في الصحف القطرية والمجلات العربية.

صدرت له 6 دواوين شعرية هي "أناشيد مبللة بالحزن" 1998، و"يا جبال أوبي معه" 2001، و"أمويون في حلم عباسي" 2005، "كأن الريح" 2006، وديوان "مروا علي"، 2015. وآخرها ديوان "حمام كثيف" دار المتوسط، ميلانو-إيطاليا 2016. وحاز العديد من الجوائز بينها جائزة الشارقة في دورتها الخامسة وجائزة عبد الوهاب البياتي في دورتها الأولى.

المصدر : الجزيرة