روايات بالعامية المصرية.. هل ثمة خطر على الفصحى؟

الكتابة العامية أصبح لها حضور داخل معرض القاهرة للكتاب مؤخرا ولم تسلم كلاسيكيات الأدب العالمي من الترجمة للعامية (الجزيرة)

تبدو المفاضلة بين العربية الفصحى واللهجة العامية إشكالية ذات أبعاد متشعبة وتثير نقاشاتها جدلا لا يقتصر على المجال الأدبي وإنما يمتد للهوية الوطنية والعقيدة الدينية، ذلك ما يجعل المتحاورين من مناصري الفصحى أو العامية متكفلين برعاية المنتج الثقافي الذي يدعم توجههم.

وطبقا لذلك تولي وزارة الثقافة المصرية على مدار عقود اهتماما بالمنتج الثقافي المنقول باللغة الفصحى، خاصة ما يتعلق بالإصدارات المطبوعة، غير أنها ولأول مرة تطرح رواية باللهجة العامية من خلال إحدى أهم الهيئات التابعة لها، فبالتزامن مع بدء فعاليات الدورة الـ53 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب -التي انطلقت في 26 يناير/كانون الثاني الماضي- أصدرت الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة المصرية رواية "بالختم الكيني" للكاتبة شيرين هلال، وهو نص سردي باللهجة العامية.

ويعد طرح رواية باللهجة العامية من جانب وزارة الثقافة خطوة متأخرة مقارنة بمسافات طويلة قطعتها دور النشر الخاصة على طريق التخلي عن لغة الضاد تحت شعارات تحمل أغراضا مختلفة، لكنها تتوحد خلف راية التسهيل على القارئ المصري الذي يتحدث العامية.

وخلال السنوات العشر الأخيرة تنوعت إصدارات دور النشر الخاصة باللهجة العامية، ومنها النصوص الأدبية وكتب التنمية البشرية وعلم النفس، ونجحت في إيجاد سوق لها، بل وحصد جوائز.

حصلت رواية "المولودة" للروائية نادية كامل والمكتوبة العامية المصرية على جائزة ساويرس الثقافية في دورتها الـ14 عام 2019.

لسان "الغريب" مصري

قبل أيام من انطلاق معرض القاهرة للكتاب أثير جدل كبير داخل الوسط الثقافي المصري بعدما أعلنت دار "هن" للترجمة والنشر عن طرح ترجمة باللغة العامية لرواية "الغريب" للكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامو.

وبالطبع، صدرت ترجمات عدة باللغة الفصحى لرواية "الغريب" التي تنطوي وللمفارقة على صراع يعيشه البطل حول الهوية بأشكالها المتعددة، ولكن المترجم هكتور فهمي قرر أن يقدم النص الفرنسي بلسان رجل الشارع المصري.

والأغرب من ترجمة "الغريب" إلى اللهجة الدارجة هو ما فعلته دار "الكتاب خان" للنشر والتوزيع قبل نحو 5 سنوات بدعوى مناقشة التراث بطابع حداثي، حيث أعادت طبع "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري بالعامية المصرية، وتولت تلك الترجمة الكاتبة نريمان الشاملي.

وفي أكثر من لقاء صحفي دافع المترجم الذي نقل "الغريب" إلى المصرية عن اللهجة العامية أو "اللغة المصرية" كما يسميها، معتبرا إياها لغة لها ملامحها الجمالية التي تختلف عن العربية الفصحى.

وتكمن الأزمة -من وجهة نظر فهمي-، في ما سماه "الازدواج اللغوي" عند المصريين، مشيرا إلى أنه "لا يوجد مصري يتحدث العربية الفصحى الخالصة، أي أن هناك لغتين، أولاهما عربية فصحى خالصة يعرفها أهل شبه الجزيرة، وأخرى لغة مصرية يختلط فيها العربي الخالص بالهيروغليفي والروماني، وليستا لغة ولهجة كما يصورهما البعض".

وأضاف أن "الطفل الصغير يتحدث المصرية بالفطرة، بينما يتعلم العربية، في حين لا يجد الطفل الفرنسي في المدرسة شيئا جديدا يخص اللغة التي يتحدث بها مع والديه في المنزل".

وتطرف فهمي بعيدا مع رؤيته للعامية المصرية، حيث أبدى تعجبه من كون العربية الفصحى هي اللغة الرسمية بمصر "رغم ما حققته اللغة المصرية من حضور قوي ونفوذ ثقافي لمصر من خلال الدراما والسينما وشعر العامية"، مؤكدا أن العامية تحتاج فقط لقرار سياسي لتتحول إلى لغة رسمية للبلاد.

تاريخ المفاضلة

ليس أمرا مستحدثا أن تدخل الفصحى والعامية حيز المفاضلة، بل إن المسألة وصلت في بعض الفترات التاريخية إلى ما يمكن تسميته الصراع بين المتحيزين للغة الضاد والموالين للسان الشارع.

قبل أكثر من 150 عاما انحاز رفاعة الطهطاوي -الذي يلقب برائد التنوير الحديث في مصر- إلى الكتابة بالعامية في مجالات محددة.

قال الطهطاوي في كتابه "أنوار توفيق الجليل من أخبار توثيق بني إسماعيل" الصادر عام 1868 "إن اللغة المتداولة المسماة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ وتصنف بها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية".

ورغم أن دعوة رائد التنوير الحديث لاستخدام العامية انحصرت في المصالح الحكومية فإن تلميذه النابه محمد عثمان جلال -وهو أحد رواد المسرح المصري- وسع تلك الدعوة ليشملها مسرحه المترجم عن الفرنسية، ليلقى انتقادا صارخا من مفكرين عصره لدرجة إرجاع استعماله اللهجة المصرية إلى قصور الفصحى لديه، وهو نفس الهجوم الذي لاقاه بعد ذلك يعقوب صنوع عندما استخدم العامية في نصوصه المسرحية خلال النصف الثاني من القرن الـ19.

ومع سقوط الخلافة العثمانية أوائل القرن الـ20 واستحكام الاستعمار البريطاني بمصر دخلت الحركة الوطنية معركة الهوية أو القومية المصرية ضد كل ما هو عثماني وإنجليزي، وبلغ نشاط تلك الحركة ذروته بعد ثورة المصريين عام 1919.

امتدت الدعوات المنحازة للهوية المصرية إلى اللغة مطالبة بتمصير المنتج الثقافي، وقاد حركة التمصير أدباء بارزون، مثل أحمد لطفي السيد ومحمود تيمور، وتبع ذلك حضور قوي لشعراء العامية المصرية، مثل بيرم التونسي.

ومع حقبة الستينيات من القرن الماضي كان الشعر العامي يتلمس بلوغ عصره الذهبي على لسان نجيب سرور وعبد الرحمن الأبنودي وصلاح جاهين، ومن بعدهم أحمد فؤاد نجم وسيد حجاب.

أعلام أدبية ضد العامية

على طول مسيرته الأدبية انحاز الأديب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل إلى اللغة الفصحى ولم يركن إلى العامية المصرية حتى خلال الحوارات بين الشخصيات التي غالبا ما تنتمي إلى طبقات شعبية لا تستسيغ ألسنتها الفصحى.

في كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" ينقل الناقد الأدبي رجاء النقاش وجهة نظر أديب نوبل حول اعتماد الفصحى بغير بديل "منذ أن بدأت الكتابة وأنا حريص على استعمال الفصحى والبعد قدر الإمكان عن العامية، لأن هناك في بلادنا عدة لهجات للعامية، فالصعيد يتحدث بلهجة عامية، ووجه بحري لهم لهجتهم، وداخل البلد الواحد قد لا يفهم سكانه بعضهم بعضا بسبب اختلاف اللهجات المحلية".

ويستطرد محفوظ في شرح علاقته بالفصحى "تمسكي باللغة العربية الفصحى يرجع إلى أسباب عديدة، منها: أنها لغة عامة وقومية ودينية وغير ملفقة، ولكن كان عليّ أن أعطيها نوعا من الحياة وأعمل على تقريبها إلى أذهان الناس، وأبتعد عن الألفاظ الصعبة التي تزخر بها حتى تصلح للاستخدام الأدبي الروائي".

وبالطبع، كان الأديب والناقد والمترجم طه حسين أحد أهم من دافعوا عن الفصحى في مواجهة العامية، منطلقا في دفاعه من قضية الوحدة العربية.

وقال عميد الأدب العربي -خلال لقاء تلفزيوني أجري معه خلال حقبة الستينيات من القرن الماضي- إن اللغة الفصحى هي الطريقة الوحيدة لتحقيق الوحدة بين الأمم العربية، مضيفا "إذا كتبت بالفصحى فهمك العرب جميعا، وإذا كتبت بالعامية المصرية فلن يفهمك سوى عامة المصريين، ونفس الأمر مع اللهجتين العراقية والمغربية وغيرهما من اللهجات".

واعتبر نفسه من خصوم العامية، غير أنه لم يرفض استخدام مصطلحات وألفاظ عامية في الكتابة طالما استدعت الحاجة، والحاجة هنا -من وجهة نظر حسين- هي أن تكون الفصحى غير قادرة على تأدية الغرض الذي يريده الكاتب أو المتكلم.

ومن زاوية سهولة اللغة، تحدث المفكر عباس العقاد في كتابه "ساعات مع الكتب" عن الفصحى باعتبارها أسهل على معالجها من الكتابة باللهجة المحلية التي وصفها بلغة العامة والجهلاء.

وأضاف "من توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشق عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء".

وعن سهولة الفهم، أوضح العقاد "عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد، وعامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك تكتب العامية فتحتاج إلى 20 ترجمانا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار فلا تؤدي مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل".

لغة جامدة

الربط بين اللغة العربية كلغة للقرآن الكريم دفع كثيرين من المحافظين للتعامل معها كلغة مقدسة رغم أنها لغة حية، وذلك ما أدى لانفصال العديد من اللهجات عنها كنتيجة طبيعية لجمودها، وفق رؤية مدير دار "صفصافة" للنشر والتوزيع محمد البعلي.

وأضاف البعلي -في تصريحات صحفية- أن هناك فروقا جوهرية بين العامية والفصحى، وأن عدم الفصل بينهما بشكل قاطع يرجع إلى عدم وجود سلطة نهائية، سواء دينية أو سياسية أو ثقافية "وبالتالي فقد ارتضت اثنتاهما بحياتين متجاورتين لكنهما كمستقلتين" حسب قوله.

وأكد أن الكتابة بالعامية باتت أمرا واقعا لروائيين وشعراء لديهم جمهور، مؤكدا أن اللهجة المصرية أثبتت صلاحيتها للسرد منذ وقت طويل مضى.

ذلك التقبل للعامية دفع مدير نشر صفصافة لترجمة مسرحية "حلم منتصف ليلة صيف" للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير إلى العامية المصرية تحت اسم "حلم ف ليلة نُص الصيف".

وأشار البعلي إلى أن الترجمة للعامية لم تفرض نفسها بعد في سوق النشر، مرجعا ذلك لخشية الناشر مما سماها "المناطقية"، حيث تعدد اللهجات داخل مصر، وتساءل "ما العامية التي يجب أن يتم اختيارها؟ هل عامية القاهرة أم الصعيد؟".

الجهل والدجل

انتقاد لاذع حمله مقال "الترجمة إلى العامية بين الجهل والتعمد" للأديب المصري أحمد الخميسي لمحاولات استخدام اللهجة المصرية في الترجمات.

وأرجع الخميسي الدعوة للتأليف والكتابة والترجمة بالعامية إلى ما وصفه بالخلط الفاحش -المتعمد أو الناجم عن الجهل- بين اللهجة التي تلازم كل اللغات الفصيحة واللغات نفسها.

واستطرد شارحا "اللغة تتألف من معجم كلمات ومنظومة قواعد، وهو ما لا يتوفر للعامية لأن معجم كلماتها في معظمه عربي فصيح، ولأنه لا تتوفر لها منظومة قواعد رغم الاختلافات النحوية الطفيفة بين الفصحى والعامية في أسماء الإشارة وجمع أفعال المثنى".

وانتقد الأديب المصري شعار استخدام العامية من أجل التسهيل على القارئ لكونها أبسط من الفصحى، معتبرا ذلك دجلا يمارسه المؤلفون والمترجمون المنحازون إلى اللهجات المحلية.

وتساءل المقال عن مصير اللهجات المصرية الأخرى بخلاف القاهرية (نسبة إلى العاصمة القاهرة) التي يتم اعتمادها فقط حاليا في الترجمات إلى العامية، وأضاف" إذا كان من حقهم اعتماد العامية القاهرية "لغة" لهم كما يقولون فإنه من حق أصحاب اللهجات المصرية الأخرى مثل الصعيدية، وبدو سيناء، والسواحلية، وسكان النوبة".

واختتم الخميسي مقاله بنظرة مستقبلية متشائمة في حال استمرار اعتماد اللهجات في المؤلفات، متوقعا تفتيت اللغة الفصحى الميسرة التي تجمع الوطن، مما يعني مباشرة تفتيت الوطن ذاته بهدم أقوى مرتكزاته، وهو وسيلة التفاهم والتواصل بين المواطنين.

المصدر : الجزيرة