رواية أوراق برلين.. مدينتان وشعبان ووجه واحد

رواية "أوراق برلين" صدرت حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر (الجزيرة)

"دخلت السوق من أحد الشارعين اللذين يحيطان بالجامع الأموي من الجانبين، كأنهما يحضنانه، ومررت بسوق الحبال، ثم بسوق السقطية، وسوق الخيش، وسوق العطارين، ثم انعطفت نحو سوق الذهب. كان جزء كبير من كهذه الأسواق محترقا ومدمرا، وكان سوق السجاد مدمرا، حتى السقف المقنطر قد دُمر وسقط".

بهذه الكلمات يصور الراوي والشخصية الفاعلة في رواية "أوراق برلين" مدينة حلب المنكوبة إنسانيا ومعماريا، مدينته التي هُجّر منها فقطع البر والبحر وصولا إلى العاصمة الألمانية برلين، ليجد نفسه بعد حين ابنا لمدينتين وشعبين لهما وجه واحد.

تمتد رواية "أوراق برلين" للسيناريست والروائي السوري نهاد سيريس -الصادرة حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- إلى 188 صفحة من القطع المتوسط.

وتتصدى الرواية لقضايا ومسائل اجتماعية وسياسية وثقافية طارئة على الشعب السوري الذي طاف أبناؤه مجبرين في شتى أصقاع العالم بحثا عن الأمان والاستقرار ليصطدموا بواقع معقد وتحديات جديدة تفرضها عليهم المجتمعات المضيفة، ويتكفل بمعالجتها راوي وهي شخصية مثقف ومرهف الإحساس يدرك الأبعاد المتعددة لتلك القضايا وينغمس فيها ليقدم للقارئ تأملات سردية عميقة حولها.

حلب وبرلين.. مدينتان وشعبان ووجه واحد

ينفتح السرد في رواية "أوراق برلين" على شخصية الراوي -التي لم يختر سيريس اسما لها- وهو جالس في منزله يدخن غليونه ويتأمل تجليات الحياة في برلين المدينة التي قدم إليها حديثا، وما هي إلا صفحات حتى يتكسر الزمن ونعود من خلال شخصية هيلدا إلى الحرب العالمية الثانية، حيث ترزح برلين تحت قصف طيران قوات التحالف، بينما البرلينيون فزعون يبحثون عن ملجأ للاحتماء.

ثم نعود إلى الحاضر ونعلم أن الراوي قد تعرف إلى هيلدا -التي ولدت في ثلاثينيات القرن المنصرم وكانت شاهدة على الحقبة النازية في البلاد والدمار الذي طال برلين- من خلال ابنتها وعشيقته كريستا التي يعيش معها قصة حب معقدة بسبب حضور عشيقها السابق غونتر في حياتهما.

ومن برلين في الحاضر يعود الراوي في ذاكرته إلى حلب حين كان الصراع مشتعلا بين الجيش والمقاتلين للسيطرة على حلب الشرقية، فيصور لنا حلب المنقسمة شرقية وغربية وحواجز الجيش التي تكثر فيها الإهانات وقناصي الجيش الذين كانوا يتصيدون البشر من على أسطح الأبنية.

وعلى هذا المنوال يقيم الراوي مقاربات غير مباشرة معاشة ومعمارية بين حلب زمن الحرب وبرلين زمن الحرب، ليكتشف أنه "ابن المدينتين"، وعن هذه المقاربات والمراد منها يحكي سيريس للجزيرة نت "إن حلب كانت خلفي بينما تقف برلين أمامي الآن، والمدينتان لهما تاريخ مشترك من المعاناة وأسباب هذه المعاناة، ويمكن فهم ما جرى وما سيجري لمدينتنا من خلال التأمل في حال برلين الآن، لقد تجاوزت برلين محنة الحرب المدمرة والقاتلة ولكنها لم تنس تلك الآلام ومسبباتها، والدليل أنها ساعدت في استيعاب مليون لاجئ سوري جاؤوا إليها هربا من الحرب".

معجزة النجاة

وفي العودة إلى أحداث الرواية، يتعرف الراوي في أحد المنتديات في برلين إلى صبري، اللاجئ السوري في ألمانيا والملازم السابق في جيش النظام، فيروي الأخير قصة نجاته من الموت في سوريا.

"ولم يشعر بنفسه إلا وقوة غريبة تقتلعه عن الأرض، وترفعه إلى الأعلى (..) ومثلما رفعتهم تلك القوة الغريبة عادت وأنزلتهم في الجهة الأخرى من الجدار". هكذا نجا صبري ومجموعة من السوريين من الموت قتلا على تخوم تركيا، نجاة تحيل رمزيا إلى المشقة التي كابدها ملايين السوريين للوصول إلى بر الأمان ناجين بأعجوبة من كل ضروب القتل وألوان الموت في بلادهم.

وتضيء شخصية صبري -العاطل عن العمل والذي لا ينفك يتعاطى المخدرات في النوادي الليلية على أنغام موسيقى التيكنو- على أزمة ثقافية ومجتمعية تعاني منها شريحة من الشباب السوري اللاجئ في ألمانيا، والذي يجد نفسه في حالة من فقدان السيطرة وغياب الهدف إزاء صدمة الاغتراب وصعوبة التكيف مع المجتمع الجديد.

أما سيريس فيفسر ما آلت إليه شخصية صبري من تعاطي للمخدرات وكذا البطالة والمداومة على زيارة النوادي الليلية كنتيجة "للغرائبية التي حدثت معه، فما جرى له يدخل في باب اللامعقول والذي لا يمكن تصديقه، حتى هو لا يستطيع تصديق ما جرى معه فيتعاطى المخدر لينسى ما حدث له أو ليتمكن من تصديق اللامعقول".

الحياة تستمر

إلى جانب شخصية صبري يلتقي الراوي بشخصية هنادي، المولودة لأب سوري وأم ألمانية، فتروي قصة زواج والديها في ألمانيا وعودتهما إلى حلب للاستقرار فيها خلال الحرب العالمية الثانية.

هاجرت هنادي من حلب إلى برلين في تسعينيات القرن الماضي لتستقر هناك، حيث رفعت دعوى قضائية لاستعادة جنسية والدتها التي جردتها منها السلطات النازية بعد زواجها من سوري.

وكما الحال مع السوريين الذين هم ضحايا للحرب والقوى المتصارعة، يقول سيريس للجزيرة نت " كانت زبينة (والدة هنادي) ضحية للنازية التي قادت ألمانيا إلى الدمار. ولولا الحرب لبقيت هي وحبيبها السوري في ألمانيا أو قد يختاران السفر إلى سوريا في أي وقت يريدان. إذن، تشير قصة زبينة إلى أن الحياة تستمر رغم الموت ورغم الدمار، وأن اقتران رجل سوري بامرأة ألمانية هو شيء عادي، كما نعرف، رغم الظروف الاستثنائية".

وعلى عكس الأدوار الراهنة التي يلعبها الشعبان -السوريون كمهاجرين والألمان كمضيفين- تبدو الأدوار مقلوبة في قصة والدة هنادي التي كانت هي المهاجرة إلى حلب بينما زوجها هو المضيف، في إشارة إلى ندية الشعبان واختلاف أدوارهما نتيجة العوامل المشتركة (الحرب والتطرف). وكرفض للحجة العنصرية التي تسوقها بعض الجماعات والأحزاب المتطرفة في ألمانيا لمناهضة اللاجئين باعتبارهم خطرا على المجتمع.

المدينة كشخصية.. والسرد كعدسة سينمائية

ولا تقتصر الشخوص الروائية في "أوراق برلين" على تلك التي تنطق وتشعر كهنادي وصبري وكريستا وهيلدا، فسيريس يبني في هذا المستوى شخوصه متأثرا بالمدرسة السيميولوجية (العلاماتية)، حيث تتحول الأمكنة والأزمنة لشخوص روائية تشكل أهمية على مستوى بناء الدلالة والتفاعل لا تقل أهمية عن تلك التي تشكلها الشخوص الناطقة.

"يسمي الحلبيون هذا السوق "المدينة"، ويعدونه عصب حياتهم، والمدينة هي شبكة من الطرقات الضيقة تتوزع فيها الدكاكين على الجانبين، ولو كان الطريق بعرض مترين، أو أقل، ولكل مهنة سوق، واكتشاف هذه الأسواق السبعة والثلاثين رحلة ميلة كنت أقوم بها في الأيام التي تسبق الأعياد".

وهو واحد من المقاطع السردية التي يتوغل من خلالها الراوي بتفاصيل الأمكنة ليغوص فيها كما لو كانت شخصية فاعلة، فيقول سيريس "على الروائي أن يقدم المعارف الضرورية لبناء "شخصية" المدينة، فلا يكفي أن نقول إن هذا الفصل يجري في المدينة المعينة بل يتحتم على الروائي أو القاص أن يبطئ قليلا ليكمل معرفتنا عنها، وهو شكل من أشكال الضرورة الفنية".

ويضيف "ثم إن المدينة -سواء أكانت حلب أم برلين- فهي تلعب دورا محوريا في الرواية، وكما نعلم فإن المدينة، أيا كانت، تتمتع بشخصية متفردة لا يمكن معرفتها إلا من خلال السرد، كما أن للكتابة عن مكان معين يجعل الكاتب يقوم بتصوير هذا المكان، فلا يكفي أن نقول إن الرواية تجري في مدينة معينة بل على الكاتب أن يكون دليلا للقارئ ويجعله يجول فيها".

وهكذا يعتمد سيريس على أسلوب العدسة السينمائية التي تمكنه من نقل الأحداث والتفاصيل بأسلوب فني وطريقة حيادية تسمح للقارئ بالحكم على الأحداث والشخوص دون تأثير أو توجيه من الكاتب.

ليست مجرد قصة

وفي العودة إلى قصة الراوي مع كريستا، الفتاة الألمانية التي أحبها وهجرته لخاطر عشيقها الألماني غونتر، نجدها قد أصبحت حبلى بجنين لا تعلم إن كان من صلب الراوي أم من صلب عشيقها.

ومع اقتراب الرواية من النهاية، وفي المستشفى حيث تلد كريستا مولودها أسمر البشرة أسود العينين، يبدو غونتر في مزاج رائق لاستقبال المولود بصرف النظر عمن يكون والده البيولوجي.

وحين رأى غونتر الطفل ذا الملامح العربية، استدار ناحية الراوي بفرح غامر وقال سنسميه عمر، ليشعر الراوي بالخسارة ويجيبه "الأمر يعود لك"، وبذلك تنغلق دائرة السرد على تلك العبارة.

وعن هذه النهاية التي هي مزيج بين الخسران العاطفي والمكسب الإنساني يقول سيريس "يمكن فهم ما جرى كما لو أن بطل الرواية (الراوي) يثبت أقدامه هنا (ألمانيا) ويضع بصمته البيولوجية في نسيج المجتمع الألماني، والمهم أنه أصبح مقبولا ومرحبا به للاندماج ليس بيروقراطيا فحسب، بل كعنصر جديد في النسيج الإنساني والمجتمعي لهذا البلد وهو ما يمكن أن يعوض السوري خسرانه الفظيع لبيته وقريته وعالمه".

وعن الدلالة العامة لنص أوراق برلين يحكي سيريس "إن الحرب هي بالنتيجة شيء واحد أينما اشتعلت. هذه الرواية هي موقف ضد الحرب وليست مجرد قصة. عندما تشتعل الحرب في مكان معين فإن ضحاياها سيكونون من البشر والحجر كما يقولون. وإن ما رأيناه في حلب ليس شيئا خاصا بها، بل يمكن رؤيته في برلين أو فيتنام أو البوسنة والهرسك أو بيروت أو أي مكان آخر".

كما يشير سيريس إلى أن الرواية تقول الكثير عن موقف الشعب الألماني من "الآخر" سواء أكان لاجئا أو مهاجرا شرعيا. وهو ما يمكن الوقوف عليه في الرواية التي حاولت أن ترصد التحول الإيجابي في ذلك الموقف وتحاكيه من خلال ما رأيناه من تقبل وانفتاح لدى شخوصها الألمان على الآخر السوري.

المصدر : الجزيرة